فرهاد حمي
في تصريح شهير عام 2014، وصف المنسق العام السابق لما يعرف بـ«مشروع جنوب شرق الأناضول» في معرض حديثه عن غرض المشروع على أنه: «مختبر حيث يمكن لعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا والعاملين في حقل الهندسة تطوير مهاراتهم ويتعلموا أشياء كثيرة». لدى الاقتراب أكثر من تفسير مضمون هذا المختبر ستقع حركة أبصارنا، ودون مقدمات، صوب كتلة بشرية تبلغ أكثر من 10 مليون فرد، وتعيش على جغرافية كردستان، الغنية بثرواتها الباطنية والسطحية، والتي مع ذلك تعتبر الأفقر على المستوى الوطني في تركيا.
حسب صنّاع ” المختبر” سيكون إتباع نظرية “المهمة الحضارية والتنمية” خياراً أداتياً بغرض تأهيل هذه الكتلة ووضعها في السياق التنموي المفترض، لكنّ فعلياً تسعى إلى تنفيذ ثلاثة أهداف فيما يخص الواقع الكردي، الأول، إنكار التنوع الثقافي لصالح التجانس القومي (الصهر وضبط السياسة السكانية). الثاني، مراكمة المال من خلال تسليع البنية الاجتماعية والطبيعية (التصنيع وقانون الربح التراكمي). الثالث، تسخير صناعة العنف من أجل تدمير المجتمعات المحلية من إبداء قدراتها على الإدارة الذاتية (الإبادة الثقافية والسياسية عبر عنف الدولة).
هذه العمليات الثلاثة متداخلة تبعاً لنظرية العالم الاجتماعي الالماني، جورج إلويرت، تختزل في مفهوم «أسواق العنف». ويعرف إلويرت طبيعة أسواق العنف هذه على أنها:” يتم تقديم العنف فيها أداة فعالة لتشويه الموارد البشرية والمادية واستملاكها وضرب الحياة الاجتماعية والإيكولوجيا. ومن ناحية أخرى، ثمة عوالم “خالية من العنف” ترتبط فيها الأسواق وتعيد إنتاجها إلى بقية العالم، وذلك عبر المنظمات والمؤسسات القومية أو الدولية، هذان المجالان، اللذان يبدو أنهما متضادان، متشابكان مع بعضهم البعض”. ويستطرد إلويرت:” بأنه يمكن العثور على أسواق العنف في المناطق الجغرافية التي يتم فيها ممارسة التجريم والعسكرة واستخراج الموارد وتهجير السكان المحليين”.
ينبغي أن نصقل على هذه الرؤية تتمة نظرية الجغرافي الأمريكي والمؤرخ البيئي، جيسون مور، الذي فسر عملية النمو الرأسمالي على أنها طريقة جديدة لتنظيم الطبيعة وذلك من خلال الانخراط في صناعة البيئة وتفعيل العمليات الاقتصادية من أجل استغلال الغذاء، والطاقة، والموارد الخام وقوة العمل التي تكون عادةً خارج نظام التسليع، ومن ثم إدراجها إلى دائرة مراكمة رأس المال.
في حين يستكمل العالم الاجتماعي، ديفيد هارفي، جوانب غير مضيئة أعلاه، عندما يلفت النظر إلى الطبيعة المراكمة لليبرالية الجديدة عبر عملية «السلب» إثر تجريد السكان المحليين الذين يقعون خارج دائرة التسليع السوقي العالمي من مصادرهم المادية والاجتماعية والإدارية، ومعها تنقلب نمط حياتهم الثقافية والتاريخية ومحيطهم الحيوي.
خلفية المشروع
استناداً إلى هذه المفاهيم، يشكل ” مشروع جنوب شرق الأناضول ” مختبراً عينياً لتجسيد هذه الاستراتيجية، حيث يعود بوادر ظهوره إلى بدايات تأسيس الجمهورية التركية، عندما دعا أتاتورك ضمن “خطة إصلاح الشرق” عام 1925 بوجوب رسم خرائط للأنهار الجنوبية الشرقية(كردستان) داخل أحواض دجلة والفرات، لتكون نقطة انطلاق بغية تسخير إمكانياتها من أجل تلبية احتياجات الطاقة المتزايدة في غرب البلاد، نظراً أن تركيا كانت تفتقر إلى الطاقة النفطية والغازية. لكن علينا أن نتذكر بأن هذه الخطة تتضمن أيضاً حظر اللغة الكردية في مؤسسات الرسمية والمدارس والمحاكم وأسواق العمل والشوارع.
فعلياً، تأسس المشروع 1954 تحت يافطة “التنمية” في قطاع الطاقة وتحديث الزراعة والري وتوريد المياه الشرب، وذلك على مساحة تصل إلى 1.8 مليون هكتار، ويعد بذلك من بين أحد أكبر مشاريع تطوير أحواض الأنهار في العالم، حيث يتضمن 13 مشروعًا للري والطاقة الكهرومائية، بما في ذلك بناء 22 سداً وإنشاء 19 محطة لتوليد الطاقة الكهرومائية على نهريّ دجلة والفرات.
اتخذ المشروع من تسع محافظات ذات الأغلبية الكردية حقلاً له، حيث تبلغ نسبة سكان الكرد حوالي 90%. وهذه المحافظات هي: اديمان، غازي غينتاب، كلس، ديار بكر، سيرت، اورفا، ماردين، شرناخ، باتمان” (يمكن إدراج باقي المحافظات الكردية). كما تحتوي المنطقة 20٪ من الأراضي الصالحة للري في البلاد، وهي بذلك تعتبر سلة خبز البلاد. ووفقاً للأرقام الرسمية الصادرة لهذا العام، فقد تم الانتهاء بالفعل من 78٪ من إنتاج الطاقة الكهرومائية المخطط له، و54٪ من مشاريع الري. وقدرت تكلفتها إلى هذه اللحظة حوالي 28 مليار دولار.
تاريخياً، طرأت تعديلات استراتيجية في تنويع لغة أهداف المشروع، تماشياً مع التغيرات في الخطاب الاقتصادي التنموي الدولي. فمثلاً في فترة الثمانينيات تم توسيع المشروع ليتضمن التخطيط والبنية التحتية (التنمية المتخلفة)، وتبعها إدخال مفاهيم جديدة مثل ” الاستدامة والمشاركة والتنمية البشرية “في التسعينيات (التنمية المفرطة)، وفي عام 2000 وصاعداً، أصبح مشروعًا موجهًا للبناء على طلب السوق والتصدير بعد إعادة هيكلة الاقتصاد السياسي التركي تناسباً مع عقيدة الليبرالية الجديدة. وتداولت معها مفاهيم مثل، استغلال الإمكانات المحلية، وإعطاء الأولوية لاستثمارات القطاع الخاص، والقدرة التنافسية (ما بعد التنمية). باختصار، تحول المشروع تدريجياً من بنية تحتية تقودها الدولة بالتنسيق مع البنك الدولي في مجال الطاقة والزراعة إلى مشروع يغطي مجالات السياحة والتعدين والبناء والتمدن والتعليم والصحة وذلك عبر رأس المال العولمي (البنوك الخاصة والاسهم المالية).
إمحاء القضية الكردية
بعيداً عن حيادية المصطلحات التقنية التي تغلف الوقائع العملية والتاريخية، ينبغي إيضاح غاية المشروع من زاوية معالجته للقضية الكردية على وجه الخصوص. إذ يقوم حزب العدالة والتنمية المتحالف مع الحركة القومية المتطرفة بتأطير شرعية المشروع في التحول الاجتماعي والاقتصادي وفق منظور “مكافحة الإرهاب”. وهذه الصيغة كانت رائجة في أوائل ومنتصف التسعينيات التي شهدت أبشع جرائم الحرب الشاملة ضد البيئة والمجتمع في كردستان. ويلخص تصريح رئيس إدارة لمشروع السابق، معمر يشار أوزغول، فحوى هذه المقاربة، حيث يقول:” عبر ضخ المزيد من الاستثمارات الزراعية لتحسين المشروع، من شأنه أن يعطي زخماً لاقتصاد المنطقة، بحيث تساهم في حل مشاكل البطالة والتخلف الاقتصادي، وهذا بدوره سيقضي إلى حد كبير على المصادر الاقتصادية والاجتماعية للإرهاب“.
ومن أجل تخفيف هواجس المستثمرين، تتبنى حكومة أردوغان مثل باقي الحكومات السابقة استراتيجية صناعة الحرب، معززةً أواصرها مع قانون الأحكام العرفية في المناطق الكردية التي فرضتها الدولة منذ عام 1987 ضد الكفاح الكردي. ومنذ فشل عملية السلام عام 2015، تم الاستيلاء على صلاحيات البلديات المحلية وتصفية المنظمات المدنية واعتقال قيادات حزب الشعوب الديمقراطي، وتبع ذلك شن حرب بربرية مع تشكيلات إرهابية محلية وإقليمية ضد مناصري حزب العمال الكردستاني في تركيا، لتطال باقي المناطق الكردية في سوريا وكردستان العراق (ستكون تفاصليها محور المادة القادمة). وذلك بهدف إزالة المقاومة المحلية أمام قانون النهب والسلب (الربح).
تجفيف مصادر البيئة
بيد أنّ هذه المقاربة بدأت تداعياتها تخرج عن حسابات صنّاع القرار في الآونة الأخيرة وذلك من بوابة أزمة البيئة، حيث باتت آثارها تضرب العالم برمتها وعلى رأسها تركيا، ويؤكد جورج إدغار ديسينجر الذي كتب دراسة شاملة بعنوان :” النزوح الناجم عن السدود في جنوب شرق تركيا “، عن مدى اصطدام التي تسببه النزعة الربحية الجامحة مع الكوارث البيئة الناجمة، ويربطها مع عواقب وخيمة قد تدفع ثمنها المجتمع الدولي والمحلي معاً، قائلاً :” العالم الذي أصبحت فيه انبعاثات الكربون تتزايد بصورة مخيفة، يعمق هذا المشروع القضايا البيئية والاجتماعية بصورة غير مسبوقة، بحيث تشمل التملح وتآكل التربة وتدهور الهواء والماء والتلوث، فضلاً عن التغيرات في استخدام الأراضي والتمدن والتصنيع المفرط”.
تركيا التي لا تعترف إلى هذه اللحظة بقضية المناخ ولم تلتزم بنص اتفاقية باريس، تعاني من الجفاف وارتفاع درجات الحرارة بصورة غير معهودة نتيجة الاحتباس الحرارة وقلة سقوط الأمطار. حيث سجلت في 20 يوليو/تموز رقما قياسياً في مستوى درجات الحرارة التي وصلت إلى 49.1 درجة مئوية في بلدة جزرة بمحافظة شرناق. وعليه، ستكون هذه المنطقة التي تشمل مشروع جنوب شرق الأناضول أكثر عرضة للتصحر وتآكل التربة حسب توقعات مدير مركز التغير المناخي في اسطنبول، ليفنت كورناز، والذي شدد بأن هذه المنطقة قد تصبح مثل البصرة في العراق على المدى المتوسط، إذا ما استمرت الأمور على حالها، وبالتالي ستكون المسألة مرتبطة بشكل مباشر بانهيار الأمن الغذائي برمته.
في ظل هذه المخاطر الموضوعية لا تزال الدولة التركية متشبثة بنظرية التقدم المستقيم التي تشدد بأن ضريبة التنمية يجب أن يدفعها المجتمع والبيئة من أجل غدٍ واعد. وبخلاف من هذه النظرة العقائدية المتصلبة، تبرهن الدراسات العلمية التي تراقب مسار التنمية في هذا المشروع، بأنه فشل على كل مستويات، وعلى رأسها، قضية التحديث الزراعي التي عمقت من تمليح التربة وضربت التنوع البيولوجي بسبب القيود المفروضة على حركة الكائنات الحية، نتيجة إنشاء الخزانات على السدود وشق القنوات والبركات المائية الصناعية التي دمرت معاقل المحيط الحيوي للثروة الحيوانية.
وبدورها، سممت الزراعة الصناعية وتآكل التربة ملايين الهكتارات من الأراضي، بحكم أن طريقة النمو الرأسمالي أثناء معالجة الثروة الزراعية – القطن والحبوب- والثروة الحيوانية التي تجري عبر آلات الصناعات الغذائية والسدود الصناعية، فإنها تتجه إلى مواردها واستغلالها وتدميرها، ثم تنشأ علاقة جديدة بعد الربط الجوهري بين أهداف الإنتاج الربحي المفرط والمزارع الصناعية والموارد الطبيعية المستغلة. وهذه العملية التحديثية بالذات تشهد حالياً آثار بيئية جانبية مدمرة في مشروع جنوب الشرق الأناضول، موطن الثورة الزراعية تاريخياً.
