أفكار في الإسلام السياسي

طارق حمو
في الأصل (الإسلام السياسي) هو وصف للحركات والمجموعات والأحزاب والمنظمات والكتل التي تحمل رؤى وأفكار مستمدة من الدين الإسلامي، تهدف إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، حسب تفسيرها هي لها. وتلجأ بعض هذه الجماعات إلى العنف أو ما تسميه “الجهاد” ضد الحكومات المحلية من اجل الوصول إلى الحكم والاستحواذ على السلطة، وتبرر ذلك بالعديد من التفسيرات المستمدة من النصوص القرآنية والسنّة المتواترة عن النبي محمد.
و(الإسلام السياسي)، كفكرة، بدأ مع التفسير الأصولي المتشدد للإمام أحمد بن حنبل كرد فعل على تزايد الانفتاح الذي جاء جراء النزعة العقلية وحركة الترجمة وفكر المعتزلة في العصر العباسي. وبعده ظهر ابن تيمية في عصر توسم بالاضطراب والحروب، فكفرّ الفرق الإسلامية الخارجة على إجماع أهل السنّة، كما كفرّ المسيحيين واليهود. وبعده خرج محمد بن عبد الوهاب في جزيرة العرب، وهو الذي طوّر المنهج السلفي المتشدد الرافض للتجديد، والذي اتخذته الدولة السعودية مذهبا لها، وعقدت من خلاله تحالفا واسعا مع القبائل ورجال الدين ما يزال ساريا ليومنا هذا. وبعد سقوط السلطنة العثمانية، ظهرت جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وظهر أبو الأعلى المودودي في باكستان، حيث رفعا لواء “الخلافة الإسلامية”، ورفضا الدولة الحديثة الوضعية القائمة على قيم الديمقراطية الغربية.
ومن ثم اندلعت الثورة الإسلامية في إيران، وحدث التدخل السوفييتي في أفغانستان، وما رافق ذلك من ظهور مجموعات المجاهدين لإخراج السوفييت من هذا البلد، ومن ثم ظهرت منظمة “القاعدة” وحدث الهجوم على أميركا في 2001 م، حيث تصدّرت ظاهرة (الإسلام السياسي) والأصولية الإسلامية وعمليات الجهاديين المشهد الدولي برمته. وتأسست جماعات (الإسلام السياسي) على الأخذ بالنص القرآني، وما ورد في السنّة النبوية من أحاديث. وكانت النصوص القرآنية بالدرجة الأولى هي المرجع والمستند لها لتبرير عملها الدعوي والسياسي على السواء. انطلقت جماعات العمل الإسلامي ذات المنهج والمبتغى السياسي من النص القرآني، حيث نزعته من سياقيه التاريخي والمكاني وأقحمته في الحياة المعاصرة، جاعلة إياه صالحا لكل الأوقات وفي كل الظروف، ولما لم تجد في آيات القرآن “سندا” لها لتفسير ما يحدث من تطورات حياتية في بلاد المسلمين وفي العالم، أو صنع موقف من قضية ما، لجئت إلى الأحاديث النبوية، باعتبارها ركنا ثانيا مقدسا يجب أن تستند عليه هذه الحركات في التعامل الحياتي مع ما يجري في المجتمعات الإسلامية وعموم العالم. وكل من اجتهد مع النص، على خلاف ما تؤمن به جماعات (الإسلام السياسي)، أو عارض نظرة وتفسير هذه الجماعات، تم، ويتم، ملاحقته وتكفيره. ويذهب دعاة (الإسلام السياسي) في كتاباتهم ومؤلفاتهم في أن (الحاكمية لله) هي أمر مفروض من الخالق، ولا يمكن، ولا يحق، للمخلوق أن يرفضها أو يعيش حياته بمعزل عن تطبيقاتها، وبالتالي فهي أساس نظري رئيسي للإسلام السياسي، أي إنها “من المعلوم من الدين بالضرورة”. فهي من الأمور التي ينبغي أن لا تخضع للنقاش والحوار أساسا، فهي من أصول الإسلام ذاته. وتتمسك مختلف جماعات (الإسلام السياسي) بفكرة (الحاكمية لله) بمعنى: أن السيادة للشرع وليست للشعب. كما وتتمسك جماعات (الإسلام السياسي) بالمبدأ الإسلامي المتمثل في (الشورى) وتقول به بديلا عن (الديمقراطية). فنظرية (الشورى) تقوم على أصول وقواعد شرعية تبدأ بالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية والسوابق التاريخية والإجماع في عهد الصحابة.
