فرهاد حمي
في تشرين الثاني/ نوفبمر عام 2018، وهو نفس العام الذي احتلت عفرين من قبل الجيش التركي مع الفصائل المتطرفة الموالية لها، دافع وزير الزراعة والغابات التركية بكير باكديميرلي أمام البرلمان عن عمليات النهب الجارية لمحصول الزيتون في عفرين، وذلك من خلال نبرة استعمارية صرفة، قائلاً:”لا نريد أن تقع العائدات في أيدي حزب العمال الكردستاني، نريد أن نستحوذ على عائدات عفرين. هذه المنطقة تقع تحت هيمنتنا“.
من المؤكد أنّ هذا التصريح لم يكن يخاطب منطقة داخل السيادة التركية، بل كان يشرع الأبواب أمام غزو استعماري ضد منطقة كردية تقع في دولة مجاورة. ولنتذكر أيضاً أن هذه العبارات كانت تستند حينها على العنف العاري الذي كان يتخذ من عفرين سوقاً للنهب (الربح)، وذلك بعد التهجير الجماعي للسكان المحليين من موطنهم التاريخي، وإعادة توطين مجموعات سكانية من الموالين لحكومة أنقرة. هذه المقاربة ليست بحاجة إلى أقنعة خطاب التنمية و”المهمة الحضارية” كما في مشروع جنوب شرق الأناضول الذي يعود تاريخه إلى مئة عام. لكن دون شك، تمثل وجهاً آخر من المشروع نفسه، وخاصة في ظل قانون الطوارئ و “رفع القيمة القانونية والأخلاقية عن البشر المستهدفين” وفق تعبير الفيلسوف الإيطالي جورج أغامبين.
بذرة العنف والنزعة الاستعمارية السائدة هذه تتغذى من نهج حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي يزاوج بين النزعة الاستبدادية، المتحالفة مع اليمين المتطرف التركي، مع النمو الرأسمالي المتوحش، ويتخذ من مشاريع إنشائية ضخمة هدفاً له بهدف تسريع خطط التحول الحضري والمناجم ومحطات الطاقة الكهرومائية والفحم والطرق والتعدين، وما تتبع ذلك من آثار اجتماعية وبيئية مدمرة، وعلى وجه الخصوص في كردستان.
وعليه، ستتوسع دائرة العنف المحض ” صناعة الحرب” والتهجير الجماعي والنهب المنظم في عفرين وسري كانيه/ راس العين وتل أبيض استكمالاً لعملية حرق الغابات وقطعها بدءاً من سلسلة جبال ديرسم شمالاً ووصولاً إلى غابات جبلية في إقليم كردستان العراق شرقاً، ومنطقة عفرين غرباً. ومن ثم تسخير ورقة مياه نهريّ دجلة والفرات مع السدود المشيّدة، كسلاح فتّاك من أجل معاقبة المناطق الكردية المحاذية للحدود الجنوبية والشرقية، وتضييق الخناق على الأمن الغذائي في سوريا والعراق عموماً. في حين يعتبر تشيّد مشروع الجدار العازل على طول الحدود مع العراق وإيران وسوريا بمثابة مرحلة جديدة في تلويث جغرافية كردستان (سنتناول هذا الموضوع في مادة خاصة)، ليغدو المحيط الحيوي الكردستاني، مع سكانه، على حافة الموت، وخاصة في ظل الفوضى الناجمة من الحرب في سوريا والعراق وأزمة التغير المناخي العالمي.
من أجل تسليط الضوء على هذه الحالة عملياً، يسلط الكاتب الكردي السوري حسين جمو في مقالة له الضوء على منطقة وادي مونزر في مقاطعة ديرسم الواقعة في كردستان الشمالية ( كردستان تركيا)، التي تضم 5 آلاف نوع نباتي فريد عالمياً وأنواع هائلة من الحيوانات النادرة مهددة بالانقراض، إثر إنشاء 8 محطات لتوليد الطاقة الكهرومائية و12 سداً على مسافة 50 كلم. إضافة إلى توسيع سياسة حرق الغابات بين 2017-2018 التي نتجت عن قصف جوي وهجمات بدأت من معاقل عسكرية، لأن ضباط الأمن كانوا يريدون رؤية أوضح للمنطقة المحيطة.
ويكشف الكاتب بأن الهدف المخفي لإنشاء السدود يتجسد في إغلاق المنطقة أمام حزب العمال الكردستاني الذي يستخدم الممرات هناك في تنقلات عناصره. وعلى المدى البعيد تحقق هذه المشروعات أهدافاً في إعادة الهندسة السكانية عبر إحداث تغيير ديموغرافي من خلال تجريف حوالي /3500/ قرية. اللافت حسب الكاتب بأن المدخل إلى هذه المشاريع يتم بموجب قانون الطوارئ. وتالياً:” يشكل قانون الطوارئ مدخل لمشاريع اقتصادية ربحية، وذلك لتقاسم الأرباح بين الشركات الإنشاءات التركية والنمساوية، فضلاً على أنّ شركة أميركية حصلت على رخصة للبحث عن اليورانيوم في المنطقة ذاتها”.
ولأن صناعة الحرب مستمرة ضد كردستان منذ فشل عملية السلام عام 2015، فإن الأبحاث العلمية المختصة بالاحتباس الحراري تشير بأن النشاط العسكري له تأثيرات كبيرة على البيئة، حيث تنتج كميات كبيرة من الغازات الدفيئة (التي تساهم في تغير المناخ)، والتلوث، وتسبب استنفاد الموارد. وقد تدهورت جميع غابات كردستان المهمة تقريبًا بسبب بناء الطرق والتعدين أيضاً. حيث أشارت دراسة بحثية رصدت الأوضاع في ديرسم وديار بكر(منطقة ليجي) وهكاري وشرناق وكردستان العراق، بأن ما يصل إلى 85٪ من القرى التي تم الإبلاغ عن معاناتها من سياسة التدمير والتهجير يسير جنبًا إلى جنب جنبًا مع حرق الغابات (وكذلك البساتين والحقول). وخلصت دراسة أخرى بأن الاحتباس الحراري في كردستان مرتبط بصورة مباشرة بحرق الغابات ومناطق النزاع العسكري التركي.
هذه العمليات عادةً تتم في المناطق التي تحولها الجيش التركي إلى دوائر ” الصراع العسكري” ضد المقاومة الكردية. ونظراً لاختراق الجيش التركي مؤخراً حوالي 50 كلم من العمق الجغرافي في إقليم كردستان العراق، فإن الجهات الإدارية المحلية في محافظة دهوك أوضحت بأن آلاف الدونمات من الغابات والمراعي والبساتين والأراضي الزراعية تعرضت إلى الدمار والحرق وقطع أشجارها، وخاصة في مناطق كاني ماسي وباتيفيا وهرور وغيرها من المناطق التي تقع ضمن نطاق العمليات العسكرية التركية، وذلك بالتنسيق مع شركات ومصانع تركية مختصة، بغرض إرسال أخشابها وحطبها إلى المناطق الغربية من البلاد، وتسخيرها لأغراض ربحية مثل صناعة الاثاث المنزلي وغيرها.
ونددت الجهات المحلية في إقليم كردستان مع الرئيس العراقي برهم صالح هذا النهب المنظم، حيث غرد صالح على تويتر:”إنها ممارسات غير إنسانية وجريمة بيئية“. في الوقت نفسه أشار عدد من نواب حزب الشعوب الديمقراطي بأن الجيش التركي بالتنسيق مع الشركات المرتبطة معه تواصل تدمير غابات في إقليم كردستان في مناطق النزاع العسكري، وتقوم في الوقت عينه بقطع ما يقارب 400 طن من الأشجار يومياً في جبال جودي، وذلك بحماية من ميليشيا حراس القرى والجنود الأتراك”.
تشكل عفرين نموذجاً صارخاً لسياسة الأرض المحروقة ونهب الثروة والهندسة السكانية. فقط كان الكُـرد يعتنون بالغابات ويحمونها ويتخذونها مصايف ومتنفساً للراحة من صخب المدن، علاوةً على زراعة الأشجار المثمرة بأنواعها. بيد أنّ الغطاء النباتي مع الثروة المائية والحيوانية باتت في وضع مدمر عقب الاحتلال والنزوح الجماعي. هناك حوالي 18 مليون شجرة زيتون في منطقة عفرين. ومنذ سيطرة تركية وفصائلها المتطرفة على المنطقة، تعرض ما يقارب 15 ألف هكتار من أصل 23 ألف هكتار من الغابات الصناعية والطبيعية للقطع والحرق و”الاستثمار” من قبل أمراء الحرب الذين توفر لهم تركيا كل البيئة الإجرامية.
واستناداً إلى الأرقام الصادرة من المراكز الحقوقية، فإنه تم حرق حوالي 30 ألف شجرة أو قطعها، حيث تراوحت بين اشجار الكروم والزيتون والعنب والرمان والاشجار الحراجية. وتعقب هذه الممارسات بصورة دائمة عملية الاستيلاء على الأشجار، ومعاصر الزيتون بالتفاهم مع الشركات التركية المعنية، بهدف المتاجرة بالمحصول والحطب. عموماً، فقد وصلت خسائر الثروة الحيوانية منذ الاحتلال بالنسبة للسكان المحليين إلى 120 مليون دولار، بينما بلغت خسائر محصول الزيتون لوحده إلى نحو 100 مليون دولار.
حسب المراقبين، إنّ عمليات قطع الأشجار تتجاوز سياسات تركيا الأمنية الواسعة داخل حدودها الرسمية وخارجها ضد الكُرد وتدخل ضمن سياسات الإبادة البيئية. وتبغي تركيا من وراء ذلك، القضاء التام على النظام البيئي ومصادر العيش للمجتمعات الكُردية التي لا تعترف بهويتها ووجود أرض اسمها كُردستان. تالياً، يمكن القول إن هدف تخريب طبيعة كُردستان التي تعتبر المصدر الأهم للموارد المائية المحلية هو تحويل جبال خضراء تتميز بنظام بيئي خلاق الى جبال جرداء وتاليا اجبار السكان المحليين على ترك قراهم بعد القضاء على مصادر عيشهم. ويضاف الى ذلك، هدف القضاء على نظام طبيعي يعتبر المُبرّد الأهم للمنطقة، بسبب كثرة الغطاء النباتي، ناهيك بأنها الحامية الطبيعية الوحيدة للتنوع الأحيائي في ظل ارتفاع درجات الحرارة غير المسبوق في تاريخ المنطقة والعالم.
سلاح المياه
ووسط تسعير أزمة الاحتباس الحراري وارتفاع درجات الحرارة التي فرضت الجفاف وانخفاض منسوب المياه الجوفية في كردستان عموماً، تستغل تركيا تخزين المياه عمداً في السدود التي دشنت ضمن إطار مشروع جنوب شرق الاناضول بغية معاقبة شمال شرق سوريا. حيث قطعت إمدادات المياه إلى أدنى مستوياتها التاريخية عن شمال شرق سوريا في هذا العام. وتبعاً للمختصين لا يبدو أن هناك مشكلة في تركيا تتعلق بحاجتها إلى المياه بذريعة تراجع تدفق نهريّ دجلة والفرات، سوى أنها تستخدم المياه كسلاح سياسي تقليدي ضد الكرد ومن ورائهم سوريا والعراق عموماً.
وتروي مياه الفرات سهول على امتدادٍ واسع على طول ضفافه في حوض الفرات الذي يمر في شمال شرق سوريا، إذ تقدر المساحات المزروعة بالحبوب وأهمها القمح إلى جانب البساتين وأشجار الفاكهة بـما يقارب 400 ألف هكتار من الأراضي الزراعية حسب عدد من لجان وهيئات الزراعة في مناطق الإدارة الذاتية. كما تعمدت تركيا مراراً إلى قطع المياه على محطة “العلوك” التي تقع تحت سيطرة الميليشيات الموالية لها في ريف رأس العين (سري كانيه)، إذ تتوقف عليها حياة نحو 600 ألف شخص.
يضاف إلى ما تقدم تلك الآثار السلبية الخطيرة التي تهدد البيئة بسبب نقص المخزون المائي وزيادة نسبة التلوث (ازدياد تركيز النفايات الصناعية والصرف الصحي للمدن الواقعة على سرير النهر) في بحيرات الفرات وبالتالي انعكاسها بشكل مباشر على السكان وتزايد انتشار الأمراض، وتبعات ذلك على الثروة البيئية والفعاليات الزراعية وملحقاتها، وما يجر معه من تأثيرات كارثية مباشرة على الاقتصاد المجتمعي والأمن الغذائي العام للمواطنين وفق تحذيرات أطلقتها منظمة الفاو الغذائية مؤخراً.
وأعربت الأمم المتحدة منذ أشهر عن “قلقها العميق” إزاء انخفاض منسوب المياه في نهر الفرات، محذرة من آثار إنسانية واسعة النطاق لملايين الأشخاص في سوريا، بما في ذلك حصولهم على الماء والكهرباء. ووفق تقديرات الأمم المتحدة فإن أكثر من خمسة ملايين شخص في شمال شرقي سوريا، يعتمدون على نهر الفرات للحصول على مياه الشرب، ونحو ثلاثة ملايين شخص في الكهرباء.
ووسعت تركيا سياستها المائية ضد العراق أيضاً من خلال تجفيف الموارد المائية على نهر دجلة للضغط على العراق عقب بناء سد إليسو الضخم منذ عام 2018. وتؤكد التقارير أنّ بناء السد أدى إلى انخفاض حصة العراق من مياه النهر بنسبة 60%، وحذر تقرير صادر من جمعية “المياه الأوروبية” من أنّ العراق قد يفقد بالكامل مياه نهريّ دجلة والفرات بحلول 2040.
هذا السعار الشمولي الذي يدمر الثروة الطبيعية على أنقاض تحطيم البيئة الاجتماعية لا يمكن أن يحقق أهدافه إلاّ من خلال التحالف بين العنف العاري والنهب الوحشي” النزعة الربحية” والهندسة السكانية” التطهير العرقي والتغير الديمغرافي”. ومن هذه الزاوية تحديداً لم تعد القضية الكردية محصورة في مسألة الهوية الثقافية والحقوق السياسية كما كانت في القرن الماضي، بل يضاف إليها في القرن الحادي والعشرين قضية المحيط الحيوي برمته الذي بات تحت خطر الإبادة والاستغلال المدمر.