بعد قرار دونالد ترامب المثير للجدل -الذي أمكن التنبؤ به- بسحب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا في أكتوبر، تلاه التدخل التركي العسكر المستمر، أصبحت المفاوضات بين “دمشق” والكرد حتمية، مع وجود انعكاسات مهمة على ديناميات الصراع السوري.
في الواقع، قبل فترة طويلة من الهجوم التركي الأخير على “روج آفا” (إدارة الحكم الذاتي في شمال وشرق سوريا)، اعتقد الكرد السوريون أن المحادثات مع “دمشق” بقيادة الرئيس السوري بشار الأسد كانت السيناريو الأكثر ترجيحًا الناتج عن تطور الوضع منذ عام 2014، إلى جانب اعتقادهم بأن الاعتراف الدولي القانوني بـ”روج آفا” هو السيناريو الأقل احتمالا.
ومن أجل فهم المستقبل والسيناريوهات المحتملة لعلاقات “دمشق” مع الكرد أو “الأسد” مع قوات سوريا الديمقراطية، فإننا نحتاج إلى طرح ثلاثة أسئلة رئيسية. أولاً، ما هو الهدف النهائي لقادة “روج آفا”؟ ثانيً، ماذا يعني الدعم الخارجي الذي تلقوه -من الولايات المتحدة- لتحقيق هدفهم؟ وثالثًا، ما هي الخيارات الرئيسية لمستقبل دمشق وعلاقات قوات سوريا الديمقراطية؟
الهدف الاستراتيجي الكبير.. أو حلم “روج آفا”
يمثل هدف قيادة “روج آفا” -والطرق التي ظهر من خلالها هذا الهدف الذي تم تطويره وتعزيزه- عقبات رئيسية أمام التسوية السياسية الناجحة بين “روج آفا” و”دمشق”، حيث إن الهدف الكبير هو الاستقلال السياسي على غرار الاستقلال الفعلي لكردستان العراق، ولكن في سياق كلا من سوريا والأيديولوجية السياسية للحركة التي يقودها الكرد هناك، التي تفضل الحكم الذاتي السياسي على دولة قومية مستقلة. وبالنسبة لـ”روج آفا”، فإن تحقيق هذا الهدف غير ممكن بدون دعم عسكري وسياسي خارجي يمنع الاندماج القسري للكيان في الدولة السورية.
يذكر أنه منذ عام 2014 وحتى الآن، قدمت الولايات المتحدة هذا الدعم العسكري، وهو أمر ضروري لبقاء “روج آفا”. واعتمد الهدف الاستراتيجي الأمريكي الكبير لهزيمة تنظيم “داعش” الإرهابي إلى حد كبير على القدرات العسكرية والسياسية لـ”روج آفا” على الأرض في شمال سوريا. وفي الوقت نفسه، فإن هدف “روج آفا” في حماية استقلالها الفعلي، بدعم من الولايات المتحدة، يختلف بشدة عن هدف “الأسد” وروسيا، لاستعادة سيطرة “دمشق” على الأراضي السورية.
علاوة على ذلك، أبدى كل من الكرد و”دمشق” مؤخرًا مرونة في التكيف مع الظروف الداخلية والخارجية المتغيرة. وبالنسبة للكرد، فإن الخيار الثاني هو التسوية السياسية مع “دمشق” التي تتضمن شكلاً من أشكال تقاسم السلطة، لأن هذا يوفر لـ”روج آفا” غير المعترف بها ضمانات ضد كونها موضع أقلية في الدولة السورية المعاد دمجها.
قد تكون حالة كردستان العراق مفيدة في فهم الديناميات في سوريا، حيث يمنح دستور العراق لعام 2005 كردستان العراق سلطات ذاتية الحكم وواسعة النطاق تشمل حكومتها وجيشها الخاص والحق في إدارة مواردها الطبيعية الواسعة. ولا تزال التوترات قائمة، على سبيل المثال فيما يتعلق بالأراضي المتنازع عليها وعائدات النفط، ولكن الترتيبات الدستورية حافظت على السلامة الإقليمية للعراق.
الدعم الأمريكي: ضروري للبقاء على قيد الحياة
على الرغم من أن الولايات المتحدة أصبحت غير موثوق بها بشكل متزايد، كما أن أفعالها لا يمكن التنبؤ بها للكرد السوريين، لكن لا يزال الكرد يرون أن الدعم المقدم من الولايات المتحدة مرادف لبقائهم على قيد الحياة، فضلاً عن الدعم العسكري الخارجي من الولايات المتحدة الذي يضخ شريان الحياة في الكيان الفعلي الذي يقوده الكرد، وتعتقد قوات سوريا الديمقراطية أن المساعدة الخارجية تجعل إعادة الإدماج القسري لـ”روج آفا” في الدولة السورية أقل احتمالًا. وطالما كان هناك دعم أمريكي لـ”روج آفا”، فإن التسوية التفاوضية مع “الأسد” تعتمد على كيفية دعم هذه التسوية عمليًا في “روج آفا”. وبعبارة أخرى، يعتمد بقاء “روج آفا” على قدرتها على الموازنة العسكرية ضد “دمشق”.
وفي نفس الصدد، يتمثل الموقف السائد حاليًا في “روج آفا” في أن الحكومة السورية والميليشيات المدعومة من الحكومة هما أفضل من تركيا والميليشيات التي تدعمها تركيا في شمال شرق سوريا، حيث إن التحول في ميزان القوى لصالح “الأسد” يضر بفرص بقاء “روج آفا”.
ومع ذلك، فإن قادة قوات سوريا الديمقراطية وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني سوف يسعون إلى التفاوض وسيكونوا مستعدين لتقديم تنازلات مع “دمشق”، إذا كانوا متأكدين من أن أمنهم الذاتي والإداري والسياسي سيتم حمايته. ومن العدل القول بإنه إذا كان لديهم يقين فيما يتعلق بالتزام الولايات المتحدة في المستقبل بدعم “روج آفا”، فإن قادة “روج آفا” لديهم تدابير تحفيزية قليلة للالتزام بالتسوية التي تمنحهم أي شيء مقارنة بالوضع الراهن.
ومن ناحية أخرى، لقد أوضح هجوم تركيا على شمال شرق سوريا -وهو أكبر تهديد يواجه “روج آفا” الآن- أن “روج آفا” دون دعم أمريكي مهددة بصورة دائمة بالإبادة أو بإعادة الإدماج القسري في الدولة السورية. ويعد دعم الولايات المتحدة، باعتبارها مشاركة من طرف ثالث دون موافقة “دمشق”، ليس مجانيًا ولكن الاستغناء عن هذا الدعم ليس خيارًا لـ”روج آفا”، إذا ظل الهدف النهائي هو الحكم الذاتي السياسي الفعلي.
إذا كان “تأمين النفط” هو السبب الرئيسي لوجود الولايات المتحدة في سوريا، فلا ينبغي النظر إلى تدخلها في المنطقة على أنه “غير قانوني” فحسب، بل إنه يمثل أيضًا مشكلة لاستدامة “روج آفا”. ولذا، فإن الوجود الأمريكي يكشف عن معضلة العوامل التي تُمكن “روج آفا” عمليًا من البقاء على قيد الحياة، كما أنها تنتقص من جوهر استقلالها.
التحرك تجاه السلام أو الحرب
تعتمد ديناميات العلاقات السورية الكردية على رد فعل القوى الخارجية، مثل الولايات المتحدة وروسيا وتركيا. وتعتمد قدرة “الأسد” على استعادة السيطرة على شمال شرق سوريا بشكل سلمي على كيفية استيعاب “دمشق” لهدف “روج آفا” وحلمها.
وفي غياب الدعم الأمريكي، واستمرار التهديد التركي، فإن إعادة دمج المناطق قسريًا يبقى تحت سيطرة الكرد، وسيكون ذلك نتيجة محتملة. ومن الواضح أن إضعاف الكرد وعزلهم قد يجعل هزيمتهم أكثر احتمالية، إلا أن التكاليف البشرية ستكون باهظة، لذا من غير المرجح أن يتجسد حل طويل الأجل.
ومن ناحية أخرى، وبدعم من الولايات المتحدة، سيكون إعادة الإدماج القسري لـ”روج آفا” هو السيناريو الأقل احتمالا. وفي هذا السياق، فإن التواصل مع “دمشق” بناءً على وضع سياسي وقانوني جديد في سوريا، سيكون السيناريو الأكثر سلمية وواقعية.
——
للاطلاع على النص الأصلي باللغة الإنجليزية.. اضغط هناترجمة: رنا ياسر