تهديم الآثار وإعادة ضبط السكان
بطبيعة الحال لم تتوقف آثار إنشاء الخزانات على نهريّ دجلة والفرات على المحيط الحيوي فقط، بل ستجرف المواقع التاريخية والأثرية وتفرض التهجير الجماعي. ويتضح ذلك عند سرد بضعة أمثلة مقتضبة: فقد غُمرت أربع بلدات ونحو 143 قرية إثر خزان سد أتاتورك، مع موجة التهجير وصلت إلى 55300 شخص، في حين تسبب إنشاء سد إليسو على نهر دجلة في محافظة باطمان بغمر مناطق أثرية تاريخية في قرية حسنكيف الكردية، وشُرد حوالي 70 ألف شخص من سكان المنطقة. بينما أقتلع سدود منذر، الكتلة الاجتماعية الوحيدة في محافظة ديرسم الشمالية والتي لا تزال تتحدث باللهجة الكردية الزازاكية من موطنهم التاريخي، حيث ستغرق هذه السدود أيضًا الأماكن التاريخية المرتبطة بانتفاضة الشيخ سيد رضا “انتفاضة ديرسم” والتي تعتبر الذاكرة التاريخية للكرد. بينما غمر سد بيريجيك المطلة على الحدود السورية، مساحة هائلة من الأراضي الزراعية العائدة إلى 31 قرية، وهجر على اثرها حوالي 30 ألف شخص، ومعها انغمرت بلدة خلفتي الشهيرة تحت نهر الفرات، البلدة التي باتت تستذكر بين السكان المحليين بـ:” الجنة المفقودة“.
عموماً، تكشف الأرقام الرسمية بأنه نزح أكثر من نصف مليون شخص بسبب السدود وحدها، ومع استمرار حكومة العدالة والتنمية بتوسيع سياسة السدود منذ عام 2002، فقد تضاعفت الأرقام بصورة غير مسبوقة، مما دفع بالمراقبين بأهمية ربط هذه المقاربة مع سياسات التهجير والصهر التي انتهجتها الدولة التركية عبر قوانين إعادة التوطين في عام 1927 – 1934.
لكن القضية لا تتوقف عند عتبة النزوح القسري، ثمة مخطط مسيّس من قبل مؤسسات الدولة ينبغي استكماله حسب الخبراء، وخاصة في مسألة التعويض وإعادة التوطين وحقوق الملكية. حيث راقب جورج إدغار ديسينجر في بحثه المذكور هذه التفاصيل بدقة، وخرج بنتائج هامة، إذ يشير بأن العديد من النازحين تركوا دون التعويض المستحق قانونياً بسبب التحايل على حقوق ملكية الأرض، سيما أنّ قبول المرء سعر الأرض المقترح من قبل الدولة تحت الضغط، يستوجب التنازل معه عن الأرض ونمط الحياة. ستراقب الباحثة سيجدم كورت آثار هذا الانقلاب على حياة السكان، وذلك في كتابها:” العائلات النازحة: سبل عيش الأسرة والعلاقات بين الجنسين“. إذ يتعقب الكتاب مسار حياة النساء والفتيات الصغيرات اللواتي اصبحنّ عرضة لسياسة الأجور الزهيدة والتعليم باللغة التركية في المدينة، بعدما تركوا موطنهم التاريخي، وهي فكرة تهدف للقضاء على الشبكات الاجتماعية والثقافية التقليدية وتدفع نحو تفكيك الأسرة.
وبالعودة إلى قضية توزيع حقوق الملكية، فقد كشف دسينجر بأن إشكالية التعويض وإعادة تخصيص الموارد الاجتماعية والطبيعية أفضت إلى إعادة ترسيخ نفوذ كبار ملاك الأراضي الزراعية بما تتناسب مع أهداف أنقرة الاستراتيجية. ففي مشروع أتاتورك على سبيل المثال، كانت النخب المحلية المتواطئة مع أنقرة، على دراية أفضل حول كيفية إثبات ملكية الأرض التي ستشمل مناطق بناء السد، وذلك عبر عمليات الفساد مع جمعيات الري.
وتشير الدراسة بأن المزارعين كانوا يشكلون حوالي 65% ويملكون حوالي 10% من الأرضي الزراعية بعدما تقاعست الدولة عن عمد في تطبيق قانون الإصلاح الزراعي، بينما كان كبار الملاك، والذين يشكلون حوالي 10%، يستحوذن على 65% من أراضي المنطقة، لكن نسبة كبيرة من الأراضي التي تم تدشين السد عليها كانت ملكيتها مشاعيه. وفي نهاية المطاف، استغلت هذه الشريحة ملكية الأراضي المشاع بالتواطؤ مع جمعيات الري، بحيث سنحت لهم المبالغ التي حصلوا عليها من التعويضات بإعادة شراء أراضي جديدة، وهذه الخلاصة تتفق مع وجهة النظر الباحث المختص في تقييم مشروع جنوب شرق الأناضول، أردا بيلغن.
وحسب الدراسات المذكورة، فإن تعزيز نفوذ الهياكل الاجتماعية الجديدة المتواطئ، ربما تقلل -حسب وجهة نظر أنقرة- من المقاومة الشعبية ضد التنمية المزعومة، وبنفس الوقت تشدد الخناق على الشريحة المؤيدة للنضال الكردي الحقوقي، سيما أنّ صغار ملاك الأراضي لا يستطيعون دفع المبلغ الذي تحدده جمعيات الري في شراء الأراضي الجديدة، وكان عليهم تسليم أنفسهم مجبرين للمستوطنات الحكومية المشيّدة، وهي أماكن جديدة تخضع للرقابة وقانون الصهر. علاوة على أن تم استيراد عمال المناجم من غرب تركيا بعدما تم استبعاد السكان المحليين، مما أدى إلى نوع من ضخ الأتراك إلى المنطقة، وهذا يبرهن بأن عملية النزوح القسري كنظام أساسي للتنمية يوازي جهد مضاعف لتوطين الأتراك عوضاً عنهم وفق ديسنجر.
يتفق آردا بيلغن مع ديسنجر حول أهداف المشروع فيما يخص التجانس القومي التركي، لكنه يضيف أيضاً بأن مؤسسات التنمية الدولية والحكومات والخبراء والاستشاريين وتعليمات الحكومة المركزية مع المنظمات غير الحكومية تحاول فرض رؤية نخبوية والتدخل والهندسة الاجتماعية من الأعلى ضد تركيبة السكان المحليين.
وفي المحصلة، تشير الأرقام الرسمية من مؤسسات الدولة التركية نفسها بأن نسبة البطالة في كل من ماردين وباتمان وشرناق وسيرت وصلت إلى 30.9 %. في حين يشكل نصيب الفرد من الناتج القومي في مناطق غرب تركيا حوالي 27 ألف دولار، بينما يكون في محافظة أورفا حوالي 9 آلالف دولار.
هذه الأرقام بطبيعية الحال لا تكشف الوقائع الملموسة، لكنها تبين ولو نسبياً بأن حصة السكان المحليين من عائدات المشروع تكاد تكون معدومة، في حين تكون حصة الأسد من نصيب فئة صغيرة محلية متواطئة مع المستثمرين في غرب تركيا والعالم. وبذلك يصبح شعار المشروع الهادف إلى تقليل الفجوة بين الغرب والشرق بمثابة عنوان مثير للدعاية والسخرية.
دوافع مبيتة
ونظراً أن المشروع برهن على فشله تنموياً، ينبغي أن نعود إلى دوافعه الفعلية من جهة مكافحة القضية الكردية، وذلك مع كل من روبرت حاتم ومارك دورمان في بحثهما الرصين، الذي جاء بعنوان:” حل تركيا لـ ” القضية الكردية”.. تحديات أنقرة“. إذ تطرح الدراسة ثلاث وجهات نظر من قبل صنّاع القرار في أنقرة بغية معالجة القضية الكردية ليس من منظور حقوقي وإنساني، وإنما من خلال أستئصالها من الجذور: الاولى، تنبع القضية بسبب الدعم المحلي لحزب العمال الكردستاني مما يستلزم السيطرة والمراقبة على السكان، وتشكيل جماعات موالية لأنقرة. الثانية، القضية الكردية تنبع من الفقر الحضاري والاقتصادي للمنطقة التي تشكل بذرة مساندة التمرد، وبالتالي يلزم إيجاد حلول تنموية تهدف إلى التهجير القسري والتدمير الثقافي وتشجيع التمدن والصهر التعليمي على غرار سياسيات الهجرة مثل قانون 1927-1934. الثالثة: القضية الكردية تتلقى الدعم من الدول الإقليمية أحياناً والمجتمعات الكردية المنتشرة في العراق وسوريا، ويلزم الضغط على هذه الحكومات من خلال ورقة المياه وضبط الحدود، وتالياً ينصاع السكان المحليين لمتطلبات الدولة عنوةً، ويبتعدون عن مناصرة حزب العمال الكردستاني.
وأكدت الدراسة بأن مشروع جنوب شرق الأناضول يقدم حلاً شاملاً لهذه المزاعم الثلاثة، ويحظى دوماً بموافقة أغلبية القوى الحاكمة مع الطبقة الاقتصادية المتحالفة مع السلطة. إذ يمكن للمشروع علاج مشكلة ” الإرهاب المحلي” عن طريق الحد من التنقلات الداخلية عبر بناء السدود ومشاريع البنية التحتية ومحطات الطاقة وتركيز السكان في المدن، مما يسهل آلية السيطرة والعبور العسكري السريع. تحظى هذه الرؤية برضى الجيش والأمن والدولة العميقة عموماً. وبمقدور المشروع علاج القضية الكردية إقليمياً من خلال تزويد الحكومة التركية بأداة لتهديد الدول الجوار عبر بناء السدود والجدران العازلة وحرق الغابات وتسهيل التوغلات العسكرية، وذلك لإخضاع هذه الحكومات تحت تصرف رغبات أنقرة. وأخيرًا، يستطيع حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية من خلال تشجيع النمو والربح في المنطقة مع تجاهل القضايا الأساسية المعنية بالقضية الكردية، واستمرار سياسة صهر المجتمع عبر القوة والتهجير وإعادة الضبط. ويحظى هذا البند على وجه الخصوص قبولا واسعاً وسط رجال الاعمال والمستثمرين المحليين والدوليين، ويخدم حكومة أردوغان من أجل توسيع قاعدته الانتخابية بين المجموعات الكردية المحافظة (كبار الملاك في الريف، والكتلة الإسلاموية الشعبوية والبرجوازية الناشئة في المدن).
وتتابع الدراسة آثار هذه المقاربات على المجتمع المحلي بعدما فاقمت سياسة جمعيات الري عدم المساواة في الري ودفعت بهم صوب المدينة. لكن بالتوازي جرى التنسيق مع الشركات القابضة المحلية “البرجوازية المدنية“، عبر تسهيل القروض لهم والإعفاء من قوانين الضرائب، من أجل رفع قيمة الأرض في بعض المدن عن قصد من خلال التخطيط وتقسيم المناطق، بحيث تفوق القدرة الشرائية لدى الفقراء، كما هو الحال في ديار بكر وأورفا.
وتذهب الدراسة بأنه يتم تشجيع النازحين الكرد صوب المدن والتي من المفترض أن تكون فيها الفرص التعليمية متاحة. ومع ذلك، فإن العيش في المدن يفرض عليهم أيضًا الاندماج في “المجتمع والثقافة التركية السائدة تعليمياً ودينياً”. وتستنتج الدراسة بأن غرض المشروع هو تعبير سياسي للفكرة الكمالية عن الدولة القومية على أساس الهوية العرقية الواحدة، بحيث تنظر إلى حل القضية الكردية من خلال محو الأكراد وصهرهم في بوتقة الأمة العليا.
كان أوجلان يواكب من سجنه تطورات هجوم الرأسمالية الجامحة على كردستان، حيث لخص هذا المشهد بعبارات عميقة في مرافعته الخامسة، إذ يقول: ” إن كردستان والواقع الكردي بمثابة مختبر بكل معنى الكلمة“. ويضيف بأن:”من يعتقد بأن الواقع الكردي لا يمت صلة بالمقومات الرأسمالية الثلاثة” الدولة القومية، قانون الربح التراكمي، والتصنيع” أو تداعياتها جد محدودة، فهو يعيش في ضلال مبين، فلولا هذه العناصر الثلاثة لما كان الواقع الكردي على عتبة الإنكار والإبادة، وطناً، وأمةً، مجتمعاً، اقتصاداً، ثقافةً، دبلوماسيةً“. وبناء عليه، يؤكد بأن: “السدود تلعب دور الوحوش التي تبتلع أماكن السكن التاريخية، والمساحات الزراعية، والقرى والإيكولوجيا (الابادة التاريخية والزراعية) بينما بناء المصانع ورصف الطرقات ومحطات توليد الطاقة وهي تقدم نفسها بخدمات عصرية فهي” الإبادة الجغرافية“. في حين يشكل بناء الجوامع” استخدام الدين كأداة متسترة على الإبادة الثقافية” بينما تشيد المدارس التركية بمثابة” الإبادة الثقافية“.