إن التزام الأفراد والجماعات والحكام ب(الشورى) ناتج عن خضوعهم لسيادة الشريعة لا عن نص في الدستور، أو شرط من شروط البيعة أو قانون وضعي قابل للإلغاء أو التعديل. و(الشورى) تحل محل (الديمقراطية) التي ترفضها جماعات (الإسلام السياسي)، وتعتبرها اختراعا غربيا دخيلا على المجتمعات المسلمة.  ويهدف (الإسلام السياسي) إلى بناء “دولة الخلافة”. والنبي محمد لم يكتف بوضع الشريعة فقط، بل اشتغل بوضع القوانين الشرعية وتبليغها من جهة، ومن جهة أخرى تعهد بذاته تنفيذ أحكامها وإجراءاتها، وكان ينظر إلى مصالح الأمة ويمشيها ويبعث الولاة والقضاء للأنحاء ويتقلد بنفسه القيادة العامة في الأمر المهم. ويٌظهر خطاب (الإسلام السياسي) “دولة الخلافة” وكأنها دولة الكمال والصلاح، لا أخطاء ولا تجاوزات فيها، فهي كاملة لدى جماعات (الإسلام السياسي)، لأن دستورها هو القرآن، ومؤسسها هو النبي. ويؤكد (الإسلام السياسي) على أن دولة الخلافة ما هي إلا امتداد لدولة النبي محمد، والذي سار بهدى الوحي لتوطيد الإسلام كدين ودولة، وبذلك لا يمكن القبول أبدا بأي رأي يدحض شرعية إقامة دولة الإسلام. و”دولة الخلافة” تجعل الإسلام أساس “الجنسية” ومقياس المغايرة في الأحكام بين الناس، لأن الدولة المسلمة دولة محكومة بما أمر الله، وفي حكم الله لا يجتمع الناس إلا على رابطة العقيدة.
  الإسلام، بحسب تفسير جماعات (الإسلام السياسي) له، مجتمع عالمي. والإسلام كدين عالمي هو الوطن هنا، والولاء يكون له بالدرجة الأولى وليس للوطن المتعارف عليه في الحالة المعاصرة كإطار سياسي حديث فيه واجبات وحقوق وقوانين وضعيّة. وعالمية الإسلام تعني أن مهمة الدولة المسلمة هي أن تهدي الناس إلى الله، وأن تزيح العوائق عن طريق الإسلام، وأن تخاطب الناس بلسان عصرهم وعالمهم. وينقسم الجنس البشري من خلال الرؤية الأصولية الإسلامية للعالم إلى “دار الإسلام” و”دار الحرب”. ويتكون “دار الإسلام” من البلدان التي تنشر فيها الشريعة الإسلامية، وهي بصفة عامة الإمبراطورية الإسلامية. أما “دار الحرب” فتتكون من بقية العالم، لذلك أنه مثلما يوجد إله واحد في السماء، فيجب أن تكون هناك سلطة واحدة وقانون واحد في الأرض هو الشريعة الإسلامية.  أما الفكر الأصولي فيرى في العالم غير المسلم عالما يعيش في الجاهلية والضلال. وكل من لا يطبق الشريعة الإسلامية ولا يخضع للتفسير الأصولي للدين الإسلامي فهو ضال يعمه في الجاهلية والظلام. كما ويرى الأصوليون بأن الشريعة الإسلامية متفوقة على كل العلوم والتقنيات والحضارات التي ابتدعتها الأمم الأخرى. فبالنسبة لمفهوم الدولة القومية، يؤكد سيد قطب، أن شعارات ومفاهيم مثل “القومية” و”الوطن” و”الشعب” و”الطبقة” وتقرير الشرائع والقوانين باسمها والمطالبة بالتضحية في سبيلها، إنما هي إقامة لأصنام تعبد من دون الله.
وهناك مبدأ (الولاء والبراء) الذي اعتمد عليه الأصوليون في رفض الآخر ووسمه بالجهالة والضلال، وهذا المبدأ يعني الولاء للإسلام والشريعة والبراء من “المشركين الكافرين العلمانيين الضالين”. كما ويحتل (الجهاد) مكانة مركزية في برامج جماعات (الإسلام السياسي)، ويعتقد الأصوليين بأن الإسلام، في مواجهته “الجاهلية”، غير محدد بزمان ومكان، بل يهدف ابتداء إلى هدمها وقلع جذورها، وهذا من أجل الشروع في البناء لإقامة بنيان إسلامي قوي. لهذا، فإن نقطة البداية في مواجهة الدعوة الإسلامية هي مجابهتها للواقع الجاهلي. فهذه المواجهة أو (الجهاد)، هي من طبيعة الدين الإسلامي، ومن خصائص الأمة الإسلامية، وواجب على الدولة والجيوش والأفراد. والكثير من جماعات (الإسلام السياسي) ترنو إلى الهدف الأسمى والنهائي من (الجهاد)، وهو إخضاع العالم والبشرية كلها للإسلام، وهو ما يجعل من (الجهاد) مكتملا وقد حقق هدفه والغاية منه بشكل كامل.  وفي المفهوم الأصولي يعني (السلام) سيطرة الشريعة على كل العالم وحكمها له، لأنها مأمورة بذلك وقد خصّها الله بالوصاية على البشرية وعلى العالم. ويتحقق هذا (السلام) من خلال نشر الإسلام في كل البلاد ودفع كل العباد لاعتناقه.
الإسلام لا يرضى الدخول في (السلام) إلا إذا توفرت شروط أساسية، أولها: الحرية لاعتناق كلمة الله. ثانيها: عدم قتل المسلمين عند رؤيتهم لدينهم كنظام شامل للحياة. ثالثهما: عدم وقوف أي سلطة داعية لغير الله بوجه الدعوة. رابعها: تحقيق العدالة. فإذا ما تحققت هذه الشروط كان (السلام) الذي هو أساس العلاقات بين الشعوب والدول، وإلا لجأ المسلمون إلى ضرورة أخرى، أي (الجهاد)، وهو ضرورة لتقرير سلطان الله في الأرض ولتحرير الناس من العبودية لغير الله.  هذا وقد ساهم العديد من الفقهاء المسلمين في نشر الإسلام الأصولي المتشدد. منهم أبن تيمية في مؤلفاته التي كانت، ومازالت، المرجع الأكبر للفكر المتطرف لأغلب جماعات (الإسلام السياسي). فهي تكفر الفرق الإسلامية من غير أهل السنّة، وتكفر المسيحيين واليهود، وتحارب المنطق والفلسفة وتثبت على النص وتدحض التأويل والاجتهاد. كما ويٌعتبر محمد بن عبد الوهاب رمزا ومرجعا لكل شيوخ ومنظري الاتجاه السلفي الإسلامي المتشدد، حيث يقتفون أثره ويعتمدون على رؤاه وتفسيراته للشريعة، ومازالوا يحلمون بتطبيق كل أفكاره في معاداة الآخر المختلف عنهم. ومن منظري (الإسلام السياسي) رجل الدين الباكستاني أبو الأعلى المودودي، ويٌعتبر أحد أبرز مرجعيات الجماعات الإسلامية، ومن الذين وضعوا أسس العمل الجهادي الميّال إلى تطبيق العنف للوصول إلى الأهداف السياسية. أما المصري سيد قطب فهو المرجع الأكثر محورّية فيما يتعلق بأدبيات (الإسلام السياسي) وتكفير المجتمعات وإعلان (الجهاد) أو كما سماه “الفريضة الغائبة” عليهم.
وهناك أيضا المصري حسن البنا، مؤسس جماعة “الإخوان المسلمين” في مصر، وقد دعا إلى تفعيل دور الدين في المجتمع ليكون رياديا قادرا على القيادة والإدارة، رافضا التغريب واللجوء إلى الحضارة الغربية والأخذ من نتاجها الفكري والقيّمي. الأوضاع الاجتماعية الصعبة والمظالم التي حاقت بالناس من خلالها، حيث انعدام المساواة والعدالة، وتفشي الفساد والأمراض الاجتماعية، ومن ثم الابتعاد عن التمسك بالإسلام مرجعا عاما أوحدا في الحياة اليومية، وسطوة النظم السياسية الشمولية التي استهترت بحياة ومستقبل الناس، كل ذلك أثر على آباء (الإسلام السياسي)، والذين وجدوا في التمسك بروح الإسلام والرجوع إلى الأصول واحتكام الشريعة في مجمل مناحي الحياة، ردا على هذا الواقع الاجتماعي المتردي، ووجدوا أنفسهم معنيين بتغيير هذا الواقع عبر إحداث ثورة عن طريق الإسلام والنص الإلهي وإخضاع الجميع لدولة الخلافة، حيث ينتشر “الإسلام الصحيح”، وتعم العدالة، وتتقوى الأمة وترهب أعدائها في الداخل والخارج. ومن أسباب سعة القاعدة الاجتماعية للإسلام السياسي فشل الدولة في احتواء المواطنين وتأمين حياة كريمة مرفهة لهم، وبروز خطاب (الإسلام السياسي) القائم على “الحل السحري”، ومن هنا يتخبط قسم كبير من أبناء المجتمعات الإسلامية الباحثين عن فرصة أفضل للحياة الكريمة في ظل الواقع المتردي المحبط. ولا يعود مجال أمام الكثيرين سوى العودة إلى الخطاب الإسلامي وإلى الدين ومنظومته، في ظل استبداد الدولة وقمعها للحريات العامة وكمها للأفواه. وقد استغلت جماعات (الإسلام السياسي) كل هذه الأمور، فنزلت إلى الشارع عارضة خدماتها ومقدمة نفسها كسلطة ظل: فبنت المستشفيات للعلاج بأجور رمزية أو بغير أجر للمحتاجين، وجمعت الزكاة والصدقات لتوزيعها على المستحقين، وفتحت الفصول لمحو الأمية، وأنشأت المدارس لتحفيظ القرآن، وبنت المساجد الجديدة، وألفت اللجان لإصلاح ذات البين، وأسهمت في حل المشكلات التي تواجه الجماعة، وتذليل العقبات التي تعترض طريق رقيها وصلاحها.
وقد رفعت جماعات الإسلام السياسي شعارات دغدغت أفئدة المهمشين والريفيين، ركزت على الفقر والحرمان والإحباط والتبعية وضياع الهوية، متوعدة بالانتقام لهؤلاء من “المجتمع الجاهلي”. أما قيمة (الحرية) في نظر (الإسلام السياسي) فهي لا تعني حق الإنسان في الاختيار، بل ضرورة خضوعه للتكليف وعمل كل شيء خيّر لصالح البشر، أي أن يعمل على تذويب خصوصيته في الكل الجمعي المسلم. الحرية الدينية لا تسمح للمسلم بالخروج عن الإسلام وهديه أو الرجوع عنه بالارتداد إلى غيره، حيث يٌطبق عليه حد الردة. كذلك يجب الالتزام الكامل بالأحكام الشرعية القطعية، فلا يجوز للمسلم، ولا لغير المسلم، المساس بالأحكام الشرعية القطعية، كزواج المسلمة بغير المسلم، وميراث الكافر من المسلم، وغير ذلك مما أجمع عليه الفقهاء. ولا يسمح بالحرية في نقد الدين والمجاهرة بالإلحاد والتعبير عن الرأي المخالف لرأي الشريعة فهو إثم يٌعاقب عليه الفرد في دولة الشريعة والخلافة.  كما ويرفض (الإسلام الأصولي) فكرة (الديمقراطية) ويرى فيها تعارضا مع النظام الإسلامي ومبادئ الشريعة و(الحاكمية لله)، والتي يسوقها كأعمدة يقيم عليها فكرته وإيديولوجيته السياسية.
و(الإسلام السياسي) ينظر إلى (الديمقراطية) بوصفها نظاما وضعيا لا يجب أن يحل محل الشريعة في حياة المسلمين. فالشريعة هي الأساس والحاكمية يجب أن تكون لله وليس للقانون الوضعي الإنساني. كذلك يرى (الإسلام السياسي) في الشريعة نظاما صالحا لكل زمان ومكان، وهو نظام إلهي بالضرورة متفوق على (الديمقراطية) بكل أرثها وآلياتها. والشريعة تمنح شرعية إلهية للحكم بينما (الديمقراطية) تمنح شرعية وضعية قد يستغلها الإنسان في تمرير قوانين تتعارض مع الشريعة ونصوص الدين بحجة إنه مخول من الشعب والجماعة.

*كاتب وباحث من فريق المركز الكردي للدراسات 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد