اوزلم غونر / ترجمة: المركز الكردي للدراسات
محاولة الحكومة لحظر ثالث أكبر حزب سياسي في تركيا هي عملية جديدة في سياسة تكميم الأفواه والمطالبة بالتغيير بالبلاد. وفي 17 مارس/أذار قام مسؤول رفيع في الادعاء العام بإقامة دعوى يُطالب فيها بإغلاق حزب الشعوب الديمقراطي، الموالي للكرد بالإضافة الى فرض حظر سياسي لمدة خمسة أعوام على اكثر من ستمئة من أعضاء الحزب. وفي الفترة ذاتها، أُجبر النائب عن حزب الشعوب الديمقراطي والمدافع عن حقوق الإنسان، عمر فاروق غيرغرلي أوغلو بالخروج من البرلمان ليتم ّ اعتقاله لاحقاً.
جاءت هذه الإجراءات بعد عدة اسابيع من فشل العمليات العسكرية التركية ضد حزب العمال الكردستاني شمالي العراق (إقليم كردستان) في شهر فبراير/ شباط واعتقال اكثر من سبعمئة عضو ومناصر لحزب الشعوب الديمقراطي في يوم واحد (14 فبراير/ شباط) بذرائع واتهامات ملتبسة وغير واضحة تتعلق ب”الإرهاب”.
حزب الشعوب الديمقراطي هو ثالث اكبر حزب في البلاد، وقد حصل على نحو ستة ملايين صوت انتخابي في الإنتخابات العامة التي جرت في العام 2018. حيث واجه ضغطاً مُتنامياً منذ ان حصل على مقاعد في البرلمان العام 2015 قاطعا الطريق أمام حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان للحصول على أغلبية لحزبه.
منذ العام 2016 تم اعتقال أكثر من عشرة آلاف نائب، مسؤولين مُنتخبين وأعضاء الحزب ونحو ستة آلاف لا يزالون في غياهب السجون ليومنا هذا. أصبحت الاعتقالات مُتواترة وواسعة النطاق، ولم يعد باستطاعة الحزب أن يحصي عدد الذين تم اعتقالهم، بحسب المكتب الإعلامي لحزب الشعوب الديمقراطي لموقع Open democracy.
في تموز/يوليو من العام 2015، بعد النجاح الإنتخابي لحزب الشعوب الديمقراطي وكذلك النجاح العسكري للقوات الكردية ضد تنظيم داعش شمالي سوريا، أوقفت تركيا مفاوضات السلام مع حزب العمال الكردستاني.
وفي تشرين الثاني/نوفمبر من العام ذاته، زعمت السلطات التركية أن عدة أحياء وبلدات بالمناطق الكردية اصبحت تخضع تحت سيطرة حزب العمال الكردستاني، وصرّح مسؤولون أتراك أن نحو 127 منطقة ستخضع لعملية امنية واسعة، وسيتم فرض حظر التجوال فيها. ومن ثم شنّت عملية عسكرية كبيرة ضد المدنيين في تلك المنطقة. وبحسب مصادر محلية ومنظمات غير حكومية فقد تمّ قتل آلاف الأشخاص، وحُرّم أكثر من مليون شخص من حقوقهم خلال هذه الفترة من صحة وسفر وتعليم و كافة حقوق الحياة.
في أيار/مايو من العام 2016، صوّت البرلمان التركي لرفع الحصانة عن أكثر من 150 نائباً ممن خضعوا للتحقيق في ملابسات جنائية، من ضمنهم نحو 55 نائباً من حزب الشعوب الديمقراطي. وجاء هذا التصويت بعد ازدياد مطالبات مدّعين أتراك للتحقيق مع نوّاب حزب الشعوب الديمقراطي في البرلمان. وبعد نحو عام، اعتُقل قادة الحزب فيغين يوكسيك داغ وصلاح الدين ديميرتاش وزجهم بالسجن بتهم “قيادة منظمة إرهابية”. هم لا يزالون يقبعون في السجن ليومنا هذا الى جانب عشرات النواب السابقين والحاليين.
وأعقب سجن افراداً من حزب الشعوب الديمقراطي هجوما على مسؤولين مُنتخبين محليين. وفي العام 2016 من شهر سبتمبر/أيلول، سمح المرسوم ذو الرقم 674 لحكام الولايات، الذين لم يتم انتخابهم ولكن تم تعيينهم من قبل وزير الداخلية والرئيس، بالسيطرة على البلديات التي يُشتبه ب”دعمها للإرهاب”.
ونتيجة لذلك تم عزل رؤساء البلديات المنتخبين ديمقراطياً الذين لعبوا دوراً بارزاً في تلبية احتياجات مناطقهم وإرادتهم السياسية واستبدالهم بمسؤولين تم تعيينهم من قبل الدولة يُدعون بالتركية بــ”قيوم” أي وكلاء.
وتم اعتقال اكثر من مئة رئيس بلدية تم انتخابهم بين عامي 2014 و2019 تحت ذريعة “الإرهاب” ليحل محلهم أولئك “الوكلاء”، وكان أول اجراء يقوم به هؤلاء هو ازالة الاسم الكردي من اللافتة الحكومية. وأعقب ذلك، دون توضيح، اغلاق المؤسسات المجتمعية الممولة من البلديات، متضمنة المراكز النسائية التي تُقدّم الدعم لضحايا العنف المنزلي ودور الحضانة والمراكز الثقافيّة.
تاريخ تركيا وممارستها لإرهاب الدولة
الهجوم على حزب الشعوب الديمقراطي ما هو إلّا تكرار لحملات استمرت لعقود طويلة من العنف والاضطهاد ضد حركات التحرر الكردية والحركات التقدميّة في تركيا بشكل عاإ. ان شيطنة تركيا لحزب الشعوب الديمقراطي والمعارضة الشعبية ارتقت من كونها استبدادية إلى فاشيّة.
ولعقود طويلة، اتخذت الدولة التركية من وجود حزب العمال الكردستاني ذريعة لاضطهاد المجتمع الكردي ككل، وكذلك اي شخص يطالب او يؤيد نضالهم من اجل حقوقهم المشروعة داخل تركيا .
وبشيء لا لبس فيه فانه حزب العمال الكردستاني هو الجناح العسكري للحركة الكردية و في الوقت ذاته لا ينبغي إغفال أن ثورة الحزب في مواجهة الجيش التركي بدأت عام 1984، في أعقاب الإنقلاب العسكري عام 1980، الذي قضى بالعنف على جميع اشكال المعارضة الديمقراطية، بما فيها المنظمات اليسارية والكردية والمجموعات الطلابية والنقابات العمالية.
ونتيجة للإنقلاب، تم اعتقال العديد من مؤسسي حزب العمال الكردستاني والمتعاطفين معه وزجهم في سجن آمد (ديار بكر) سيء الصيت، وتم الحكم عليهم لأعوام طويلة وأصناف تعذيب لاإنسانية.
بعد الإنقلاب العسكري، قامت الدولة التركية بتجريم كل المنطقة الكردية وحتى تم حظر اللغة الكردية. وتزايدت هذه الإجراءات مع بدء النشاط العسكري لحزب العمال الكردستاني، وفي العام 1987 أعلنت حالة الطوارئ في البلاد، والتي اتّخذت منها الدولة التركية ذريعة لاستخدام القوّة المفرطة بحقّ المدنيين في المنطقة، وتم زيادة في عدد القوات العسكرية وشبه العسكرية، وتم إنشاء عدد من نقاط التفتيش حول البلدات والقرى، وحرّم السكان من أبسط حقوقهم.
الاضطهاد والتعذيب في القرى، القتل والسجن والتعذيب بمراكز الشرطة ونقاط التفتيش العسكرية، وحظر المواد الغذائية، وعمليات الترحيل القسرية وحرق الغابات والقرى، كلّها أصبحت ممارسات معتادة ضد السكان الكرد في تركيا في التسعينيات من القرن الماضي. إن إرهاب الدولة هذا ضدّ المدنيين والترحيل القسري لمليوني كردي جعل التمرد أمراً حتمياً، بسبب انعدام أيّة وسيلة سلميّة للنضال من أجل الحقوق المدنية والسياسية الكردية داخل تركيا في تلك الفترة.
تهمة الإرهاب
خلال تسعينيات القرن الماضي، استخدمت الدولة تهمة “الإرهاب” كوسيلة لتجريم الكفاح المشروع لشعب يهدف لنيل حقّ تقرير المصير وحقوق الإنسان من دولة لا تعترف حتى بوجوده. وكان المحامون والصحفيون والناشطون في مجال حقوق الإنسان مُستهدفين على وجه الخصوص، بعضهم تم تعذيبه حتى الموت، وأخرون تم زجهم في غياهب السجن بتهمة أنّهم في مقدمة “داعمي” حزب العمال الكردستاني “الإرهابي”.
اليوم، يُستخدم ذاتُ الخطاب ضد حزب الشعوب الديمقراطي. ولا ينبغي أن يُفهم على انه خطاب محدود، لكنّه رسالة مُبطنة للملأ بأن أي شخص يدعم أو يؤيد حقوق الكرد سيُعامل كعدو للدولة.
استخدت مثل هذه الأساليب من قبل الدولة التركية ضد الحركات التقدمية الكردية والأحزاب التي تمثّل الشعب الكردي، منذ تأسيس أول حزب سابق لحزب الشعوب الديمقراطي، حزب العمل الشعبي والذي تم حظره من قبل المحكمة الدستورية العليا في العام 1993.
ومنذ ذلك الحين سبع أحزاب كردية تم حظرها تحت ذريعة “الإرهاب” ذاتها. حزب الشعوب الديمقراطي هو ثامن حزب يواجه تهم ملفقّة وإلحاح بالمطالبة بحظره بشكل دائم.
ومع سجن العديد من نوّاب حزب الشعوب الديمقراطي ورؤساء البلديات المحليين ومسؤولين وأفراد من الحزب، واختطاف السلطة من قبل “الوكلاء” في معظم المنطقة الكردية، فالوضع أشبه ما يكون بحالة الطوارئ التي فرضتها الدولة في التسعينيات.
تجريم المعارضة الكردية واليسارية والنسوية
لقد كان الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية مهددان على وجه الخصوص من قبل حزب الشعوب الديمقراطي، ليس فقط لنجاحه الانتخابي، ولكن لارتباطه بحركة التحرر الكردية والتحالف المتنامي بين الكرد واليسار التركي وكذلك ثقافة التحرر المضادة، والانجاز الملهم للحكم الذاتي الديمقراطي في روج آفا/ شمالي سوريا. تمثل هذه التطورات مجتمعة خطراً لأجندة أردوغان القومية المتطرفة واستيلاء حزبه الحاكم على السلطة.
ومنذ العام 2016، قام حزب العدالة والتنمية بتعزيز قوته من خلال عقد تحالف رسمي مع حزب الحركة القومية الفاشي، وكذلك احتكاره لوسائل الإعلام واضطهاد الحركات الشعبية، ليس فقط حركة التحرر الكردية بل أيضاً الحركات النسائية والطلابية والعمالية ومجتمع المثليين الجنسيين الذين يشكلون معاً القاعدة الجماهيرية لحزب الشعوب الديمقراطي.
إن النظام الداخلي لحزب الشعوب الديمقراطي القائم على المشاركة النسائية ودفاعه الدائم عن حقوق المرأة يشكلان تهديداً حقيقيا للأجندة الشوفينية لليمين المتطرف لحزب العدالة والتنمية. وفي أذار/مارس بعد سلسلة الإجراءات المتخذة بحق حزب الشعوب الديمقراطي، أعلنت تركيا انسحابها من إتفاقيّة اسطنبول(معاهدة دولية لحماية المرأة).
إنّ محاولة حظر حزب الشعوب الديمقراطي يمثل تهديداً حقيقياً للأمل المتبقي للجبهة الشعبية الديمقراطية ضد الفاشية في تركيا، وكذلك العودة إلى مسار المفاوضات بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية .
وكذلك عدم الإكتراث بحركة التحرر الكردية وتهيئة الظروف لعقد سلام مُنصف (بما في ذلك الحرية لقائد حزب العمال الكردستاني المسجون منذ فترة طويلة، عبد الله أوجلان) إلى جانب محاولات الدولة التركية في تجريم حزب سياسي شرعي أُنتخب بأصوات أكثر من ستة ملايين شخص تغلق الأبواب أمام أيّ حلّ ديمقراطي كان يلوح بالأفق.