د. بدرخان علي
نجح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تحصيل موافقة روسيّة و أمريكيّة وإيرانيّة لإطلاق حملته العدوانية على عفرين بعد أن جعلها في الفترة السابقة مشروع حياته السياسية أو مسألة حياة أو موت لسياسته في سوريا التي تمحورت حول القضية الكردية في سوريا وحسب منذ أمد، تاركاً كل ما عداها للاعبين آخرين، حتى إنجاز هذا الهدف على الأقل . ولأنها مسألة أمن قوميّ تركيّ، كما يزعم السيد أردوغان، ومسألة طموح شخصيّ أيضاً فإن الخطاب الديماغوجي والشعبوي المعهود للسيد أردوغان يحتاج إلى شحن إضافي وتصعيد أكثر ونبرة مرتفعة أكثر سواء كان موجهاً للداخل التركي أو لجنوده السوريين على حد سواء.
وفي اللحظة الأولى لإطلاق هذه الحملة العسكرية الهائلة كانت إحدى المفاجآت الرمزية في مسماها الصادم والمُخادِع “غصن الزيتون”. فغصن الزيتون الذي يرمز إلى السلام والأمان بات عنواناً لحملة عسكرية تستخدم فيها كافة صنوف الأسلحة الثقيلة ضد منطقة آمنة و آهلة بالسكان.
وبما أن الحملة على هذا القدر من الأهمية في مشروع أردوغان الشخصيّ الطامح إلى زعامة تركية غير تقليديّة، من وزن مكانة مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركيّة في الوجدان التركي، فلزامٌ عليه أن يحشد وراءه القطاعات المتدينة والقوميّة على حد سواء. فهو يخاطب الحساسيات الدينية بكثافة وأينما تطلب، وهذه المرة شحنها بمعانٍ جهاديّة واضحة .ففي معرض تبريره للاسم الغرائبي لحملته العسكرية (غصن الزيتون) قال السيد أردوغان أن “الزيتون مباركٌ في عقيدتنا و الله عز وجل ذكره في القرآن الكريم ومن أجل أن يكون بشرى لجنودنا”، لا لأن عفرين تشتهر بزيتونها قبل أي شيء آخر عى سبيل المثال. و في الأساس يشير الزيتون الوارد في الآية القرآنية إلى الأمان لا إلى الحرب. وعشيّة إطلاق الحملة كان هناك مصلّون في 90 ألف مسجداً بتركيا يبتهلون بالدعاء للجنود الأتراك بالنصر ويتلون سورة “الفتح”، بتنظيم من رئاسة الشؤون الدينيّة الرسميّة.
وبينما يقتل الجيش التركي أطفال عفرين ومدنيّيها العزّل، بأسلحة وخبرات الحلف الأطلسي (الناتو) وإسرائيل وموافقة روسية وأمريكية، يصرّح الرئيس أردوغان أنه يحارب “الصليبييّن” في عفرين !. ومفردة “الصليبييّن” باتت دارجة على لسان أردوغان، يرميها في وجه كل من يعارض سياساته من الغرب، وسبق له أن وصف الاتحاد الأوربيّ بتحالف الصليبيّين المعادي للإسلام، والكلمة من القاموس المتداول عند الحركات الجهادية الإسلامية المعاصرة. كما سبق له أن أتهم أعضاء ومناصري حزب العمال الكردستانيّ في تركيا بأنهم كفّار وملاحدة وبأنهم يسعون لتخريب عقول المسلمين بتدريس كتب الزرداشتية بدل القرآن، مستغلاً علمانية الحزب ، بغية استمالة أصوات القطاعات المتدينة و المحافظة والمترددة في المجتمع الكرديّ لصالحه وقد نجح في ذلك إلى حد بعيد. أما رئيس هيئة الشؤون الدينية ورئيس البرلمان التركي فقد وصفا العدوان على عفرين بأنه ( جهاد في سبيل الله) .
كذلك عرضت مواقع تركية مقربة من الحكومة صور تثبت تجنيد أفارقة وأفغان الى جانب سوريين وأتراك للجهاد في عفرين .
بيد أن هذا الخطاب بما يتضمن من إحالات دينيّة وجهادية متكرّرة لا يكفي لوحده، وتشكل إثارة الحساسيات القوميّة في المجتمع التركيّ ضرورة قصوى لحملة أردوغان على عفرين، وكذلك لحملته الانتخابية الانتخابية المقبلة. و هنا بوسعه استمالة القوميين المحافظين ( حزب الحركة القومية MHP) وليس القومييّن المتشدديّن علمانياً ( حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي) الذين يتحفظون على مجمل سياسات أردوغان السورية والداخلية رغم أن الحزب الأتاتوركي لا يستطيع إبداء معارضة قوية لعملية تقوم بها المؤسسة العسكرية؛ فهذه من المحظورات، كما لا يزعجه الهجوم على الأكراد أينما كان، لكن لا يستطيع مجاراة خطط أردوغان وحزب العدالة والتنمية في جميع سياساته… ففي تصريح مثير للسيد أردوغان ربط فيه بين عملية عفرين ومضي تركيا صوب هدف “التفاحة الحمراء” أو “الطورانية” وهي الحركة القوميّة التوسعيّة العنصرية القائمة على تصوّر إمبراطوريّ يشمل جميع أبناء العرق التركيّ في كافة أنحاء العالم . وهكذا تمكّن أردوغان، عبر التركيز على الأمن القوميّ التركيّ و حدّة نبرة الخطاب القوميّ، من تأمين أصوات حزب الحركة القومية وزعيمه دولت بهجلي الذي أبدى موافقته وإعجابه بالحملة ورأى، من بين ما رأى، أن اسمها ( غصن الزيتون) مناسب جداَ! ونتيجة لهذه المواءمة بين الخطاب القومي الطورانيّ المتطرّف للسيد أردوغان وخطابه الدينيّ المحافظ بتنا نسمع في الآونة الأخيرة مصطلح ( الذئاب المحمديّة أو الجيش المحمّدي) في الإعلام التركي شبه الرسمي والمقرب من الحزب الحاكم للإشارة إلى الجنود الأتراك المشاركين في عملية عفرين، وهو كما يتضح من اسمه نتيجة للدمج بين ( الذئاب الرماديّة) وهي ميليشيا سرّية قومية متطرّفة ارتكبت عمليات دمويّة في داخل تركيا وخارجها، ومفردات الإسلام السياسي الجهاديّ.
وجرياً على تطرّفه القومي زعم السيد أردوغان مخاطباً الداخل التركي وسورييّه معاً أن :
(55% من أهل عفرين عرب و 35% أكراد جاؤوا لاحقا والهدف الأساسي لعملية عفرين هو إعادتها لأصحابها الأصليين ) وهذه النسب السكانية لمنطقة عفرين التي يوردها السيد أردوغان يخشى أيّ بعثيّ سوريّ معتّق أن يقولها، فيما خصّ منطقة عفرين ذات الغالبية الكردية التامة أو المطلقة . لكن قوله “إعادتها إلى أصحابها الأصليين” توحي ببرنامج تهجير سكانيّ واسع النطاق كهدف للحملة، سيما وأنه كرّر عبارة إسكان اللاجئين السوريين في عفرين ومنبج وغيرها من المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سورية الديمقراطية.
جديرٌ بالذكر أنه كثيراً ما يقال أن السيد أردوغان يسعى لعثمانية جديدة في المنطقة . هذا صحيح إلى حدٍ ما، لكن ليس في المجال الكرديّ أبداً . ففي الحقبة العثمانية كان هناك اعتراف بالإمارات والحكومات المحليّة الكردية، رغم أنها لم تخل من التوترات والصراعات والتمردات على السلطنة. فقد اعترف العثمانيون باسم “كردستان” وأطلقوها على أجزاء من كردستان العثمانية واعترفوا بالأمراء الأكراد حكاماً للولايات الكردية بموجب نظام حكم ذاتي لامركزي . وبالنسبة لموضوع حديثنا هنا عن منطقة عفرين التي يدعي أردوغان تلك المعلومات المغلوطة عنها، الواردة أعلاه، عن قصد، فحريّ به أن يتذكر “عثمانيّته” هنا، فـ”أجداده العثمانيّون” أطلقوا على هذه المنطقة اسم ( كرداغ) التي تعني حرفياً ( جبل الكرد/الأكراد) دلالة على هوية سكانية إثنية للمنطقة، وظلت معروفة بهذا الاسم لوقت طويل، واللفظة دارجة حتى الآن للدلالة على المنطقة أو أهلها ( كرداغ، كرداغي ..) . فلماذا يتناسى السيد أردوغان بعض هذه الجوانب من التاريخ العثمانيّ؟ أفترض أن الخيط الذي يربط أردوغان بالعثمانيين هو المرحلة القومية، أي حقبة سيطرة الاتحاد والترقي /تركيا الشباب، أكثر من مرحلة النظام اللامركزي والاعتراف بالحكم الذاتيّ الضمنيّ للقوميات . ومعلوم أن منظمة تركيا الشباب/ الاتحاد والترقي تتحمل مسؤولية أبشع مراحل التاريخ التركي/ العثماني، وهي الإبادة الأرمنية . وقد مزج أردوغان هذا الفكر القوميّ المتطرّف، وإن بجرعة مخفّفة، بإسلامويّة ” إخوانية” وجهادية لا تُخفى على المتابع . وفي انتهازية واضحة منه يختار أحد هذين العنصرين ( القومي، الإسلاموي) ما يناسب اللحظة والمكان التي يخطب فيها وحسب الجمهور.
أما في الجانب السوري المشارك في الهجوم على عفرين، فهناك تطرّف مماثل، وله أرضية جاهزة مسبقاً. فالفصائل التي تهاجم عفرين هي في معظمها من خلفيات سلفيّة جهاديّة/ إخوانيّة ( فيلق الشام، أحرار الشام، أحفاد الرسول، جيش المجاهدين، لواء التوحيد ..، جيش النصر ) أو فصائل تركمانية تأسست بدعم وتمويل مباشر من تركيا تُكنّى بأسماء السلاطين العثمانيين أو زعماء أتراك له مكانة بارزة في الوعي التركي ( لواء السلطان مراد، حركة نور الدين الزنكي – لها مكون سلفي جهادي وآخر إثنيّ تركمانيّ-، ولواء السلطان سليمان شاه، لواء سمرقند، ورموز عثمانية/تركية أخرى. ) . بالإضافة إلى عناصر من بقايا تنظيم داعش المهزوم بمسميات جديدة. أما تنظيم القاعدة ( هيئة تحرير الشام) الذي تعاون مع الجيش التركيّ أثناء دخوله إلى منطقة إدلب وأفسح له المجال دون صدام أو توتر بموجب اتفاقيات ( خفض التصعيد) بين تركيا وروسيا وإيران، فهو مشغول الآن بقتال الجيش السوري النظامي على جبهة إدلب كأولوية على على جبهة عفرين . مع ذلك وردت أنباء عن اشتباكها مع الوحدات الكردية في محور جبل سمعان.( لكن تعاون تنظيم القاعدة مع الجيش التركي أحدث خلافات شديدة في قيادة التنظيم، بين تيار براغماتي يُشرعِن التعاون مع الجيش التركي وآخر يحرّم لأنه جيش علماني كافر ولا يجوز التعاون معه ) . أما ما يعرف باسم ( الجيش الوطني السوري) التابع للائتلاف وحكومته المؤقتة فهو خليط مما سبق و بقايا “الجيش الحر” ومن تم تجنيدهم من مخيمات اللاجئين في تركيا تحت إشراف الجيش التركي والاستخبارات التركية على غرار “درع الفرات” .
ولعبة تغيير الأسماء لدى الفصائل السورية المعارضة المسلّحة والتداخل الشديد بين بعضها البعض، بحيث يستطيع أي فصيل أو مجموعة من هذه الجماعات أن يتحرّك إلى غيرها بسهولة دون حرج، تعد مُربكة بحدّ ذاتها للباحثين والمتابعين.
والجماعات السابقة جميعها تعادي بشدة وحدات الحماية الكرديّة و قوات سورية الديمقراطية لأسباب سياسية متعلقة بارتباطها الوثيق بتركيا و الموقف من النظام والثورة وسيطرة حلفاء عرب ( جيش الثوار بشكل أساسي) لوحدات الحماية الكردية وبدعمها في إطار (قوات سورية الديمقراطية – قسد) على بعض القرى والبلدات العربية في محيط عفرين بعد هزيمة وطرد تلك الفصائل من ريف حلب الشمالي وتهجير سكانها من قبل الجيش الروسيّ و السوريّ النظاميّ إبّان الحملة الكبرى على حلب وريفها، و لأسباب أخرى فكرية وعقائدية أيضاً. و الهيئات السياسية التي تشكل مظلّة لبعض تلك الجماعات أصدرت بيانات تأييد للحملة التركية على عفرين، فقد دعا الإئتلاف وحكومته المؤقتة إلى النفير العام وتجنيد الشباب السوريين في تركيا للمشاركة في الحملة، وأصدرت جماعة الإخوان المسلمين بياناً منفرداً إضافياً أكدت فيه على” دعم ومساندة الجيش التركي ضد التنظيمات الإرهابية (pyd,ypg) ذات المشاريع الانفصالية في الشمال السوري”، و “دعم حق الجمهورية التركية باتخاذ الخطوات اللازمة للدفاع عن أمنها القومي”.
فالفيديوهات المنشورة من قبل تلك الفصائل أثناء توجها لغزوة عفرين تثبت مرة أخرى حجم الفكرة الجهادية والشعارات الدينية السياسية في وعي هذه الجماعات المحاربة التي تمرّست طيلة سنين الحرب السورية على الإتكاء على الخطاب الجهاديّ الحركيّ كوسيلة تعبئة وتحشيد.
الحملة التركيّة – السوريّة ( المعارضة) على عفرين مختبرٌ جديد لتحفيز الوعي الجهاديّ لدى الجماعات المسلّحة، بعد هزيمة الجسم الأكبر من الجماعات الجهادية أمام ضربات الروس والنظام، وهزيمة داعش أمام قوات سورية الديمقراطية، على نحو يضعنا أمام طبعة جديدة من حركات جهادية مندمجة في وعي قوميّ متطرّف نموذجها الأبرز هو المجموعة الجهادية التي تهتف لصدام حسين و أردوغان والجيش التركي “المسلم” دفعة واحدة ! وأخرى ملتحية لا تختلف عن أي تنظيم قاعديّ أو داعشيّ في المظهر والهتافات . أو تلك المجموعة التي التقت أول دفعة من الجنود الأتراك على الحدود و تهتف ب ” قائدنا للأبد سيّدنا محمد ” بينما كان الجنود الأتراك يردّدون شعارات قوميّة تركيّة متطرّفة.
هل كانت القاعدة أو داعش شيئاً آخر غير هذا المزيج من التطرّف الدينيّ والمذهبيّ والإثنيّ مدعوماً بالمال والسلاح ومنحه المشروعيّة السياسيّة؟
* كاتب كردي سوري. عضو هيئة تحرير مجلة “الحوار” الثقافية التي تصدر باللغة العربية وتهتم بالشؤون الكردية وتهدف لتنشيط الحوار الكردي-العربي.