منظرو الإسلام السياسي.. الأفكار والنشأة الاجتماعية

طارق حمو

لقد ساهم الدعاة والمنظرّون ضمن جماعات الإسلام السياسي في توطيد الأسس الفكرية والمنطلقات النظرية التي قامت عليها معظم هذه الجماعات حول العالم. فكانت كتب وأفكار هؤلاء بمثابة برامج عمل، وكانت فتاواهم وتفاسيرهم للدين والعالم والمجتمع هو المنهاج الذي سارت عليه جماعات الإسلام السياسي. وحتى الآن ما يزال المفكرون والدعاة والمنظرّون داخل جماعات الإسلام السياسي، يسيرون على هدى أفكار الرعيل الأول من الذين يقولون بان الإسلام دين ودولة، ويجب أن تٌحكم الدولة والمجتمع بالشريعة الإسلامية، واضعين بذلك مجموعة من التصورّات والقواعد لحكم الدولة والمجتمع الإسلاميين.

ونبدأ مع ابن تيمية الذي ألف كتبا كثيرة في الفقه والشريعة الإسلامية، أجمّل فيها آراءه وتفسيراته للنصوص الدينية، وكذلك الفتاوى التي أصدرها، والتي عالجت القضايا الخلافية في عهده. ومن أبرز كتب ابن تيمية: الأيمان الكبير، بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، السبعينية، اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم ( وهو كتاب يتحدث فيه عن مخاطر تشبه المسلمين باليهود والنصارى)، بيان الهدى من الضلال، معتقدات أهل الضلال، درء تعارض العقل والنقل، السياسة الشرعية لإصلاح الراعي والرعية، الصارم المسلول لشاتم الرسول، بيان تلبيس الجهمية، مجموع فتاوي ابن تيمية، نقض المنطق، الرد على المنطقيين، وغير ذلك كتب كثيرة في الفقه والتفسير والحديث.

 وتميّزت آراء ابن تيمية بالتشدد، وكانت، ومازالت، المرجع الأكبر للفكر المتطرف لأغلب جماعات الإسلام السياسي، ونقتبس بعض آرائه من كتبه، لكي نستدل على نزعة التشدد والتكفير التي كان يدافع عنها ويدعو إليها قادة وعوام المسلمين، ورفضه الشديد للمنطق والفلسفة وثباته على النص ودحض التأويل والاجتهاد. يقول ابن تيمية في كتابه ( اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) في وجوب عدم التشبه باليهود والنصارى ما يلي: “إني كنت قد نهيت: إما مبتدئا أو مجيبا عن التشبه بالكفار في أعيادهم. أخبرت ببعض ما في ذلك: من الأثر القديم، والدلالة الشرعية، وبينت بعض حكمة الشرع في مجانبة الكفار، من الكتابيين والأميين، وما جاءت به الشريعة من مخالفة أهل الكتاب والأعاجم” (1).

وتذهب آراء ابن تيمية في كل كتبه على هذا المذهب الرافض للآخر والقائم على التكفير واحتكار الحقيقة واعتبار اجتهادات الآخرين بدعة، إضافة إلى عدائه الكبير للفلسفة ورفضه القاطع لإعمال العقل مقابل النقل. وتٌعتبر فتواه الشهيرة حول رفض إسلام المغول من الفتاوي التي تعتمد عليها جماعات الإسلام السياسي في تكفير القادة والرؤساء في البلدان الإسلامية، ” فقد طٌلب من ابن تيمية أن يصدر فتوى حول ما إذا كان حكام ماردين المغول الذين اعتنقوا الإسلام، يمكن أن يعتبروا مسلمين حقيقيين. فأفتى بأنهم لا يمكن أن يٌعتبروا مسلمين لأنهم في ممارستهم في الحكم يخلطون الشريعة الإسلامية بالياسا، شريعة المغول. ولهذه الفتوى مدلولات حاسمة في القضايا السياسية الحديثة: فالحكام الحديثون الذين لا يتبعون الشريعة أو يطبقونها بصرامة، لا يكونون بمقتضاها مسلمين حقا. ومثل هذه الفتوى نادر في التاريخ الإسلامي، فإن تكفير مسلم يعلن إسلامه، خطيئة كبرى. وما كان ابن تيمية ليصدر هذه الفتوى إلا لأن المغول كانوا أعداء مرهوبين وقاهري الأمراء والمماليك وأراضيهم التي كانت موطنه. وهو بالتأكيد لم يمد هذه الإدانة لتشمل سلوك وحكم أمرائه المماليك أنفسهم الذين لم يكونوا دائما الأشد تمسكا بالسير على السراط المستقيم” (2).

ويقول الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل محقق كتاب ابن تيمية الموسوم ( اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) في تقديمه لأبن تيمية ما يلي: “إما جهاده بالقلم واللسان، فانه رحمه الله، وقف أمام أعداء الإسلام من أصحاب الملل والنحل والفرق والمذاهب الباطلة والبدع كالطود الشامخ، بالمناظرات حينا، وبالردود أحيانا، حتى فند شبهاتهم ورد الكثير من كيدهم بحمد الله. فقد تصدى للفلاسفة، والباطنية، من صوفية وإسماعيلية ونصيرية وسواهم، كما تصدى للروافض والملاحدة، وفند شبهات أهل البدع التي تقوم حول المشاهد والقبور ونحوها، كما تصدى للجهميّة والمعتزلة وناقش المتكلمين والأشاعرة. ولست مبالغا حينما أقول: انه لا تزال كتب الشيخ وردوده هي أقوى سلاح للتصدي لهذه الفرق الضالة، والمذاهب الهدامة التي راجت وبدأت تخرج أعناقها اليوم من جديد” (3).

والمتأمل في أفكار ابن تيمية يرى بأنها تأتي من نزعة خائفة على الدين من عدو متربص، يجب النيل منه وتحشيد المسلمين بالجهاد ضده، من أجل إنقاذ الدين وإخراج هذا العدو، لذلك تبدو آرائه متشددة، قتالية تركز على تحشيد المسلمين واستنهاض هممهم، ” ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إن ابن تيمية كان مؤسسا لسلفية جديدة في الإسلام تميزت عن سالفتها بمنزع جهادي متجه إلى الداخل لا إلى الخارج، منزع يعتبر أن الثغر الأول الأولى بالقتال من كل ثغر آخر هو الثغر الداخلي ـــــ الطابور الخامس باللغة الاستراتيجية الحديثة ـــــ المتمثل بفرق الإسلام المخالفة، وفي مقدمتها الشيعة الإمامية” (4). لقد تم التركيز على كتابات أبن تيمية بشكل واضح في مصر والهند، وكان لذلك “سبب سياسي أيضا، وهو اقتباس مواقفه ورؤاه فيما يخص الجهاد ضد المغول، وتحويله إلى نسخة معدلة للجهاد المعاصر، بما في ذلك وإعادة تعريف مصطلح “الجاهلية” (5).

واتهم ابن تيمية كل مخالف له بالرأي وبالاجتهاد، وكل معارض لفكره وآراءه بالكفر والخروج من الإسلام. في ذلك الوقت هاجم ابن تيمية الكثير من المسلمين وأخرجهم من الملة بسبب تضارب آرائهم مع آرائه. لقد نشر ابن تيمية ثقافة اللاتسامح بين المسلمين، و” أقيمت دعوته باختصار على مبدأين وهما: المسلمون لديهم الحق بل وواجب عليهم محاربة كل نظام إسلامي لا يطبق الشريعة الإسلامية ولا يعتمد القانون الإسلامي. عليهم أن يسعوا بكل جهدهم إلى محاربة هذا النظام وهدمه. والمبدأ الثاني وهو: على المسلمين إعلان الجهاد على كل من لا يعتقد بالإسلام كاليهود والمسيحيين، أو من حاد عن الإسلام الحقيقي وانحرف عنه” (6).أما محمد بن عبد الوهاب مؤسس المذهب الوهابي المتشدد، فمن أبرز مؤلفاته كتاب التوحيد، وكتاب كشف الشبهات، وكتاب الأصول الثلاثة، وكتاب كشف الشبهات، وكتاب مختصر الأنصاف، وكتاب أصول الإيمان، وكتاب القواعد الأربع، وكتاب فضل الآلام، وكتاب مسائل الجاهلية. وغير ذلك. ويٌعتبر محمد بن عبد الوهاب رمزا ومرجعا لكل شيوخ ومنظري الاتجاه السلفي الإسلامي المتشدد، حيث يقتفي هؤلاء أثره ويعتمدون على رؤاه وتفسيراته للشريعة، ومازالوا يحلمون بتطبيق كل أفكاره في معاداة الآخر المختلف والإجهاز عليه. وفي ذلك رأي يقول إن بن عبد الوهاب “قام مجاهدا، ليرد الناس إلى ما كان عليه سلفهم الصالح، في باب العلم النافع والعمل الصالح، والإيمان والإحسان، وترك التعلق إلى غير الله، من الأنبياء والصالحين وعباداتهم، والاعتقاد في الأخبار والأشجار، والعيون والغيران، وتجريد المتابعة لرسول الله، في الأقوال والأعمال” (7).

وما كانت للدعوة الوهابية التي أطلقها محمد بن عبد الوهاب لتنطلق كل هذه الانطلاقة وتتقوى بهذا الشكل، لولا التأييد السياسي العسكري من دولة آل سعود في شبه الجزيرة العربية، حيث رفعت هذه الدولة لواء المذهب الوهابي، بينما أيدّها الأخير بالفتاوى وطلب من جماهير المسلمين التمسك بها وعدم الخروج عليها وعلى حكامها بوصفهم من “أولياء الأمر” ويجب طاعتهم ما داموا مسلمين. وتعاضدت الدعوة بالقوة العسكرية والسياسية لآل سعود، وانعقد حلف بين الطرفين، لا يزال قائما، فدعوة بن عيد الوهاب ” أيدها الله تعالى بجماعة من أمراء آل سعود، كان أولهم الأمير محمد بن سعود، ثم أبنه عبد العزيز بين محمد، ثم ابنه سعود ابن عبد العزيز بن محمد بن سعود، وهكذا استوعبت القاعدة العريضة من أهل نجد وبلغت قمة السلطة مع الحكم السعودي في بلدان مكة المكرمة والمدينة المنورة، ثم انتشرت حتى عمت وعم سلطانها جميع أرجاء المملكة العربية السعودية، حتى إن بعض الباحثين في شئون الدعوات الإصلاحية يرون إن الحركة الوهابية (أو الدعوة السلفية) هي الدعوة الإصلاحية الوحيدة في العصر الحديث التي استطاعت أن تؤسس دولة تحكم بالإسلام”(8).

 أما مبادئ الدعوة الوهابية التي دعا إليها محمد بن عبد الوهاب وألزم أتباعه بالتمسك بها والسير على خطاها باعتبارها الفرقة الصحيحة في الإسلام، فهي: ” أولا: توحيد الله تعالى في عبادته، وتوحيده في ربوبيته، وتوحيده في أسمائه وصفاته، وإقرار هذا المبدأ قولا وعملا، والبعد عن جميع مظاهر الشرك والوثنية، والرفض والتصوف، والإلحاد والزندقة، التي تكدّر نقاوة الإسلام، وتشوّه جماله. ثانيا: التمسك بمنهج السلف المبني على الكتاب والسنّة في العقائد والأحكام، مع تقرير مبدأ الاجتهاد، والرد على التقليد الأعمى. ثالثا: الجهاد في سبيل الله، لنشر الدعوة حينا، ولحمايتها حينا آخر. أما مصادر الدعوة فهي: أولا: القرآن الكريم.

 ثانيا: السنّة النبوية. ثالثا: آثار السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم الأئمة الأعلام، خاصة الإمام أحمد بن حنبل، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه الإمام ابن قيم الجوزية” (9). ومن منظري جماعات الإسلام السياسي الباكستاني أبو الأعلى المودودي، ويٌعتبر أحد مرجعيات الحركات الإسلامية، ومن الذين وضعوا أسس العمل الجهادي الميّال إلى تطبيق العنف للوصول إلى الأهداف السياسية. وكان المودودي ناقدا دائما وحانقا على كل من يعتبر الإسلام إطارا نظريا ومجرد طقوس وعبادات، بل كان يعتبر الإسلام دينا ودولة، من الإيمان تطبيق كل تعليماته في الحياة اليومية، ووضع كافة مناحي الحياة تحت سيطرة الشريعة. وأعتاد المودودي نقد المسلمين لابتعادهم عن “جوهر الدين” وعدم إقتدائهم بالسلف الصالح وابتعادهم عن روح الشريعة. فهاهو يقول في هذا الصدد: “من نتائج الجهل والفوضى إن الذين يدعّون الإسلام ويزعمون أنفسهم مسلمين، يوجد فيهم أشنع ما يكون من أنواع الأوهام وعقائد الشرك، بل هم يعتنقون مبادئ ونظما تدعو صراحة إلى الإلحاد والدهرية والكفر بالله ولا يشعرون بان الإسلام الذين يدعّون اتباعه لا يتلاءم أبدا مع هذه الأفكار وان بينه وبينها ما بين السماء والأرض. والذي يٌبكي العين ويٌدمي القلب أكثر من ذلك، هو ما عليه حالتهم الخلقية والعملية، فقد تدهورت أخلاقهم، وراج فيهم أبشع ما يكون من العادات والتقاليد من أعمال الوثنية، إلى اقذر مظاهر الحضارة الغربية. ولا تكاد تشعر طائفية منهم ـبمدى انحرافها عن مبادئ ذلك القانون الذي تدعي الإيمان به. فتزدهر فيهم كل فترة خاطئة وكل طريقة زائفة من أين كان مأتاها، ويظنون أن الإسلام يتسعها، ويتزعمهم بكل سهولة كل منحرف مضلل يسلك مسلكا يٌبهر الأنظار”(10).

ونادى المودودي ب”الحزب الإسلامي” الذي لا بد وأن يقود الأمة الإسلامية إلى النصر وتأسيس دولة الخلافة، والتي بدورها عليها تطبيق الشريعة والاحتكام إلى مبدأ حاكمية الله، ومن ثم الانطلاق من هذه الدولة القطريّة إلى فتح كل العالم سواء كان ذلك باللسان أو بالسنان، لفرض الدين على كل البشر، وبالتالي استكمال الرسالة المحمدية، “إن الإسلام يهدف إلى سعادة جميع البشر وفلاحهم، وكل حكومة تقوم على غير فكرته ومنهاجه، يقاومها الإسلام ويعمل على القضاء عليها، إنه لا يقنع بجزء من الأرض وإنما يريدها كلها لترتفع عليها رايته، ويعمها جميعها الحرية والمساواة والسعادة، فالجهاد، وهو دائما في سبيل الله، كلمة جامعة تشتمل على جميع أنواع السعي وبذل الجهد، ومن ذلك القضاء على النظم الجائرة وإقامة نظام جديد أساسه العدل الذي يستظل بظله كل البشر. إن الحق يأبى الحدود الجغرافية، وأينما وجد الإنسان مقهورا، فمن واجب الحق أن يدركه وأن ينتصر له.

وإن من واجب “الحزب المسلم” ألا يقتنع بإقامة النظام الإسلامي في قطر بعينه، بل عليه أن يبسط نفوذه حتى يدين سكان المعمورة بالإسلام الذي فيه سعادة الدارين لكل من يدخل فيه”(11). ومن أبرز كتب المودودي التي صارت منهجا لحركات الإسلام السياسي بشتى تصنيفاتها: الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة. الإسلام والمدنية الحديثة. الخلافة والملك. بر الأمان. نحن والحضارة الغربية. مناهج الانقلاب الإسلامي. نظرية الإسلام السياسية….الخ. أما المصري سيد قطب فهو يعد بحق المنظر الأول لجماعات الإسلام السياسي المعاصرة. فهو المرجع الأكثر محورّية فيما يتعلق بأدبيات هذه الجماعات، وتكفير المجتمعات وإعلان الجهاد أو كما سماه “الفريضة الغائبة” عليهم. وتأثر قطب ب “الأفكار القومية والإصلاح والعمران على الطريقة الغربية، وكان يريد الاستفادة من التجربة الغربية في الديمقراطية والإصلاح والتطوير في عملية نهضة العالمين العربي والإسلامي” (12).

وقد تحوّل سيد قطب من النقد الأدبي إلى التفسير المتشدد للإسلام والتركيز على عوامل تأخر الأمة الإسلامية وذلك بشكل خاص بعد بعثة إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1948، فوجد أن السبب في تأخر المسلمين وتقدم غيرهم، هو ترك المسلمين”جوهر الإسلام” والركون إلى “المادية الغربية” فبدأت رحلة النكوص لديه، حيث اعتكف على دراسة النصوص الإسلامية وكتب المراجع، لكي يستنبط في النهاية آراء متشددة حول الآخر/الغربي، ويطالب المسلمين بالعودة إلى الإسلام واحتلال الصدارة في الحضارة مرة أخرى، وترك تقليد الغرب ونبذ ماديتهم. ونتيجة لهذا التفسير والتصور الذي طورّه، فإن العديد من المحللين “يرجعون جذور العنف الديني إلى فكر سيد قطب، وحكمه بارتداد المجتمع عن الإسلام، وتردي هذا المجتمع في الجاهلية لرفضه فكرة حاكمية الله وتفضيله حاكمية البشر. ودعا قطب إلى تكوين الجماعة المؤمنة الفريدة التي تنفصل عن هذا المجتمع الجاهلي شعوريا وتسعى إلى تغييره جذريا بالوسائل التي تراها مناسبة، بما في ذلك الطرق غير السلمية.

وأرجع كثيرون أسباب ظهور هذا الفكر إلى الظروف التي نشأ خلالها من سجون وتعذيب وعدم تصديق بأن من يقوم بهذه الأعمال الوحشية يمكن أن يٌعد من زمرة المسلمين” (13).وانشغل سيد قطب كثيرا بفكرة إعادة إحياء الخلافة الإسلامية وسيطرة المسلمين على الشرق والعالم، رافضا الواقع الحالي الذي يسوده الضعف والتشتت والخنوع، حيث انتهى في تأملاته وبحثه إلى ضرورة إحداث نهضة إسلامية كاملة تبدأ من مصر وتشمل كل الديار الإسلامية. وكان سيد قطب مهموما بالعالم الإسلامي والمكانة الضعيفة التي وصل إليها، مع تقدم الآخرين وتفوقهم الملحوظ، ومن هنا فقد بدا “سيد قطب في بحثه الحائر يضمن جميع أفكاره الرومانسية حول هوية الشرق وروح التقاليد المحافظة، ورفض الاستعمار على مبدأ الهوية، وسعيه لمشروع شامل للنهضة، وتقديسه لقوة المشاعر وسيلة وغاية لكل الأهداف، في خلال البحث توصل سيد قطب منذ بداية 1947 إلى قناعة مفادها ضرورة بعث الروح الإسلامية مرة أخرى، بعد أن خفتت شعلة النهضة التي أشعلها جمال الدين الأفغاني، والتي كانت في نظره مبعث كل تقدم شهدته مصر منذ ذلك الحين، في ذات الوقت الذي اعتبر فيه هذه النهضة “الأفغانية” إحدى اندفاعات روح الإسلام الحقة، التي توهجت للمرة الأولى منذ أربعة عشر قرنا، ذلك التوهج الذي اصبح في نظره ” أعلى مدى بلغتها البشرية في تاريخها كلها”. وهكذا يدخل الإسلام كشعار وعي سيد قطب ليتلبس بكل ما سبق له التوصل إليه فيصبح مصدر النهضة المقبلة، وأساس الثقافة السائدة المرتقبة، محملا في ذات الوقت بكل سخط سيد قطب على النظام” (14).

ويلجأ سيد قطب دائما إلى بث روح الفخار والاعتزاز في الأجيال الإسلامية الصاعدة، فهو يتحدث دائما عن شمولية الإسلام وصلاحه لكل وقت وزمان ولكل مجتمع وبيئة، ويٌظهر بأن العلاج كله لمشاكل العصر الكبيرة يكمن في التمسك بالإسلام وتنفيذ تعاليمه وشرائعه. وفي هذا الخضم لا ينسى قطب أن يسخر من الغرب المادي ويٌظهره على أنه مجتمع به أمراض باطنة لا خلاص منها سوى باللجوء إلى الإسلام والتسليم بقدرته الشفائية المطلقة، ” إن البشرية كلها في حاجة إلينا: في حاجة إلى عقيدتنا، في حاجة إلى مبادئنا، في حاجة إلى شريعتنا وفي حاجة إلى نظامنا الاجتماعي، الذي يكفل الكفاية لكل فرد، ويكفل الكرامة لكل إنسان، ويكفل سلام الضمير وسلام البيت وسلام المجتمع، كما يكفل السلام الدولي العام.

 ومن هذه الحاجة الإنسانية ــــ بعد عقيدتنا في الله ــــ نحن نستمد قوتنا وثباتنا على الدعوة إلى عقيدة الإسلام وشريعته ونظامه الاجتماعي الخاص، وسنثبت ــــ بعون الله ــــ ولو تخطفنا الشر والطغيان من كل مكان. إن مهمتنا أن نتميز وأن نحمل الشعلة للضالين في شعاب الأرض وفي متاهات الصحراء. إن مهمتنا أن ننقذ البشرية من الحمأة الآسنة التي تتمرغ فيها اليوم، لا أن نذوب معها في تلك الحمأة الآسنة. والله معنا، والبشرية كلها ستعرف يوما أن نبوءة الله حق ” وكذلك جعلناكم أمة واحدة لتكونوا شهداء على الناس” (15).وبدت هذه الأفكار المتشددة والنظرة الاستعلائية وتمجيد الذات مقابل الحط من شأن الآخر المختلف، مرجعا مغريا لجماعات الإسلام السياسي التي أرادت بهذه الأفكار استنهاض الهمم وتثوير الأمة على الواقع، ومن ثم الانطلاق إلى تطبيق مشروع الإسلام السياسي الأكبر الناشد لدولة الخلاقة وحاكمية الله، ومن هنا فقد اعتبرت كتابات سيد قطب ب”مثابة مانيفستو الحركات الإسلامية، وكتاب معالم في الطريق، هو في الحقيقة بالفعل معالم في طريق هذه الحركات وطريق مجتمعها الذي تتصوره. فكرة الأزمة وتدهور الأوضاع في المجتمعات الإسلامية تمثل هاجسا متزايدا بين الجماعات الإسلامية، والتي تساءلت منذ زمن عن أسباب تأخر المسلمين وتقدم الآخرين” (16).ويقول سيد قطب شارحا رؤيته للغرب وعلاقة المسلمين بهم: “إن قيادة الرجل الغربي للبشرية قد أوشكت على الزوال..لا لأن الحضارة الغربية قد أفلست ماديا أو ضعفت من ناحية القوة الاقتصادية والعسكرية… ولكن لأن النظام الغربي قد انتهى دوره لأنه لم يعد يملك رصيدا من “القيم” يسمح له بالقيادة.

 لابد من قيادة تملك إبقاء وتنمية الحضارة المادية التي وصلت إليها البشرية، عن طريق العبقرية الأوروبية في الإبداع المادي، وتزود البشرية بقيم جديدة جدّة كاملة ـــ بالقياس إلى ما عرفته البشرية ــــ وبمنهج أصيل وواقعي في الوقت ذاته. والإسلام، وحده، هو الذي يملك تلك القيم وهذا المنهج” (17).وإضافة إلى تمجيد الإسلام والدعوة إلى تطبيقه في الأرض والإشارة إلى “الجهاد” بوصفه طريقا وحيدا لفرض الشريعة ووضع حد لتدخل الغرب وإنهاء سطوته وجبروته، فأن سيد قطب لا ينسى اليهود بوصفهم أحد أكبر أسباب “تأخر الأمة الإسلامية”، حيث ألف كتابا خالصا عنهم، محذرا من كيدهم الرامي لشق صفوف الأمة وتفريق قدراتها، ومطالبا بالتصدي لهم ولكل من يدعو إلى صرف الأمة عن دينها، كما قال، ” فما يزال اليهود بلؤمهم ومكرهم يضللون هذه الأمة عن دينها، ويصرفونها عن قرآنها كي لا تأخذ منه أسلحتها الماضية، وعدتها الوافية، وهم آمنون ما انصرفت هذه الأمة عن موارد قوتها الحقيقية وينابيع معرفتها الصافية.

 وكل من يصرف هذه الأمة عن دينها وعن قرآنها فإنما هو من عملاء اليهود، سواء عرف أم لم يعرف، أراد أم لم يرد” (18).ومن خلال الأفكار الواردة نتلمس النزعة التكفيرية والنزعة اللاسامية في خطاب سيد قطب، ذلك الخطاب الذي ينطلق من قاعدتين الأولى ترمي لنسف أساس الآخر القيّمي والأخلاقي، والأخرى ترمي إلى تثبيت الإسلام الأصولي بوصفه المخلص والحل الوحيد. ومن أبرز كتب سيد قطب: في ظلال القرآن، معالم في الطريق، المستقبل لهذا الدين، العدالة الاجتماعية، الإسلام والسلام العالمي، معركتنا مع اليهود، قيمة الفضيلة بين الفرد والجماعة.وهناك أيضا حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر. ويٌعد هو كذلك من بين منظري جماعات الإسلام السياسي وتفعيل دور الدين في المجتمع ليكون رياديا قادرا على القيادة والإدارة، رافضا التغريب واللجوء إلى الحضارة الغربية والأخذ من نتاجها الفكري والقيّمي. وقد قدم حسن البنا دعوته بوصفها دعوة تجديد للديانة الإسلامية في عصر عاش فيه المسلمون في انحطاط سياسي وحضاري شامل، أراد لدعوته ان تكون تجديدا وثورة في الإسلام السائد،” تجلت بصيرة حسن البنا النافذة في أنه استطاع أن يقيم بناء جديدا للدعوة الإسلامية، وأن يقدم صياغة جديدة للفكر الإسلامي. واستطاع أن يرد للمفاهيم الإسلامية الصحيحة اعتبارها، بعد أن ظلت آمادا طوالا غائبة عن أذهان المسلمين البسطاء، قابعة في أدمغة القلة من المسلمين المثقفين(..) لقد بث حسن البنا الحياة والحركة في الإسلام من جديد بعد أن ظل آمادا طوالا متواريا عن الشعوب المسلمة والشعوب المسلمة نيام عنه ” (19).

ويلجأ حسن البنا، كما سيد قطب، إلى الهجوم على الغرب والطعن في حضارته وتفضيل الإسلام عليه، بوصفه منبعا صافيا للقيم والإيمان في مواجهة قيم الغرب المنافية للكرامة البشرية. وهو أسلوب يرمي إلى تشويه الآخر والطعن في إضافته الحضارية، قبل تقديم البديل الذي هو هنا التصور السياسي للإسلام، يقول البنا: “إن المدنيّة الغربية التي تتباهى بعلومها، والتي استطاعت أن تسيطر على العالم، تعاني الآن من الإفلاس والانهيار، ذلك أن أسسها السياسية قد انهارت تحت وطأة الديكتاتورية، وأنظمتها الاقتصادية تتداعى بفعل الأزمة، وكيانها الاجتماعي يتآكل، والناس هناك يسيطر عليهم الطمع والقهر. لقد بدأت قيادة العالم شرقية، ثم أصبحت غربية، ولقد حان الحين لينهض الشرق من جديد” (20).

وكان البنا يركز في كل كتبه وخطبه على شمولية الإسلام واحتواءه على كافة القوانين والشرائع التي تستطيع إدارة حياة الشعوب والمجتمعات في كل مكان. كما كان يرفض القول بأنه أتى بحزب أو جماعة، بل كان يركز دائما بأنه ينادي فقط بالإسلام الذي جاء به محمد ولم يبتدع شيئا. وكان حسن البنا يحاول النأي بنفسه عن التأطير السياسي المباشر، ويفضل بدلا عنه التغلغل في وجدان وعقول وحياة المسلمين دون الاصطدام مع السلطات والنظام في المجتمعات والدول المسلمة، ” لقد كان على البنا أن يخوض معركة حامية الوطيس، لمطاردة المفاهيم الخاطئة عن العلاقة بين الدين والسياسة، تلك المفاهيم التي غرسها الجهل والهوى، وتعهدها الاستعمار الثقافي بالسعي والرعاية حتى تغلغلت جذورها وامتدت فروعها. وكان لابد من حرب الفكرة الخاطئة بالفكرة الصحيحة وهي “شمول الإسلام” لكل جوانب الحياة…ومنها السياسية، كما دل على ذلك القرآن والحديث، وهٌدى الرسول وسيرة الصحابة، وعمل الأمة كلها طيلة ثلاثة عشر قرنا أو تزيد. وللإمام الشهيد في ذلك كلمات تكاد تكون محفوظة لدى جمهور الإخوان، ومن ذلك قوله في إحدى رسائله” إذا قيل لكم: إلا ما تدعون؟ فقولوا: نحن ندعو إلى الإسلام الذي جاء به محمد(ص) والحكومة جزء منه، والحرية فريضة من فرائضه.

 فإن قيل لكم هذه سياسة فقولوا: هذا هو الإسلام، ونحن لا نعرف هذه الأقسام” (21).وكانت سياسة التعويم وعدم المجاهرة بنوايا الجماعة في إحداث التغيير السياسي والاجتماعي الشامل، الذي قدمت له الجماعة تفسيرا في أدبياتها، قد جعلت من الكثيرين يتوقفون على حالة “التقية” والتهرب من المواجهة والميل إلى المراوغة التي ظهرت عند حسن البنا، ” يلجأ الشيخ حسن البنا في مسألة العلاقة بالسياسة بالذات إلى التعمية والغموض ويتعمد التعميم والألغاز” هل نحن طريقة صوفية، جمعية خيرية، مؤسسة اجتماعية، حزب سياسي، نحن دعوة القرآن الحق الشاملة الجامعة،  نحن نجمع بين كل خير”. لكنه لا يلبث أن يقول” إن الإخوان دعوة سلفية، طريقة صوفية، هيئة سياسية، جماعة رياضية، رابطة علمية ثقافية، شركة اقتصادية، فكرة اجتماعية”. ثم يعود البنا إلى إنكار كلماته، ليلتوي بالألفاظ في اتجاه معاكس ” أيها الإخوان انتم لستم جمعية خيرية، ولا حزبا سياسيا، ولا هيئة موضعية الأغراض محدودة المقاصد، ولكنكم روح جديد، ونور جديد وصوت داو”،(..)، ولا يملك الباحث سوى الحيرة…هل كان الأمر يحتمل كل هذا التخبط أم انه تخبط مخطط ومقصود…فإذا ما حاصر السؤال المحدد “الشيخ” أجاب في براءة “ليس هناك دين وشيء اسمه سياسة، هذه بدعة أوروبية”.

ولا يكون أمام أي باحث مهما كان محايدا إلا ان يفترض ان الشيخ كان يتعمد الخلط والمراوغة. وتصف باحثة غربية هذا الأسلوب بأنه “أسلوب ذو فاعلية واقتدار فهو يؤكد على الطابع الديني للجماعة إذما جابهه في الحكومة رئيس قوي، ولكنه لا يلبث أن ينغمس في الصراعات السياسية إذما وجد أمامه رئيسا ضعيفا للحكومة ” (22).ورغم كل هذه “التقيّة” التي ربما تكون، سياسيا، مبررة في تلك الأيام، إلا أن الهدف الأسمى والأكثر وضوحا لدى البنا وجماعة الإخوان المسلمين، كان دولة الشريعة وحاكمية الله على الأرض، ” ولقد لخص حسن البنا جوهر دعوة الإخوان المسلمين في النقاط التالية:” أن يتحرر الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي(…) وأن تقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلامية حرة تعمل بأحكام الإسلام وتطبق نظامه الاجتماعي وتعلن مبادئه القويمة وتبلغ دعوته الحكيمة للناس”. والسبيل إلى ذلك حدوث يقظة روحية، و” صحوة حقيقية في الوجدان والمشاعر”، وفي نفوس المؤمنين بهذه الدعوة، يقومون ببثها في المجتمع على مراحل يتحقق خلالها وجود الفرد المسلم ثم الأسرة المسلمة، ثم المجتمع المسلم. وهذا بدوره يؤدي إلى تحقيق “الغاية”، وهي أن تقوم ” في مصر دولة مسلمة تحتضن دعوة الإسلام وتجمع كلمة الأمم العربية وتعمل لخيرها، وتحمي المسلمين في أكتاف الأرض من عدوان كل عدوان وتنشر كلمة الله وتبلغ رسالته حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله” (23).

أما كل من البيئة الاجتماعية والمرحلة التاريخية والأحداث السياسية التي حفلت بها هذه المرحلة، وهذه البيئة بالتالي، فقد لعبت دورا كبيرا في تكوين شخصية منظري وروّاد جماعات الإسلام السياسي. فالحروب الدينية ومظالم الحكام وانتشار البدع والآراء والمدارس التفسيرية، بالإضافة إلى تضعضع العالم الإسلامي واندثار الدولة المركزية القوية التي كانت تحكم باسم الدين وتطلق على نفسها اسم الخلافة الإسلامية، أثرت كبيرا في تشكيل وعي وتفكير الرعيل الأول من مفكري ومنظري وروّاد جماعات الإسلام السياسي. وسوف نأخذ بعض الأمثلة لبعض الشخصيات القديمة والحديثة من المؤثرين في مسيرة جماعات الإسلام السياسي، لكي نستدل على تأثير النشأة الاجتماعية والظروف المحيطة بهم على تشكيل شخصيتهم المتزمتة وبالتالي نوعية فتاويهم وأفكارهم المتأثرة بعصورهم والأوضاع الاجتماعية والسياسية السائدة فيها. ونبدأ مع ابن تيمية، فمن يتتبع سيرته والمجتمع الذي عاش فيه وعايشه سوف يلم ببعض أسباب التشدد والخشونة في موقفه من الآخرين، فعصره كان عصر حرب واضطراب، وهو ما دعاه إلى التمسك بالتفسير المتشدد بغية حماية الدين من البدع والأيدي الخارجية، وكان عنيدا، ” قد ينم أسلوبه الصدامي المستمر والشرس عن لوثة وسواسية ما في شخصيته، وهو لم يتزوج ولم يتسرّ بل انه ذم اللذة والمتعة الدنيويتين، وكره النظر إلى الأزهار إلا عند الضرورة، وتزّمت في مجريات الحياة اليومية” (24).ومن يلقي نظرة على العصر الذي عاش فيه ابن تيمية وخرج فيه على العالم الإسلامي بعلومه وفتاويه، سوف يجد بأنه قد تأثر كثيرا بما يجري، ووجد في نفسه المسؤولية لحمل لواء الإصلاح ــــ من وجهة نظره بالطبع ــــ من أجل إنقاذ الأمة من العدوان الخارجي والتضعضع الداخلي،” نشأ شيخ الإسلام في عصر كان يموج بالاضطراب الديني والسياسي، وتعرضت فيه البلاد الإسلامية لغزوها من الداخل والخارج، ومني الإسلام فيه بأخطار عظيمة، ومنها:

 ـ غزو الصليبيين بلاد المسلمين.ـ وخيانة الفاطميين بانحيازهم إلى الصليبيين ضد المسلمين.ـ وغزو التتار/المغول للبلاد الإسلامية.ـ والانقسام الداخلي في دول المسلمين.ـ  وفساد الملوك والأمراء، وبٌعدهم عن الإسلام.ـ وشيوع التقليد الجامد، بحيث بدأ كل مذهب فقهي يٌعتبر دينا مستقلا بذاته.ـ وانتشار الشعوذة والهرطقة والإلحاد والزندقة، في أوساط المسلمين، بتأثير من أصحاب البدع والأهواء من الشيعة والرافضة، والصوفية والباطنية” (25).

أما محمد بن عبد الوهاب، فقد أثرّت البيئة الاجتماعية على تكوينه الفكري كثيرا. لقد جعلت البيئة الصحراوية المنغلقة والبعيدة عن الاحتكاك بالآخر وبنتاجه الحضاري، جعلت من التمسك بالسائد الجامد أمرا مسلما به وبديهيا، ونرى توصيفا أصوليا للبيئة الاجتماعية التي استلزمت خروج شخص مثل محمد بن عبد الوهاب ودعوة مثل دعوته، ” كان قد غلب على الأكثرية ما كان عليه أهل الجاهلية، وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان، وغلب الجهل والتقليد والإعراض عن السنّة والقرآن، وشب الصغير وهو لا يعرف من الدين إلا ما كان عليه أهل تلك البلدان، وهرم الكبير على ما تلقاه عن الآباء والأسلاف مرفوعة الأعلام، وأحاديث الكهان والطواغيت مقبولة غير مردودة ولا مدفوعة. قد خلعوا ربقة التوحيد والدين، وجدّوا واجتهدوا في الاستعانة والتعلق بغير الله من الأولياء والصالحين، والأوثان والأصنام والشياطين” (26).

وهناك من يتحدث عن “بدائية” وفقر أفكار محمد بن عبد الوهاب وينفي وجود أي جديد فيها، ناهيك عن وسمها بالدعوة الإصلاحية جاءت في بيئة هامشية منغلقة، “إن معالجة ابن عبد الوهاب للمسائل الكلامية المترتبة على موقفه ـــ كالقدر والصفات الإلهية ـــ معالجة يمكن توسم بالبدائية والفقر وقلّة الاطلاع، وهي وإن قورنت بكتابات حنبلي كبير مؤثر في فكر الشيخ كابن تيمية، تبدو وكأنها تمارين كتابية تعكس بيئة هامشية بعيدة عن التمدن ومنقطعة عن التراث الفكري للإسلام” (27).  ويتفق الباحث الحقوقي هيثم مناع مع هذا الرأي حينما يقول: ” ليس بالإمكان اعتبار الوهابية تجديدا في الإسلام بقدر ما هي استمرارية أمينة للحنبلية مترجمة في كتابات ابن تيمية، ولا تتعدى أطروحات الشيخ النجدي ما فشل الشيخ الدمشقي في تحقيقه في سورية قبل ولادة الوهابية بأربعة قرون” (28).أما أبو الأعلى المودودي فكان بدوره ابن بيئته. فلقد تأثر كثيرا بالأوضاع الاجتماعية والسياسية في الهند، وكان يلجأ إلى الإسلام كملاذ آمن ومرجعية جامعة للمسلمين الهنود في وجه نزعة الاستقلال والأغلبية الهندوسية، ” لقد أثرت البيئة السياسية التي عاشها المودودي على فهمه للإسلام، خاصة فيما يتعلق بطبيعة الساحة الهندية والصراعات والتحديات التي أحاطت بها.

كان يرى أن التحديات التي تواجه المسلمين الهنود تتمثل في الاستعمار الإنكليزي، ثم في مواجهة قهر الأغلبية الهندوسية وحملات التغريب، وتذويب الهوية والشخصية الإسلامية في الهند. في هذا المجال ناضل المودودي نضالا “انفصاليا” وهو ما يخالف طبيعة الإسلام التوحيدية والشمولية، لكنه كان نضالا لحماية الذات والهوية. انه مناخ الحصار حيث يعيش المودودي عقدة الاضطهاد الاستعماري وقهر الأغلبية الهندوسية التي ترفع شعار (السيادة للأمة والدولة الديمقراطية)، وهذه الشعارات إذ ما طبقت كان يرى إنها ستحول المسلمين الهنود إلى أقليات وجاليات مقهورة مغلوبة على أمرها. في ظل هذا المناخ بدأ باستخدام مفهوم “الجاهلية الجديدة” و”الحاكمية لله” بكثافة (29).

 كذلك تأثر سيد قطب بالبيئة الاجتماعية التي عاش فيها، وترك الفقر أثرا كبيرا على نفسيته وعلى تشكل أفكاره وتحديده لرؤاه حول العالم والمجتمع، بحيث غدا ميالا إلى المراجعة الدائمة وتفضيل الإصلاح الاجتماعي، الذي لا بد أن يأتي عن طريق التمسك بتطبيق الشريعة والاحتكام إلى عدالتها على كل أمر آخر، لاسيما الفنون والكماليات ومظاهر الرفاه والحضارة الغربية، وربما يمكن إرجاع اهتمام سيد قطب بقضايا الإصلاح الاجتماعي إلى “زمن احتكاكه في طفولته بالفقر المدقع متجسدا في عمال التراحيل الذين كانوا يفدون على قريته للعمل بها في المواسم. إذ ترك ذلك الاحتكاك في نفسه أثرا عميقا من الشعور بالخجل مما يتمتع به من ظروف مواتية بالمقارنة بأحوالهم(…)، كما يمكن تبيّن بعض إرهاصات هذا الاهتمام في كتاباته خلال الثلاثينات، حين كان سيد قطب يوجه سهام النقد بين حين وآخر إلى الأحوال الإجماعية، الأخلاقية بصفة خاصة (..)، غير أن اهتمام سيد قطب المكثف بقضايا الإصلاح الإجماعي بدءا من عام 1949 لا يمكن فهمه بمعزل عن نشاط المثقفين الكبير في هذا المجال، خصوصا بعد عام 1936، وظهور الفكر الاشتراكي على الساحة، وطرح عدد من البرامج الليبرالية المحافظة للإصلاح الاجتماعي آنذاك” (30).

وتطور هذا الشعور مع سيد قطب منذ صغره وهو يشاهد مآسي ومعاناة العمال والفلاحين المضطهدين في القرى والأرياف، إلى شعور أكبر تخلله حس بالمسؤولية، وتصاعد هذا الشعور عندما سافر الفتى إلى القاهرة حيث هناك البيئة الأكبر، وبالتالي المشاهدة الأكثر وضوحا للمعاناة والتفاوت الطبقي بين الناس، حيث نمت أحقاد سيد قطب وشعوره بالغبن ضد الاستغلال والنظام الاجتماعي والاقتصادي القائم على اللاعدالة والاحتكار، “وحين هاجر إلى المدينة (القاهرة)، خاطبها فوصفها إنها ” قبيحة، شائهة، شقية، بائسة، فقيرة، معذبة، جاهلة متخلفة، يفوح منك الأسى، وينضح عليك الشجن، وتدوي الصرخات الأليمة في ربوعك، وتكمن الآفات الوجيعة في ضلوعك”(…) تلك كلمات صاغ بها قطب ملامح البنية الاجتماعية في مصر بقلب المشارك لا بعقل المشاهد، لأنه عاش تفاصيلها أيام طفولته بقرية موشا، وهاجرت معه إلى القاهرة حين قصدها طلبا للعلم وشغفا بالسؤال” (31).

ونفس هذا التأثير نجده قد وقع على حسن البنا في طفولته، حيث عاش مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حياة الفقر التي جعلته يعود إلى الأصول مبكرا، فيحتار بين التيارات الإسلامية كالصوفية والسلفية النصائحية، ومن ثم السلفية القائمة على “التغيير باليد”، و” من الكتّاب إلى المدرسة الابتدائية في سن الثانية عشرة، وهناك التقى بمدرس متدين آخر ضمه إلى جماعة بالمدرسة أسمها “جماعة السلوك الاجتماعي” وهي جماعة استهدفت ترويض نفوس أعضائها وإلزامهم بالتحلي بالأخلاق الحميدة في سلوكهم اليومي والتعفف عن الشتائم أو مخالفة تعاليم الدين، وكانت الغرامات المالية المرهقة بالنسبة لتلاميذ فقراء هي سلاح الإرغام في يد الجماعة. وسرعان ما أصبح الفتى المتدين ابن الشيخ المتدين تلميذ معلم الكٌتاب المتدين رئيسا للجماعة، وسرعان ما اكتشف أيضا ضعف منطلقات الجماعة فأسس مع عدد من زملائه الأكثر حماسا “جماعة النهي عن المنكر” وكان هدفها فرض الالتزام بتعاليم الدين من خلال توجيه خطابات تهديد إلى من ترى أنهم من بين سكان المدينة ولا يلتزمون بهذه التعاليم” (32).

وهكذا نجد حسن البنا وهو ينحدر من بين الأفكار لينتهي إلى المتشدد منها، والتفكير في ضرورة التدخل لمنع “انتشار الفساد” داخل المجتمع، ومن هنا “يصل الريفي النزعة إلى قاهرة العشرينيات، والتي كانت تموج بصراعات حزبية مريرة وبتيارات علمانية عارمة وباتجاه قوي نحو المدينة الحديثة.. وفي أثناء ذلك كانت الثورة الكمالية تلهم الليبراليين ودعاة التجديد المزيد من الشجاعة، والمحافظين دعاة الخلافة المزيد من السخط والتشدد…وتلفت الفتى حوله بعين متشكك يرى في كل ما حوله “إضعافا لشأن الدين” (33).

وهكذا نرى بأن التأثير الكبير للأوضاع الاجتماعية وللمظالم التي حاقت بالناس من خلالها حيث اللامساواة واللاعدالة، ومن ثم الابتعاد عن التمسك بالإسلام مرجعا عاما أوحدا في الحياة اليومية، والنظم السياسية الشمولية التي استهترت بحياة ومستقبل الناس، كل ذلك أثر على شخصيات دعاة فكرة الإسلام السياسي، والذين وجدوا في التمسك بروح الإسلام والرجوع إلى الأصول واحتكام الشريعة في مجمل مناحي الحياة، ردا على هذا الواقع الاجتماعي المتردي، ووجدوا أنفسهم معنيين بتغيير هذا الواقع عبر إحداث ثورة عن طريق الإسلام والنص الإلهي وإخضاع الجميع لدولة الخلافة، حيث ينتشر الإسلام الصحيح وتعم العدالة وتتقوى الأمة وترهب أعدائها في الداخل والخارج.

المصــــــــادر:

 1ـ ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، تحقيق وتعليق د. ناصر بن عبد الكريم العقل، الرياض، السعودية، بدون اسم المطبعة أو تاريخ النشر، مكتبة الرشد، ص 60.

2ـ زبيدة، سامي، الإسلام: الدولة والمجتمع” ترجمة عبد الإله النعيمي، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، دار المدى للطباعة والنشر 1995 م، ص 38 و 39.

 3ـ نفس المصدر السابق. ص 11ـ12.

4ـ طرابيشي، جورج، هرطقات: عن العلمانية كإشكالية إسلامية ـ إسلامية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، دار الساقي 2008 م، ص 41.

 5- Ayubi, Nazih: Politischer Islam: Relegion und Politik in der arabischen Welt. Freiburg, Deutschland,  Herder Verlag 2002. S 184.

6- Gabriel, Mark A: Islam und Terrorismus. München, Deutschland, Resch Verlag 2005. S 135.

 7ـ العبود، صالح بن عبد الله بن عبد الرحمن، عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، من إصدارات الجامعة العلمية بالمدينة المنورة 2002 م، ص 11.

8ـ حسين، عماد علي عبد السميع، الأصولية الإسلامية والأصوليات الدينية الأخرى، بيروت، لبنان، بدون تاريخ النشر، دار الكتب العلمية، ص 37.

9ـ أحمد، صلاح الدين مقبول، دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها على الحركات الإسلامية المعاصرة وموقف الخصوم منها”، الجهراء، الكويت، الطبعة الثانية، دار ابن الأثير 1996 م، ص 129 و 130.

10ـ المودودي، أبو الأعلى، الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة، الكويت، الطبعة الرابعة، دار القلم 1980 م، ص 16 ـ 17.

 11ـ طبلية، القطب محمد القطب، الإسلام وحقوق الإنسان: الجهاد، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، إصدار خاص 1989 م، ص 80.

12- Schumann, Simon: Moderne und Fundamentalismus bei Sayyid Qutb. Eine Magisterarbeit an die Ludwig-Maximilians- Universität München. Norderstedt, Deutschland, Grin Verlag , 1 Auflage 2001. S 4.

13ـ مجموعة مؤلفين، الحركات الإسلامية وأثرها في الاستقرار السياسي في العالم العربي، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية 2002 م، ص 102 و103.

14ـ يونس، شريف، سيد قطب والأصولية الإسلامية، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، دار طيبة للنشر 1995 م، ص 61ـ62.

 15ـ قطب، سيد، نحو مجتمع إسلامي، القاهرة، مصر، الطبعة العاشرة، دار الشروق 1993 م،  ص 12ـ13.

16ـ علي، حيدر إبراهيم، أزمة الإسلام السياسي، القاهرة، مصر، الطبعة الرابعة، مركز الدراسات السودانية 1999 م، ص 20.

17ـ قطب، سيد، معالم في الطريق، بيروت، لبنان، الطبعة السادسة، دار الشروق 1979 م ، ص 4.

18ـ قطب، سيد، معركتنا مع اليهود، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية عشر، دار الشروق 1993 م، ص 20.

19ـ السمان، محمد عبد الله، حسن البنا..الرجل والفكرة، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، دار الاعتصام 1978 م، ص 31.

20ـ البنا، حسن، الرسائل الثلاث، القاهرة، مصر، دار الشهاب، بدون تاريخ نشر، ص 87.

21ـ القرضاوي، يوسف، التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا، القاهرة، مصر، الطبعة الثالثة، مكتبة وهبة 1992 م، ص 53.

22ـ السعيد، رفعت، حسن البنا: متى وكيف ولماذا؟، دمشق، سوريا، الطبعة العاشرة، دار الطليعة الجديدة 1997 م، ص 124ـ125.

23ـ مجموعة مؤلفين، الحركات الإسلامية وأثرها في الاستقرار السياسي في العالم العربي، مصدر سبق الإشارة إليه، ص 36.

24ـ العظمة، عزيز، ابن تيمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، دار رياض الريس 2000 م، ص 11ـ12.

25ـ مقبول أحمد، صلاح الدين، دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها على الحركات الإسلامية المعاصرة وموقف الخصوم منها”،الكويت، الطبعة الأولى، دار ابن الأثير، 1996 م، ص 77.

26ـ ضاهر، محمد كامل، الدعوة الوهابية وأثرها في الفكر الإسلامي الحديث، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، دار السلام للطباعة والنشر 1993 م، ص 26.

27ـ العظمة، عزيز، محمد بن عبد الوهاب، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، دار رياض الريس 2000 م، ص 11.

28ـ منّاع، هيثم، الأصوليات الإسلامية وحقوق الإنسان، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان 1999 م، ص 67.

29ـ مجموعة باحثين، “السلفية: النشأة، المرتكزات، الهوية”، الكويت، الطبعة الأولى، معهد المعارف الحكمية 2004 م، ص 63.

 30ـ يونس، شريف، سيد قطب والأصولية الإسلامية، مصدر سبق ذكره، ص 56.

31ـ حافظ دياب، محمد، سيد قطب: الخطاب والأيديولوجيا، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، دار العالم الثالث، بدون تاريخ النشر، ص 22.

32ـ السعيد، رفعت، حسن البنا: متى وكيف ولماذا؟، دمشق، سوريا، الطبعة العاشرة، دار الطليعة الجديدة 1997 م، ص 57. 33ـ نفس المصدر، ص 58.

* باحث في الإسلام السياسي. من فريق عمل المركز الكردي للدراسات.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد