*حسين جمو
أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) منطقة هورامان الكردستانية في قائمة التراث العالمي. وجاء في موجز التعريف بالمنطقة:
“تقف الجبال النائية لهورامان/أورامنات شاهدة على الثقافة التقليدية لسكان هورامان الذين يشكِّلون قبيلة كردية تعتمد على الزراعة والرعي، وقد استوطنت في هذه المنطقة منذ الألف الثالث قبل الميلاد تقريباً. ويوجد هذا الموقع في قلب جبال زاغروس في محافظتَي كردستان وكرمانشاه بمحاذاة الحدود الغربية لإيران، وهو يضمُّ عنصرين: الوادي الأوسط والشرقي (زهافرود وتخت في محافظة كردستان)، والوادي الغربي (لاهون في محافظة كرمانشاه). وقد عدَّل البشر عبر آلاف السنين، مساكنهم في هذين الواديين لكي تتلاءم مع البيئة الجبلية القاسية؛ وتتسم حياة وثقافة سكان هورامان أشباه الرُّحَّل بخصائص مميزة مثل تدريج المنحدرات الحادة والزراعة في مصاطب حجرية وتربية المواشي والارتحال الرأسي الموسمي، إذ ينتقل سكان هذا الموقع للعيش في الوديان والمرتفعات على مدار العام، تبعاً لتغيُّر الفصول. ويدلُّ وجود الأدوات الحجرية والكهوف والمآوي الصخرية والتلال، وبقايا أماكن المستوطنات الدائمة والمؤقتة، والورشات والمقابر والطرقات والقرى والقلاع وغيرها، على وجودهم المستمر في هذا الموقع، الذي يتميَّز أيضاً بتنوعه البيولوجي والتوطن الاستثنائيين. وتشهد القرى الاثنا عشر الموجودة في الموقع على تطور استجابة شعب هورامان لندرة الأراضي الخصبة في بيئتهم الجبلية عبر آلاف السنين”.
لم يشمل التصنيف كافة قرى هورامان، في شرق كردستان (إيران)، كما لم تشمل المنطقة الغربية الواقعة في إقليم كردستان العراق، وتضم أيضاً 17 بلدة وقرية. فالمعايير المعتمدة صارمة في نزعة الطبيعة الأم، وعليه فإن القرى التي دخلتها عناصر الحداثة التقنية والعمرانية استبعدت، وهذا المعيار الصارم هو ما أدى إلى استبعاد الواجهة البحرية لمدينة ليفربول الإنكليزية من قائمة التراث العالمي، قبل أسبوع فقد، بسبب تشييد مبان عالية أفقدتها طابعها التراثي. وينطبق الأمر ذاته على قرى هورامان، ويذكر هوكر طاهر توفيق في كتابه “جدل الإنسان والطبيعة في هورامان” قرية باسم “هةجيج”، وتم تصنيفها من قبل اليونسكو عام 1996 كأنظف قرية في إيران وذلك لعدم وجود حتى مدخّن واحد فيها. وهذه القرية التابعة لمحافظة كرمانشاه، ستختفي من الوجود في حال تم بناء مشروع سد دواو على نهر سيروان.
تعد هورامان خزّان التراث الثقافي لأهل الحق “اليارسانية”، ولغة الأدب والشعر والتدوين في إمارة أردلان من القرن الـ15 إلى الـ19 إلى جانب الفارسية. وبهذه اللهجة الهورامية دوّنت طائفة “أهل الحق” أقدم أثر كتابي لها، وهو “سه ر ئه نجام” في القرن الرابع عشر. ولعل هذا الكتاب هو ما أشار إليه عباس العزاوي في موسوعة “عشائر العراق” بقوله: “ولهم كتاب مدون في تلك اللغة يحرصون عليه ولا يظهرونه لأحد إلا أننا لم نجد تدوينات عنه”.
كانت قلعة “جبل زلم” خط الدفاع الأول عن منطقة شهرزور في وجه الغزوات الأجنبية، وذكرها الرحالة أبو دلف قبل ألف عام حين مر بها، حيث كان موقعاً دفاعياً ضد الديلم الذين كان لهم موقع شرقي هورامان في موضع قرية يقال لها ديلمستان، كانت بمثابة نقطة تجمع موسمية للديلم في الغارات والتوسع، ومنها انطلقوا إلى بغداد. وجبل “زلم” معروف في العصور الوسطى بنبات باسمه، حب الزلم، كان يستخدم كمنشط جنسي قوي.
حين استولى العثمانيون على هورامان، بمساعدة الأمراء الأكراد، عام 1553، كانت كل قرية، مثل هاوار ونقود وباسكة وشميران، قلعة حصينة وضمنها قرية. لاحقاً توسعت الصفوية في كامل كردستان الجنوبية والشرقية مرة أخرى حتى غزوة مراد الرابع للعراق. وفي عام 1639 تم عقد معاهدة زهاب (قصر شيرين)، وتم تقسيم هاورامان بين الدولتين الصفوية والعثمانية، ودخل القسم الأكبر في أيدي الصفوية. إن التقسيم الحالي بين هاورامان الشرقية والغربية هو نفسه الذي تم الاتفاق عليه عام 1639. وعليه، فإن خط الحدود التركية الإيرانية اليوم أقدم – أو أحد أقدم- حد سياسي بري ثابت في العالم.
غالبية سكان منطقة هورامان من الكرد السنة النقشبندية، وقليل من أهل الحق اليارسانية. وشكّلت، تاريخياً، حاجزاً جبلياً طبيعياً بين نفوذ الإمارتين الكرديتين، أردلان وبابان، وتمتعت باستقلالية عنهما. في العام 1842 شن أمير بابان، أحمد باشا، حملة قاسية على هذه المنطقة، ودمّر أغلب بساتين الجوز في طويلة وبيارة، فكان هذا التوتر عاملاً أدى إلى إقبال جماعي لقرى هاورامان السنية لتبني الطريقة النقشبندية في وجه الباباينة القادرية، وعلى عكس النقشبندية المبكرة، دخل مشايخ القادرية في لعبة تملك الأراضي وجباية الضرائب. فضلاً عن ذلك كان أمراء بابان القبليون، ينظرون بازدراء إلى سكان هورامان وأردلان، وباتت كلمة “كوران” التي تشمل أكراد هاتين المنطقتين، دلالة على مهنة الفلّاح الوضيعة في نظر العشائريين الرحّل وكذلك أمراء بابان في عاصمتهم السليمانية.
سرعان ما منح مولانا خالد الشهرزوري الإجازة الروحية لعدد من زعماء هاورامان الروحيين، وأبرزهم الشيخ عثمان، في بلدة طويلة “ته ويله” التي ينحدر منها مولانا خالد، وإلى اليوم تعد هذه المنطقة معقلاً لنسخة خاصة من النقشبندية، فيها مكانة بارزة للإنشاد باللهجة الهورامية، على أنغام الدف، بنفس الأسلوب اليارساني الغنائي الذي يعتمد على الآلة الوترية إلى جانب الدف. وفي بلدة بيارة مدرسة دينية لم ينقطع فيها التدريس مدة 750 عاماً، وقائمة إلى اليوم.
تفرض طبيعة الطقس على القبليين الكرد الإقامة في بيوت متواضعة، لتفادي قسوة الشتاء، لذلك كانت أغلب بيوت أكراد سهل شهرزور طينية متواضعة، وصفها معظم الرحالة بأنها “بيوت حقيرة”. وفي فصل الشتاء، تتقيد حركة الأفراد في كردستان بشكل يعزل مئات القرى عن العالم لشهور طويلة بسبب عدم صلاحية الطرق الغارقة في الوحل. وتتميز منطقة هورامان الجبلية عن غيرها بأن أهلها كانوا يبنون بيوتهم من الحجر، وفق شهادة الأمير عبدالزراق رستم الباباني، الذي تجول في تلك الأنحاء خلال النصف الثاني من القرن التاسع. ولتحقيق الاكتفاء الذاتي من الزراعة، “قام السكان بنقل التربة من السفوح الجبلية حملاً على الأكتاف والظهر، ينشرونه بين شقوق الأحجار وفوقها ليرزعوا مختلف أشجار الفواكه لذلك يعرفون بالجياع والمعوزين”. ويرجع سكان المنطقة هورامان، أصلهم إلى الأمير الأسطوري من ملوك إيران، بهمن بن إسفنديار.
في منتصف القرن التاسع عشر، حين تمت تنحية آخر أمراء أردلان، والذين نسب البعض منهم أنفسهم إلى ملوك الأكاسرة، كانت عشائر منطقة هورامان الجبلية بين مريوان والسليمانية، قادرة على تسليح ألفي فارس بالبنادق. ويروي عبدالرزاق رستم الباباني في كتابه “كردستان بساتين بلا أسوار”، والذي كان شاهداً على وقائعهم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كيف أنهم أقلقوا الأمن بقطع الطرق دون أن يحرك الوالي (أمان الله خان) ساكناً. ووصف قواتهم أنه يمكنهم تهيئة ألفيْ مقاتل بمجرد نداء أو إشارة من الخان، وهم يتصفون بالمهارة الفائقة في استعمال البندقية ودقة إصابة الهدف. تحرك الوالي الأردلاني مرتين لمعاقبتهم، لكنه لم يحقق شيئاً، فاكتفى بقبول بعض الهدايا منهم”. ويشتهر منهم الأمير سلطان الهوراماني الشامياني، الذي قتله أول والٍ غير كردي بعد القضاء على إمارة أردلان، حيث أن الشامياني الذي كان مع ألفي فارس مجهزين بالبنادق، رفض الإنحناء حين دخل على الوزير الإيراني معتمد الدولة.
نجت منطقة هورامان، على الجانبين الكردستانيين، الإيراني والعراقي، من آفة الإقطاع التي فتكت بالفلاحين الكرد في المناطق السهلية والأودية الواسعة في سهل شهرزور وكرمانشاه. وحيث أن الزراعة في هورامان هي الأشجار المثمرة، بكثرتها، فإن هذه المنطقة لم تدخل ضمن “الأملاك السلطانية” التي تحولت نهاية القرن التاسع عشر إلى ملكيات إقطاعية لزعماء العشائر. لذلك، وبحسب ملاحظة هوكر طاهر توفيق، فإن أوضاع المزارعين في هورامان كانت أفضل بما لا يقاس مقارنة مع فلاحي السهول الواقعين تحت رحمة الإقطاعيين الكرد حيث كانت حصة الأخيرين تصل إلى 50% من المحصول.
اليوم، بينما تحسنت أحوال أهل هورامان السليمانية، منذ الانفتاح الدولي على إقليم كردستان بدءاً من 2003، يعيش سكان هورامان الكبيرة، الواقعة في كردستان إيران، في فقرٍ مدقع.
– كاتب كردي سوري. نائب رئيس قسم السياسة في صحيفة البيان الإماراتية. له العديد من الدراسات والأبحاث السياسية والاجتماعية. صدر له “التكايا المسلّحة – التاريخ السياسي للطريقة النقشبندية الكردية” و”الأنبار.. من حروب المراعي إلى طريق الحرير”.