يشمل الفكر السياسي جملة كبيرة من المواضيع والنظريات والمحاور التي تنتمي إلى مدرسة علم السياسة، والتي تنظم حياة المجتمعات والأفراد وتؤطرها في قوانين وشرائع ومحددات مهمتها توضيح العلاقات ذات الطابع المقونن بين الأفراد من جهة والدولة ومؤسساتها من جهة أخرى. ويشمل الفكر السياسي الآراء والنظريات والشروحات الفلسفية، قديمها وجديدها، حول الدولة والحكم والسلطة وآلية الحكم والإدارة والتسيير. كما يشمل النظريات والتشريعات التي تحدد طبيعة ومهام السياسة في تجلياتها التطبيقية من قوانين وشرائع وأحكام، وكيفية تقديم الجديد في ظل التطور الكبير الحاصل في ظل العولمة، وما انتجته من تحجيم لصلاحيات وسلطات الدول الوطنية لصالح الفضاء التكتلي الدولي الأعم. وسوف نتعرض في هذه الدراسة لمجموعة من أبرز مواضيع الفكر السياسي.
أولا.. السياسة: العلم والظهور والتفاعلات
السياسة رافقت الإنسان منذ القدم. ويمكن القول بانها شملت واحتوت مجمل تصرفاته وحركاته وسلوكه وتفاعله مع المجتمع الذي تبلوّر بعد تدرج هذا الإنسان في سلم التطور البشري، والخروج من الحالة المشاعية البدائية إلى حالة التجمع. ويمكن للمرء أن يٌسمي التفاعلات السلبية أو الإيجابية للإنسان مع محيطه، والتي احتاجت إلى إدارة وتدبير، بالسياسة. و” لما كانت هذه التفاعلات متعددة الجوانب مختلفة الأشكال فلا بد إذا من أن يختلف معنى ومفهوم السياسة من شخص إلى آخر، ومن مجتمع إلى مجتمع، وذلك نتيجة لهذا التعدد في الجوانب والأشكال. لذلك فقد كثرت الاختلافات في وجهات النظر بين المفكرين السياسيين والمنظرين منهم في تعريفهم للسياسة. فقد يرى الباحث المتعمق ان السياسة ليست مجرد شكل وليست جانب بقدر ما هي تفاعل مستمر من خلال ممارسة فرضت نفسها على الأفراد وأصبحت جزءا لا يتجزأ منهم” [1].
كذلك ارتبطت السياسة، كعلم وإدارة مجتمعات وحياة، بالقوة والحرب والصراعات. ويمكن هنا الإستدلال على قول المؤرخ الحربي الألماني كارل فون كلاو فيتز بأن ” الحرب ما هي سوى إمتداد للسياسة بوسائل مختلفة”. وانطلاقا من هذا المغزى فإن السياسة هي ” علم الحكومة، وفن علاقة الحكم ومجموعة الشؤون التي تهم الدولة في إطارها الوطني، أي السياسة الداخلية، وفي علاقاتها الخارجية، أي السياسة الخارجية (…). والسياسة، أيضا، كما يراها العديد من الكتاب، هي علم وفن معا. فهي علم لأن في السياسة قواعد متوترة ومنتظمة، يمكن إرساؤها أو يمكن التنبؤ بها. وهذه القواعد تختلف بالطبع عن تلك القواعد العلمية التي تستنبط في العلوم الطبيعية، لأن علم السياسة علم انساني، تختلف قواعده عن علوم الطبيعة والكيمياء. ولكن هذا الاختلاف، وتلك الصعوبة في استنتاج القواعد، لا ينفي صفة العلم عن السياسة. وعلى الرغم من ان السياسة علم انساني واجتماعي، فإنها ايضا فن، لأنها تتوقف على الاختيار والتوقيت والتقدير” [2].
وذكر المؤرخ الاسلامي ابن خلدون في كتابه (المقدمة) بأن السياسة أما أن تكون رديئة أو ظالمة إذا كانت تستخدم كوسيلة للظلم والاستبداد ولتحقيق الصالح الخاص على حساب الصالح العام، او تكون جيدة وعادلة وشرعية اذا كانت قائمة على العدل وتعمل للصالح العام.
أما أرسطو فقد “استخدم كلمة {سياسة} في أكثر من مقام، وفي اكثر من دلالة للتنظيم، ولإدارة شؤون التجمعات البشرية، وما يتطلبه هذا التنظيم من دستور وقوانين وسلطة عليا. وهذه الدلالات سهلة الاستنباط من كتابات ارسطو، إذ يذكر أن الانسان حيوان اجتماعي بطبعه. وهو يعني التفاعل الإنساني على اختلافه، حيث لا يستطيع الإنسان العيش منعزلا عن غيره من الأفراد. ومن هنا برزت الحاجة لوجود مؤسسة اجتماعية إنسانية جاءت بدولة المدينة (Polis) وبرزت ايضا حاجة هذه المؤسسة الاجتماعية لاتخاذ الاجراءات والقرارات لتنظيم وضبط شؤون العامة وتحديد مراكز المواطنين وحقوقهم فيها، ولهذا اصبحت الدولة ـ دولة المدينة من أكثر المؤسسات الاجتماعية والانسانية تفاعلا وسيادة” [3].
وهناك من يربط السياسة بالقوة، ولا يجد فيها سوى القوة والقدرة على الضبط والسيطرة والاحتواء. ويقول بأن السياسة هي في الأصل فرض القوة وحسن ضبطها وادارتها، وهذا لا يمكن ان يكون إلا باللجوء إلى الخداع والحيلة والمواربة، إذ هي التي تسند القوة وتشرعنها في مهام الإدارة والحكم، ومن هنا فإن ” العلاقة بين القوة وحسن استخدامها، حدا بالبعض لاعطاء الأولوية في العمل السياسي للبراعة وحتى الخداع، فاعتبره الوسيلة الأهم والأنجح. ويأتي في طليعة هؤلاء مكيافيللي. فعلى الرغم من أنه يشدد على أهمية القوة، يبدو أنه يعطي الأولوية للخداع. فيقول في الفصل الثامن عشر من كتابه {الأمير}، أن الذين يحتقرون الخداع لا يعرفون حقيقة مهنتهم. وان الأمير الذي يعرف اكثر من غيره ان يرتدي جلد الثعلب، هو الأكثر سعادة. ويعتبر في مكان آخر أنه لا يمكن الارتفاع الى المجد بدون استخدام القوة والمخادعة، غير انه يتابع قائلا: ان القوة وحدها لا تكفي، ولكن الخداع يكفي لوحده احيانا. فهو يعتبر ان استعمال وسيلة الخداع يعوض عن القوة ويوصل الى الاهداف المنشودة. فالرياء، برأيه، يحل مكان القوة المادية، ويعطي نتائج أفضل منها؟” [4].
لكن ثمة انتقادات كثيرة وجهت للنظرية التي تقول بتأثير وخضوع السياسة للقوة، مع الإعتراف بان القوة هي عنصر من العناصر، ولكن ليست العنصر الرئيسي والوحيد المؤثر في السياسة، وليس المساهم الأكبر في تشكيلها وتحديد ملامحها. ولا يمكن القول مثلا بأن النظام الإداري البدائي كان نظاما سياسا، وهو الذي كانت القوة تسيّره وتحدد ملامحه وشكله واسلوب الإشراف عليه. فالنظام البدائي كان غير منظما، وكانت القوة هي المرتكز في صراعه مع البقاء. وانطلاقا من هذا الكلام فان” الرأي الذي ذهب إلى القول بأنه لا توجد دولة ولا حياة سياسية بدون قوة أو سلطة هو محط نظر. فالدولة حسب اعتقادنا وجدت نتيجة التفاعلات السياسية للأفراد. ولاستمرارية وجود الدولة وحماية مصالحها لا بد من وجود السلطة التي تفرضها تفاعلات الأفراد، وبالتالي فإن السلطة هي احدى الوسائل التي تحقق أهداف السياسة وغاياتها، ولكنها لا تنشئ الدولة. فقد توجد السلطة والحياة السياسية بين مجموعة من الأفراد ومع ذلك لا نستطيع أن نضفي على هذه المجموعة صفة الدولة. ومثال ذلك التجمعات القبلية في العصور الماضية، وسلطة الكنيسة في العصور الوسطى، وكذلك المنظمات الدولية كهيئة الأمم، فهي تملك السلطة ولها انظمتها السياسية والإدارية ولكنها لا تتمتع بخصائص الدولة” [5].
وبالنظر والتدقيق في الشروحات التي قدمناها لعلم السياسة، وتفسير المفكرين له، وتفاعل السياسة كعلم وسلوك مع البشر على طول تاريخ الحضارة الإنسانية، حتى التبلوّر الحالي، فإنه يمكن تأطير وصهر ما سبق من خلال القول بأن السياسة هي وسيلة وأداة إدارة يستخدمها الإنسان لتنظيم وضبط تفاعلاته وسلوكه وإدارة المصادر والثروات الطبيعية بجميع أنواعها، والقدرة والرغبة في تذليل الصعوبات فيما يخص منع المواجهات والمشاكل داخليا، والصراعات والحروب في الصعيد الخارجي، والوصول إلى الحلول السلمية السياسية بعيدا عن استخدام القوة أو التلويح بها. كذلك هي مواكبة مسيرة التطور باستنباط طرق جديدة مع مراعاة ظروف الإنسان لصنع القرارات الجيدة. بمعنى أن علم السياسة ” يشتمل على مجموعة كبيرة من الحالات التي تتفاوت فيها أهداف الناس، ولكنهم يعملون فيها معا لتحقيق الأهداف المشتركة، كما إنهم يتنافسون عندما تتعارض تلك الأهداف. ومن الممكن ان يتضمن هذا التعاون والتنافس بعض المساومة والمنازعة والإكراه. وغالبا ما يهدف علم السياسة إلى معرفة إمكانية التحالفات بدلا من الخصومات بين المجموعات المختلفة” [6].
وفي حال بحثنا عن السياسة كمفهوم (Concept of political science) سنجد بأن “هناك اتجاهين في تعريف علم السياسة وهما.. الأول: يعّرفها بأنها علم الدولة، أي ذلك العلم الذي يدرس الدولة: مفهومها، تنظيمها ومؤسساتها، وتشكيلاتها، وممارساتها، وسياساتها.