أردوغان في آمد.. الملك عارٍ

في اللحظة التي كانت ديار بكر( آمد) العاصمة الرمزية للكرد تطلق حمائم السلام على منصة عيد نوروز عام 2015، فضل الرئيس التركي خيار الدم قبل فترة وجيزة من استلام دونالد ترامب سدة الحكم.

وصف أوجلان حينها هذا الانقلاب بأنه إطلاق «رصاصة الرحمة في قلب طاولة المفاوضات». بذلك تم إجهاض مفاوضات السلام وانتصر الجانب الظلامي للدولة التركية التي عادت إلى ممارسة هوايتها المفضلة على طريقة وحش اللوياثان في التهام المجتمع والمؤسسات القانونية برمته.

طويت صفحة دونالد ترامب، وتربع جو بايدن على دفة القيادة في واشطن، والذي من المنتظر وفق وعوده أن يحمل رياح التحول والتغير في سلوك النظام الدولي. أردوغان بدوره لا يريد تفويت هذه اللحظة. وحسب وجهة نظره، ينبغي استبدال الاقنعة في لعبة توزيع الادوار المطروحة وذلك عقب اجتماعه مع بايدن في بروكسل على هامش قمة الناتو. من حيث المبدأ، ليست عويصة على الفهم مبادئ اللعبة الجديدة: عقيدة إدارة بايدن تمحور على تعظيم شأن القيم الليبرالية والديمقراطية في مواجهة الانظمة الاستبدادية. لكن حجز المكانة في هذا التصنيف يتطلب بديهياً اختبار النوايا.

وليست هنالك من وسيلة مغرية لمناصرة معايير حقوق الإنسان في تركيا سوى القضية الكردية، وتحديداً في ديار بكر المفجوعة التي تعرضت إلى حملة عسكرية تدميرية في حقبة دونالد ترامب.  

ومع ذلك، الطريق ليس مفروش بالورود، حيث أفردت إدارة بايدن طريقة التعامل مع مسار العلاقات الدولية إلى ثلاث مناطق: منطقة الحلفاء والشركاء( الكتلة الغربية- الاطلسية)، ومنطقة الخصوم (الصين وروسيا)، والمنطقة الرمادية وهي عبارة عن الدول التي تتأرجح بين هذين القطبين. تبعاً لهذا التقسيم، تقع تركيا في خانة المنطقة الرمادية، كونها تخالف تلك العبارة التي وردت في وثيقة الأمن القومي الأمريكي “التفكير بالمثل في معظم القضايا”. حيث يتضمن هذا البند مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام القانون الدولي، والذي تكاد تكون غائبة في تركيا وفق التقارير الحقوقية الدولية والمحلية.

يرغب الرئيس التركي الذي يقود منذ سنوات تحالفاً مع اليمين المتطرف في بلاده بتقديم حكومته بصورة عقلانية وهادئة من خلال الحلول الدبلوماسية الناعمة بغية تأمين نفوذ له في « مرحلة جديدة» مع إدارة بايدن. لكن ثمة عقبة هنا، هذا التغير الذي يراود مخيلة أردوغان يخالف الظروف الموضوعية قياساً بتركيبة الجسم السياسي الحاكم في بلاده. فهو يحمي رصيده السياسي والانتخابي الراهن عبر التشبث بالدولة العميقة وقاعدة اليمين المتطرف. وهذه الصيغة على وجه التحديد هي محل الشك من قبل عقيدة بايدن.

