مبادرة أوجلان.. هل تدشن نهاية قرن «تركيا للأتراك»؟
د. طارق حمو
طرح القائد الكردي عبد الله أوجلان في 27 فبراير/ شباط 2025 مبادرة «السلام والحل الديمقراطي»، كأساس وخارطة طريق لحل القضية الكردية في تركيا. المبادرة جاءت في ظروف ومتغيرات مرت بها منطقة الشرق الأوسط بعد هجوم حركة «حماس» على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023. تلك المتغيرات خلقت معادلات جديدة وتوازنات أثرت على تركيا ودفعتها إلى اختيار طريق الحوار والتفاوض مع أوجلان والحركة الكردية. رأت تركيا رد فعل إسرائيل على عملية «حماس» وتدميرها الحركة الفلسطينية واغتيال قادتها، وشنها لحملة عسكرية كبيرة على قطاع غزة، أسفرت عن تدمير القطاع ومقتل آلاف المدنيين، بالإضافة إلى تدمير تل أبيب حزب الله اللبناني وتصفية زعيمها وخليفته وقتل قادة الصف الأول فيها. كما راقبت أنقرة ضرب إسرائيل للبنى العسكرية والمدنية للحوثيين في اليمن، وإرسال مائة طائرة (من بينها مقاتلات أف 35 المتقدمة) لتدمير القدرات العسكرية الإيرانية (ما تزال طهران تتكتم على حجم خسائرها والضرر الذي ألحق بجيشها وبرنامجها النووي).
بدأت إسرائيل تتحدث عن مرحلة ما بعد 7 أكتوبر، وعن تغيير خرائط الشرق الأوسط وتصنيف الفواعل الإقليمية في خانة «المع» أو «الضد». رأت تركيا الوجه الفتاك للدولة العبرية المحمية من الغرب. قبيل بدء الاستعدادات الإسرائيلية لشن الحرب على 7 جبهات، عمدت واشنطن إلى إرسال حاملات الطائرات والغواصات النووية للمنطقة، لردع إيران وغيرها عبر التلويح بالقوة المفرطة. كل ذلك أعاد أنقرة إلى جادة الصواب ودفعها لكي تفوق من «سكرة» اعتقادها أنها قوة إقليمية مؤثرة. أرجع الاقتدار والبطش العسكري الإسرائيلي والدعم الأميركي والغربي اللامحدود لتل أبيب، تركيا إلى حجمها الطبيعي. عرفت أنقرة حقيقة كونها ليست الدولة الأقوى عسكريًا في المنطقة، وإن مواجهة دولة متفوقة تقنيًا ومتسلحة بالقنابل النووية كإسرائيل، لا يقارن أبدًا بحركات استعراض القوة ضد الدول الجارة الضعيفة، ولا بمواجهة الميليشيات المحلية محدودة التأثير، ولا بالتمدد العسكري في تخوم الدول المفككة. أعاد ذلك العصف أنقرة إلى جادة الصواب، ومن هنا بدأ العقلاء فيها بمراجعة الحسابات والتفكير بالمشاكل الداخلية.
قرأ دولت بهجلي، رئيس حزب الحركة القومية، والذي يوصف بأنه أحد أعمدة الدولة العميقة، التغيرات الاستراتيجية الحاصلة، وحديث الدولة العبرية عن رسم الخرائط وتقسيم المنطقة، وتبني سياسة «الحرب الاستباقية» ضد خصوم حاليين، أو آخرين مفترضين في المستقبل المنظور، فبدأ يراجع الحسابات، ويتفكر في مشاكل تركيا ووجوب استنباط حلول لها بغية «تقوية الجبهة الداخلية»، فجاءت أولى ملامح هذه القراءة الجديدة بمصافحة بهجلي المشهورة لبرلمانيي كتلة حزب المساواة والديمقراطية للشعوب في أكتوبر 2024، أي بعد عام كامل من الحرب الإسرائيلية في المنطقة، والتي تكشفت حصيلتها لتركيا، وفهمت أنقرة جيدًا معانيها وحدود ومديات البطش الإسرائيلي، كما فهمت حالة العجز الواضحة لخصوم تل أبيب على الرد بالمثل. حصيلة هذه القراءة كانت طلب بهجلي من أوجلان أن يأتي للبرلمان التركي ويعلن عن وقف الكفاح المسلح، وبالتالي إنهاء حالة الصدام الداخلي، و«احتواء» الكرد الذين اكتشف بهجلي تاريخًا مشتركًا معهم و«إخوة تمتد لألف عام». أيّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خطوة شريكه بهجلي، التي تحولت لاحقًا إلى دعوة رسمية من الدولة للحوار والتفاوض مقدمة إلى أوجلان وحزب العمال الكردستاني.
تفاعل أوجلان مع الدعوة بشكل إيجابي، وكرر استعداده لفعل كل ما يقع على عاتقه لإيقاف القتال وفتح طريق الحل الديمقراطي، طالبًا من وفد خاص شكل من حزب المساواة والديمقراطية للشعوب (سمي وفد إيمرالي) الذي زاره في سجن جزيرة إيمرالي، باللقاء بالأحزاب والقوى السياسية والفعاليات المجتمعية والمثقفين، لحشد مواقف نخبوية وأخرى جماهيرية مؤيدة للحل الديمقراطي، وخلق الأرضية المطلوبة لإطلاق عملية الحوار التي ينبغي أن تفضي إلى الحل الدائم. وبعد 4 أشهر من تصريح بهجلي، ولقاءات الوفد الخاص بالمسؤولين في الحكومة والمعارضة وبالقوى المجتمعية، وضع أوجلان خطوط مبادرة «السلام والحل الديمقراطي»، والتي شرح فيها الظروف التي تأسس فيها حزب العمال الكردستاني كرد على سياسة إنكار الدولة التركية للحقوق والهوية الكردية، كما وركز على العلاقات التاريخية التي تمتد لألف عام بين الشعبين الكردي والتركي، وقال بأنهما كانا معًا في اتحاد طوعي لمواجهة قوى الهيمنة، وأكد على أن احترام الهويات وحرية التفكير والتنظيم لكافة المكونات ممكن فقط في حالة وجود مجتمع ديمقراطي. كما ودعا أوجلان حزب العمال الكردستاني إلى عقد مؤتمره وإعلان إنهاء مرحلة الكفاح المسلح وحل نفسه. العمال الكردستاني من جهته وفي بيان أصدره، وكذلك على لسان قياداته (جميل باييك مصطفى قره سو، سوزدار آفستا) أعلن عن قبوله مبادرة أوجلان، واضعًا عدة شروط منها مطالبة الدولة التركية برفع قيود العزل المفروضة على قائده لكي يتمكن من الإشراف على مؤتمر الحزب، ووقف الجيش العمليات العسكرية، والعمل على التهدئة وخلق جو إيجابي، يكون متناغمًا مع المباحثات الجارية في القناة السياسية بين أوجلان والحركة من جهة، والدولة التركية من جهة أخرى.
يرى أوجلان أن تحقيق المجتمع الديمقراطي هو الأساس في قبول الهوية الكردية ورفع كافة القيود المفروضة على تمظهرات هذه الهوية، وأن مرحلة توطيد المجتمع الديمقراطي هي وحدها القادرة على إنهاء مائة عام من سياسات الإنكار الرسمية حيال الكرد، ووضع العلاقة التاريخية بين الكرد والترك في سياق ومسار جديد بمعزل عن التفسير الأحادي للجمهورية، وبمعزل عن مسلمات القمع والاضطهاد التي سارت عليها الجمهورية الأحادية الراهنة. ويذهب أوجلان في أن لغة السلام والديمقراطية ونبذ سياسات الإنكار واحترام الهويات وحرية الفكر والتنظيم هو السبيل الوحيد القادر على إدخال الجمهورية قوية ومحصنة إلى القرن الثاني من عمرها. يهدف أوجلان من وراء تركيزه على بناء المجتمع الديمقراطي تحطيم ثوابت وأسس الدولة الأحادية القائمة على الإنكار والصهر القومي، ويريد فتح آفاق التحول الديمقراطي الحقيقي، وهو ما يعني تحويل الكرد إلى قوة مفتاحية للتغيير الديمقراطي في عموم تركيا. يعلم أوجلان أن وجود ملايين الكرد في جميع أنحاء تركيا (7 ملايين كردي في إسطنبول وحدها)، ناهيك عن الوجود التاريخي في ولايات كردستان (شمال كردستان)، سيشكل قاطرة التغيير الديمقراطي في عموم تركيا، وبالتالي قيادة الكرد لكل القوى السياسية المعتدلة وتأطيرها في جبهة التغيير الديمقراطي والبناء المجتمعي، والتخلص من رواسب الفكر القومي، وتاليًا من الأوليغارشية المتنفذة المستفيدة من حالة الشحن العنصري والانسداد السياسي الممارسة حاليًا.
وفي مقابل فتح الطريق وقنوات السياسة والإعلام أمام المجتمع الديمقراطي الذي يقود الكرد المنظمون المدربون قاطرته، يريد أوجلان أن ينهي مرحلة الكفاح المسلح ويضع حدًا للإعتماد على القوة كطريقة لإجبار الدولة على الحوار والحل السياسي. يعلم أوجلان بأن الدولة والقوى المتمسكة بسياسات الإنكار وتركة المائة عام الماضية القائمة على الصهر القومي، تتحجج بسلاح حزب العمال الكردستاني لمواصلة كل أشكال الحرب والقمع والملاحقة ضد الكرد. فالعمليات العسكرية الضخمة داخل وخارج تركيا، والحملات الأمنية القمعية، وحالة الطوارئ والأحكام العرفية، كلها تتحجج بوجود السلاح بحوزة العمال الكردستاني. وحتى حملات المصادرة والقمع التي تطال الأحزاب السياسية ونوابها، تأتي بناء على علاقة مزعومة لهؤلاء بالحركة المسلحة. وكذلك تبرر الدولة قانونيًا وضع يدها على البلديات المنتخبة، وتعيين أوصياء مكان أشخاص انتخبتهم الجماهير، بوجود علاقة «تنظيمية» بين هذه الشخصيات وبين «المنظمة المسلحة المحظورة»، أي حزب العمال الكردستاني.
دعوة أوجلان إلى إنهاء الكفاح المسلح والتحول إلى النضال الديمقراطي، هي فعل تاريخي مؤسس يأتي لنسف دعائم النظرة الرسمية التي تربط الكرد وكل نضالهم السياسي والتنظيمي بالعنف والسلاح، والحيلولة، بناء على الواقع الجديد، دون مواصلة الدولة وجهازها الإداري والعسكري الحصول على الذريعة والأساس القانوني لسد الطريق أمام تحول الحضور الكردي إلى قوة مفتاحية مشكلة للمشهد السياسي. أوجلان يريد إنهاء مرحلة، وكذلك دحض سردية، ربط تركيا للقضية الكردية بالعنف والسلاح. يريد أن يحول كل الجهود في طريق السياسة وتهيئة المجتمع الديمقراطي. يهدف لتمكين قوى وفواعل التغيير الديمقراطي على حساب قوى القمع وأدعياء حماية القومية التركية وحراس تراث إنكار الكرد. التمكين في فكر أوجلان هو بناء المجتمع الديمقراطي وجعله واقعًا مترسخًا. تحويل هذا المجتمع الديمقراطي لبداية قرن جديد لـ«الدولة الوطنية الكردية والتركية»، وإنهاء قرن «تركيا للأتراك فقط». من وجهة نظر أوجلان فإن أيديولوجيا الحكم وتسيير الدولة القائمة على ريادة العنصر التركي ونفي ونبذ الكرد، تستغل «التمظهر الكردي المسلح» للاحتفاظ بالسلطة، والسيطرة على الدولة، والاستمرار في النهج الحربي وصرف مقدرات الدولة لمحاربة الشعب الكردي في داخل وخارج تركيا. ولكي يتم إضعاف هذا الاتجاه، لابد من إسكات صوت السلاح وبناء المجتمع الديمقراطي الضامن للتعددية وقبول الهويات وحرية الفكر والتنظيم. أوجلان يريد إدخال تركيا إلى القرن الجديد عبر بناء المجتمع الديمقراطي على أنقاض العنصرية التركية التي كانت السبب في كم هذا الخراب والتأخر، والتي أدت سياساتها في إنكار وجود وهوية الكرد ورهانها الدائم على الحرب والحسم العسكري، إلى إضاعة فرص التنمية وترسيخ الديمقراطية، وتاليًا انكشاف البلاد أمام القوى الخارجية. ولعل حديث رئيس البرلمان نعمان كورتولموش عن أن خسائر تركيا الاقتصادية والمالية طيلة 30 عامًا من الحرب مع حزب العمال الكردستاني بلغت 2 ترليون دولار، يكفي لنعلم حجم فرص التنمية والازدهار والمنعة الداخلية التي فقدتها تركيا جراء إصرارها على رفض الاعتراف بالوجود والهوية الكردية، ومضيها قدماً في طريق الحرب، والرهان على سياسات جمهورية التأسيس/ جمهورية لوزان، في شطب الشعب الكردي ونفي جغرافيا كردستان.
ورغم مرحلة الحوار القائمة حاليًا بين أوجلان والدولة التركية، إلا أن الإعلام التركي وذلك الذي يدور في فلكه، يستمر في تمرير السرديات التي تؤكد حالة الاقتدار التركي وضعف الجانب الكردي، للتأكيد بأن طلب بهجلي/الدولة الحوار مع أوجلان لم يأت من ضعف، بل جاء نتيجة قوة ومسؤولية، ورغبة صادقة في زيادة «التلاحم التاريخي»! لا شك أن هذا الكلام يأتي مراعاة للعنجهية التركية ولحالة الاستكبار والانتشاء الدائم التي تنعكس، ويلاحظها المرء يوميًا، في تصريحات مسؤولي الدولة التركية. يُراد أن يتم تصدير تركيا قوية ومنتصرة، لا تُنتزع منها الحقوق، بل هي التي تمنحها منحًا. يتم تقديم حزب العمال الكردستاني بوصفه المحاصر والضعيف، الذي نالت منه آلة الحرب التركية وتقنياتها الجديدة، ويبحث قادته عن تسوية، أي تسوية كانت. والحال بأن حزب العمال الكردستاني تأقلم مع حملات الحرب التركية التي توسعت وتكثفت منذ فشل عملية السلام الأخيرة عام 2015، وتشكيل تحالف العدالة والتنمية والحركة القومية. تماسك حزب العمال الكردستاني باحترافية واضحة أمام الهجمات التركية وعمل على تحصين مواقعه، منشئًا شبكة واسعة ومعقدة من الأنفاق والمخابئ في جبال قنديل، مكنت مقاتليه من التحرك بمرونة وتسديد ضربات خاطفة ومباغتة على المواقع والمعسكرات التركية والعودة مجددًا إلى تحت الأرض. كما حقق الكردستاني اختراقين مهمين للتدابير الأمنية التركية، موجهاً ضربتين محكمتين في العمق التركي. الاختراق الأول كان في اقتحام مقاتلين من الحزب لمقر مديرية الأمن القريب من مبنى البرلمان التركي في منطقة (كزلاي) في العاصمة أنقرة في 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، والثاني جاء بعده بعام عندما تمكن مقاتلان من اقتحام مقر الشركة التركية لصناعة الطيران والفضاء (توساش) في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2024. وجاء الهجومان كرسالة لأنقرة لإثبات قدرة الحزب على الضرب في أكثر الأماكن تحصينًا وحساسية في العمق التركي، وباستخدام طرق وأساليب لا يمكن لاستخبارات الجيش والحكومة رصدها. ويبقى التحول/الإنجاز الأهم عسكريًا للكردستاني هو إعلانه في عيد نوروز 2024 عن امتلاك تقنية قادرة على إسقاط المسيّرات التركية من كافة الأنواع Akinci,Bayraktar,TB2, ANKA S))، من التي كانت تعتبر فخر الصناعة التركية، وطالما تربحت أنقرة من وراء بيعها مئات ملايين الدولارات. استنباط الكردستاني لتقنية وسلاح قادر على تحييد مسيرات الجيش التركي، سدد ضربة لطموحات الصناعات العسكرية التركية، ودفع العديد من الدول والمنظمات إلى إعادة النظر في فعالية وكفاءة سلاح المسيرات ومجمل إنتاج الصناعة العسكرية التركية. فقد السلاح التركي رونقه وسمعته، وبدأت جهات عديدة تتردد في اقتناء سلاح طوّرت منظمة مسلحة مضادًا له.
وبالحديث عن أوراق القوة الكردية، لا يمكن إغفال الجانب السياسي والتنظيمي داخل كردستان وتركيا، فرغم سياسات القمع والملاحقة فقد تصاعد الحراك السياسي الكردي وحقق نتائج جيدة في الانتخابات البرلمانية في 4 مايو/ أيار 2023، كما وفاز بأغلبية البلديات في كردستان في الانتخابات البلدية في 31 مارس/ آذار 2024. حافظ الحزب على قوته وتماسكه وفعالية كتلته الصلبة، كما ونجح بتطعيمها بأصوات من القوى اليسارية والديمقراطية التركية. في حين تراجع فيه حزب العدالة والتنمية الحاكم عندما حاز على نسبة 35.49% في الانتخابات البلدية في 2024 وخسر أهم بلديات البلاد (إسطنبول، أنقرة، أزمير، بورصة، أضنة) لصالح منافسه الأقوى: حزب الشعب الجمهوري، محققًا تراجعًا كبيرًا عن انتخابات عام 2019، التي فاز فيها بنسبة 42.76%. ولا يمكن إغفال الحالة الكردية في سوريا وحضور الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية في الحسابات التركية، فتركيا الإنكار والإقصاء ومحاربة الشعب الكردي، ورغم كل التدخلات العسكرية في الشأن السوري، لم تتمكن من الإجهاز على هذه التجربة ومنع الكرد من إقامة شراكة وعلاقات مع الدول المؤثرة في العالم في إطار الحرب على الإرهاب، والتحول لفاعل مهم ورئيسي في المشهد السوري. لا شك أن القوة التنظيمية والإدارية والعسكرية للكرد وحلفائهم العرب والسريان في شمال وشرق سوريا، قد شكلت مكسبًا وزخمًا للحركة الكردية في تركيا، وكانت علامة أخرى من علامات فشل سياسة تركيا في الرهان على القوة لمعالجة القضية الكردية داخل وخارج حدودها.
لا تعني دعوة أوجلان في تحقيق المجتمع الديمقراطي، الذي يهيئ الأرضية لمشاركة الكرد في صنع السياسات وقيادة وبناء الدولة، وتحقيق الدولة القائمة على عنصري الأمة الاثنين، الذين لهم «تاريخ مشترك يمتد لألف عام»، إهمال كردستان وحقوق الكرد في التنظيم والإدارة. فأوجلان هو صاحب فكرة تشكيل حزب الأقاليم الديمقراطية (DBP) عام 2014، وهو الحزب المحلي المنوط به تنظيم صفوف الكرد في ولايات كردستان والإشراف على رعاية الثقافة واللغة الكردية، ومعالجة شؤون وشجون الكرد هناك. ويرفد هذا الحزب شقيقه الحزب الأكبر: حزب المساواة والديمقراطية للشعوب بالأصوات الكردية، عبر التركيز على الشرائح الكردية ذات التوجه القومي الصرف داخل وخارج الكتلة الصلبة المعروفة، والإشراف على الاتصالات مع الأحزاب الكردية القومية الصغيرة (الدائرة في فلك الحزب الديمقراطي الكردستاني)، والتشاور معها، وإقامة التحالفات الموضعية في الانتخابات المختلفة. كما ينشط الحزب في الاتصال مع الشرائح الاجتماعية التي استطاعت أحزاب الدولة استمالتها والتأثير فيها (عشائر اشترت الدولة ذمم رؤسائها وأغواتها، حواضن مسلحي حماة القرى.. الخ)، وكان لهذا الحزب المحلي الدور الكبير في تحقيق فوز تاريخي لحزب الشعوب الديمقراطي في الانتخابات البرلمانية التي جرت في يونيو/ حزيران 2015، عندما صدر الحزب في 14 ولاية كردية 50 برلمانيًا، مقابل 9 فقط لحزب العدالة والتنمية الحاكم.
تعي الحركة الكردية أن مسألة الوجود التاريخي والجغرافي لكردستان من الثوابت التي ينبغي أن توطد في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية في كل تركيا وتتحول لمسلمة مقر بها. وقد لجأ أوجلان إلى تضمين مصطلح «كردستان» في عناوين كل مرافعاته الفكرية التي تحدث فيها عن المجتمع الديمقراطي والأمة الديمقراطية. وكان أردوغان، قد دافع عن استخدامه لمصطلح «كردستان» في حديث له في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، وقال ردًا على منتقديه بأن المصطلح كان مستخدمًا في بدايات عهد الجمهورية التركية بعد تأسيسها على يد مصطفى كمال، وإنه مسجل في محاضر الجلسات البرلمانية. وتنشد الحركة الكردية شرعنة استخدام هذا المصطلح واستحصال القبول الرسمي والشعبي من قبل تركيا وأبناء القومية التركية. إن أحد ثمار تحقيق المجتمع الديمقراطي، هو إقرار وقبول الجميع بمصطلح «كردستان» الوطن التاريخي للشعب الكردي.
ثمة فرصة تاريخية أمام تركيا لحل القضية الكردية عبر قبول مبادرة أوجلان، الذي اعترفت به الدولة كممثل عن الشعب الكردي رغم كل سنين الإنكار والرفض منذ أن اختطفته عام 1999، وظنت بأنها قضت على الحركة الكردية عبر «فصل الرأس عن الجسد»، لكن خاب ظنها. الآن يمنح أوجلان تركيا فرصة جديدة للحل وإنهاء مرحلة الحرب والصراع. وكان أوجلان، وعبر البرلماني عمر أوجلان، قد حذر الدولة التركية من مغبة المضي قدمًا في سياسة الإنكار والقمع، وقال بأن أطرافًا خارجية ستتدخل في حال إصرار تركيا على رفض دعوات الحل والتسوية، وإن قوى كردية يمكن أن تظهر وتختار التعاون مع الخارج في حال إصرار الدولة التركية على قمع الكرد ورفض مساعي الحل السياسي، وإن تركيا يمكن أن «تنكمش في الأناضول وتعيش جحيمها». كذلك حذر أوجلان من «حدوث خمسين غزة» في تركيا في حال إصرار الدولة على سياساتها الحالية في معاداة الكرد ومحاربتهم. تقف تركيا على مفترق طرق الآن، فالمنطقة تتغير ومشروعها في توسيع النفوذ بات يصطدم بالمشروع الإسرائيلي. هناك حديث صريح عن احتمالية حدوث مواجهات وصدامات عسكرية بين الدولتين. والتدخل التركي في سوريا سيصطدم بتدخل عربي مضاد وبإسرائيل التي تريد كسر إرادة تركيا ومنع تحويل سوريا إلى دولة ملحقة أو حديقة خلفية لأنقرة. وحتى على مستوى الإقليم بدأت تتشكل أحلاف وتكتلات صامتة ضد تركيا (الرغبة التركية بترسيم الحدود البحرية مع سلطة أحمد الشرع، قابلها اجتماع مصري ـ يوناني ـ قبرصي على مستوى الرؤساء، رفض أطماع تركيا في البحر الأبيض المتوسط). إيران ضعفت وهي الآن أشبه ما تكون بنمر من ورق. إيران الشاسعة التي تضم قوميات لديها مقومات دول، هي الآن قابلة للتفكك أكثر من أي وقت مضى. مبادرة أوجلان في السلام والحل الديمقراطي هي الترياق القادر على إنقاذ جسد دولة أتاتورك الأحادية المريض من الموت. تركيا الجديدة، الديمقراطية القائمة على دعامة المكونين الكردي والتركي ستنجو، أما تركيا القديمة، الأحادية، فستدخل في دوامة المتغيرات الحالية والآتية، وقد تُواجه وتُحارب وتُنهك، وهي في أفضل الحالات إذا نجت من التقسيم، فلن تنجو من الانكماش في داخل الأناضول!