أردوغان وما بعد الإيديولوجيا

في ظل غياب الشروط الموضوعية لصيغة «التكيف» مع النظام الدولي بقيادة بايدن، كيف يمكن للرئيس التركي أن يعيد تأهيل ذاته وهو متكئ ظهره على الكتلة المتطرفة في الداخل؟ لعل الإجابة التقليدية تراهن على البراغماتية الاردوغانية المعتادة مع ازدواجية المعايير لدى كل من واشنطن وبروكسل في التعامل مع تركيا! ربما هذا صحيح جزيئاً، لكن بنيوياً ثمة إجابة أكثر منطقية، وتحديداً حينما نضع سلوك أردوغان تحت مجهر عقيدة عصر ما بعد الإيديولوجيا (Post-Ideology)، تلك العقيدة التي تتماهى حركاتها الراقصة مع جميع الايقاعات وتختزل شعارها المشهور في عالم السياسة: “يجب أن نغير كل شيء في سبيل أن لا نغير أي شيء“.

تدعو هذه العقيدة إلى الاختلافات اللحظية والتغيرات السطحية في البرامج والخطابات والسلوكيات بغية صيانة الوضع السياسي والاقتصاد والاجتماعي القائم(Status quo). وهذا بالضبط يشكل حقل للأوهام والمخاتلة الفردية والمؤسساتية في عصرنا الحالي، نظراً أن أي اختلاف أصيل في ظاهرة اجتماعية وسياسية ما يتطلب بالضرورة إحداث تغير جذري في بنية هذا النظام نفسه، وفي حال بقيت الاختلافات في السلوك الظاهري بمعزل عن التغير في البنية السياسية القائمة، سيسود حقل الاوهام اللانهائي. وهذا هو فحوى إيديولوجية (عصر ما بعد الإيديولوجية).

تبعاً لذلك، ينبغي قراءة زيارة أردوغان الأخيرة إلى ديار بكر، حيث ثمة تدخل إيديولوجي مشروط مع تعديل سلوك النظام الدولي لدى واشنطن. وعليه، يفصل أردوغان جوهر الدولة التي ترتقي إلى مستوى الإبادة المنظمة عن الانقلابات المفاجئة في السلوك السياسي والشخصي، بحيث تبقى بنية الدولة «الإبادة الجسدية والثقافية» مصانة ومقدسة، بينما يصبح حقل السياسة عرضة لتغيرات طارئة بصورة يومية دون قيد أو شرط، وبذلك تبقى البنية بمنأى عن التغير في نهاية المطاف.

هذا التناقض ليس عصياً على الفهم، سيما لو نتعقب أجواء زيارة أردوغان إلى ديار بكر تحت يافطة تدشين “المشاريع التنموية” وسط انتشار مكثف للأجهزة المخابرات والشرطة والعسكر في شوارع أمد، وتحديداً في حي سور الذي شهد شتى فنون وحشية الدولة العميقة في السنوات الماضية. كما اصطحب أردوغان معه وزير الداخلية سليمان صويلو، الذي يعتبر العقل النافذ في إمعان جرائم الحرب ضد الكرد منذ سنوات، فضلاً عن أن رئيس البلدية الذي استقبله، فُرض عنوةَ على أهالي المدينة بعد قرار الانقلاب على الرؤساء البلديات المنتخبة في غالبية المناطق الكردية.

لا نريدك في ديار بكر

هذه الطقوس الرمزية تعكس بصورة فورية جوهر الدولة وأدواتها التدميرية ضد النضال السياسي الكردي، وأي قفزة لا تراعي هذه المقاربة، ستمهد الطريق صوب فخاخ أردوغان المنصوبة، بحيث تكون زاوية شد الانتباه محصورة في مفرداته المعسولة عن السلام وتبرأة نفسه بأنه ليس قاتلاً، وذلك في كلمته أمام كتلته الحزبية الضئيلة. إذ كان يسعى أردوغان إلى إحداث تشويش على المثل الشعبي التقليدي “يقتل القتيل ويمشي في جنازته”.

لكن لو نضع خطابه في سياق عقيدة ما بعد الايديولوجية ستكون العبارة المصاغة على الشكل التالي: خطاب أردوغان الوديع والمسالم هو إجرام الدولة نفسه، طالما يصون الجوهر.

وبما أن ذهنية الابادة الثقافة والجسدية مصانة من حيث المبدأ، فليس غريباً أن يتقمص أردوغان صفات الرجل الثوري الذي يضرب على «الوتر الحساس»، تماماً مثل بيل غيتس، حينما يقدم نفسه على إنه اشتراكي إيكولوجي، وهو الذي يقود قاطرة الاحتكار في العالم. أراد أردوغان إظهار براعته الثورية من خلال إثارة فكرة ملفتة تفضي بوجوب تخفيف الآثار النفسية للذاكرة الاجتماعية في المدينة، وذلك عبر تحويل سجن ديار بكر الذي ارتبط اسمه بالقسوة والمعاملة اللاإنسانية والتعذيب ضد الناشطين الكرد إلى مركز ثقافي.

هذه الفكرة مثيرة من حيث اختيار المكان!! لكنها تنطوي على المخاتلة من حيث الزمان، لأنه في هذا الوقت بالضبط يقبع ممثلي ديار بكر من مناصري حزب الشعوب الديمقراطي، وهم بالألاف، في دهاليز السجون المنتشرة في انقرة واسطنبول وأدرنة والجزر المعزولة في غربي تركيا بحجج مسيّسة لا تمت صلة بالقواعد القضائية والقانونية. ولو نستحضر على سبيل المثال لا الحصر المسيرة البرلمانية الكردية كولتان كشاناك التي عانت ويلات من قسوة سجن ديار بكر في بداية الثمانينيات، والتي تقبع حالياً في السجن بتهمة مسيّسة تصل إلى 14 عاماً، سنكون مجدداً في حضرة القاعدة التالية: إصلاح سجن ديار بكر، هو ذاته انتهاك الدولة لحقوق السجناء.

على هذا المنوال، قامت بضعة أنصار للرئيس التركي في القاعة التي كان أردوغان يلقى كلمته، بتحريف الشعار المشهور باللغة الكردية الذي يهتف عادةً لأوجلان  (Biji Serok Apo) إلى (Biji Serok Erdogn). علاوة على أن أردوغان حمل الطرف الكردي مسؤولية فشل السلام، في خطوة مفضوحة لتحريف الاحداث التاريخية القريبة، لأن هو من أعلن بصورة صريحة انتهاء عملية السلام ودق طبول الحرب بعد التحالف مع دولت باهجلي ومجموعات الدولة العميقة( أرغنكون). بينما شكل تظاهره بالتعاطف مع دموع الأمهات اللواتي دفعن بهنّ الدولة بصورة دعائية رخيصة للاحتجاج امام مقر حزب الشعوب الديمقراطي في ديار بكر تحت مزاعم انخراط ابنائهم في صفوف حزب العمال الكردستاني، مقاربة بائسة للتغطية على حرق الجثث وسحل النساء في الشوارع المدن الكردية العريقة. ومن الممكن تلخيص مساعي أردوغان في هذا الشأن بالجملة التالية: يضع الورود على الضحايا ويدعو إلى الطهارة الأخلاقية، وهو نفسه قاتل دموي مسبب لهذه الاوجاع العميقة.  

بالعموم، السكان المحليين في ديار بكر ليسوا غافلين عن هذا التدليس الخطابي، وتجلى هذا بوضوح في الريبورتاج الذي بث على وكالة ميزبوتاميا، واستطلع آراء السكان المحليين عشية زيارة أردوغان إلى المدينة. حيث تراوحت التعليقات الواردة بين الشجب والتنديد. ولفتت فتاة في ربيع عمرها من خلال جملة معبرة:” نحن نعرفك جيداً، لا تدوس ديار بكر.. رجاءً“. أليست هذه الجملة بالضبط تتقاطع تماماً مع حكاية ” الملك العاري” وذلك عندما صاح طفل صغير بأعلى صوته وهو يشاهد الإمبراطور يجوب موكبه الملكي في الشارع بدون الملابس الداخلية قائلاً “ أنظروا الملك عارٍ.. الملك عارٍ“.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد