نموذج «الدولة العدوانية» وصفة دمار لمجتمع متصدّع

مخاطر الوصاية التركية على هوية الدولة السورية

حسين جمو 
تواجه عملية استقرار سوريا تحدي قوى تعمل بطروحات موازية ومتصادمة. فمن جهة، هناك السعي إلى دعم الإدارة الانتقالية بقيادة هيئة تحرير الشام، وفي الوقت نفسه توريط الهيئة في معارك جديدة لا تخدم الشق الأول. تتجلى هذه التناقضات بشكل كبير مع السياسات التركية المعلنة وغير المعلنة، وتظهر في حالات مثل حين تلوي ذراع هيئة تحرير الشام لإجبارها على فتح جبهة ضد قوات سوريا الديمقراطية. لنا أن نتخيل أن وزير خارجية دولة مجاورة لسوريا يفرض عليها اسمها الذي لا خيار لديها لتغييره، أي الجمهورية العربية السورية. قال الوزير إن اسم الدولة سيبقى الجمهورية العربية السورية. قرر من جانب واحد أن لا نقاش في هذا الأمر، وهذا يضفي وظيفة جديدة للدولة التركية، وهي أنها حارس نموذج الدولة القومية المأزومة ومنع نقضها وضمان بقائها بمضمونها العدواني على الداخل الذي أصبح مستعمرة داخلية. وكأنه غير مسموح أن تقوم دولة غير متأزمة قومياً وغير عنصرية ضد جزء من شعبها. لقد جرب حافظ الأسد وصفة نيل الشرعية جزئياً من ممارسة عنصرية الدولة ضد التعدد، ضد الكرد وحتى العلويين الذين حكم الأسد باسمهم في الخلفية مقابل أن يعلن «عدم وجودهم».
يجب – وفق رؤية الجار- أن تكون الدولة القومية «قومية» وليس «دولة أمة». أن تكون سوريا عروبية ضد الكرد لا أن تسير في طريق بناء دولة موحدة بتعددية معترف بها وتعكس حقيقة سوريا. وعليه، فإن إنقاذ سوريا من مرحلة انهيار جديدة يتوقف على إلغاء الوصاية التركية على مضمون الدولة السورية، وسيكون صمود الإدارة الذاتية الجواب الوحيد على هذا التصدير الإجباري للعدوانية الداخلية التي تفيض بها أساساً التشكيلات المسلحة السورية في مجتمع متصدع على كافة المستويات ولن تنقذه سوى العروبة المنفتحة الحضارية.
لذلك، من المرجح أن الإدارة الذاتية في شرق الفرات ستبقى قائمة ولها مبررات صمود أقوى بكثير من أسباب الاندماج طالما أن «الدولة العدوانية» هي العرض الوحيد حتى الآن، فيما تستمر محاولات فرض العنصرية على الدولة السورية الجديدة كما تفعل أنقرة مع الفصائل التي تدعمها في حربها المستمرة على الكرد في عفرين وشرق الفرات.
في هذا السياق، نشر فولكر بيرثيس، الأكاديمي في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، مقاربة مطولة في مجلة «فورين أفيرز» الأميركية بعنوان ملفت ذو طابع ندائي ومناشدة: «لا تسمحوا للجغرافيا السياسية بإفساد عملية الانتقال في سوريا»، وبعنوان فرعي: «على الجهات الفاعلة الخارجية أن تضع احتياجات البلاد فوق مصالحها الضيقة».
يرى عالم الاجتماع السياسي الألماني أن الأطراف الدولية الأكثر انخراطاً بشكل مباشر في سوريا ومع الشتات السوري لابد وأن تمارس ضبط النفس بشكل خاص. فتركيا، على سبيل المثال، هي المستفيد الرئيسي من التغيير في سوريا، ولكن بعض تصرفاتها تشكل مخاطر على الانتقال السياسي. وتسعى أنقرة إلى تحقيق هدفين متناقضين في سوريا: فهي تريد جاراً مستقراً، ليس أقلها حتى تتمكن أغلبية اللاجئين السوريين الذين يزيد عددهم على ثلاثة ملايين لاجئ يعيشون في تركيا من العودة إلى ديارهم، ولكنها تعمل أيضاً على توسيع حربها التي استمرت لعقود ضد حزب العمال الكردستاني على الأراضي السورية من خلال القتال، بالوكالة، ضد قوات سوريا الديمقراطية. ويتعين على الولايات المتحدة وأوروبا أن تجريا محادثة صريحة مع أنقرة، عضو حلف الناتو، بشأن مصالح تركيا ومخاوفها المتعلقة بسوريا، وأن توضحا أن حدوث انتقال مستقر يتطلب أن يكون للكرد السوريين، بما في ذلك الجماعات التي أدارت جزءاً كبيراً من الشمال الشرقي على مدى العقد الماضي، دور في الحكومة السورية.
إن دعم الانتقال يعني أيضا احترام سيادة سوريا. ففي الحرب ضد تنظيم داعش، على سبيل المثال، اعتمدت الولايات المتحدة والتحالف الدولي ضد التنظيم على قوات سوريا الديمقراطية كشريك رئيس لها على الأرض في سوريا. وينبغي للتحالف، بحسب فولكر بيرثيس، أن يدعو سوريا (أي هيئة تحرير الشام) لتصبح عضواً في المجموعة، وهو ما من شأنه أن يعترف بالسيادة السورية ومسؤولية الحكومة في المساعدة في مواجهة التهديد المتبقي من «داعش».
إن النظر إلى هيئة تحرير الشام على أنها ببساطة «وكيل تركيا» في سوريا من شأنه أن يؤدي إلى خطأ منهجي في كل ما يلي هذا القول. من يعرف تركيبة القوى المسلحة في سوريا يدرك أن الهيئة ليست أقرب الأطراف إلى قلب تركيا، وأن هناك وكلاء مخلصون يقاتلون ويموتون من أجل تلبية متطلبات الأمن القومي التركي ستضطر أنقرة قريباً إلى الاستغناء عنهم إذا ما أرادت دعم «سوريا». وستكون مساعي أنقرة في دفع الفصائل العاملة لحساب أمنها القومي إلى إلقاء السلاح والانضمام إلى جيش سوريا حاسمة في التمهيد لتسوية سلمية ومقبولة بين دمشق والقامشلي. والواقع، تبدي هيئة تحرير الشام، وهي سلطة امر واقع لا إجماع عليها، بعض المرونة بالنسبة لمراقبين غربيين في سبيل نهوض سوريا من الانهيار الكلي للدولة والمجتمع. لكنها تعاني أيضاً من خطين متصادمين يعملان ضد بعضهما البعض، مثلها مثل السياسة التركية في سوريا.
يقول فولكر بيرثيس: «إذا ركزت الحكومات الأجنبية والهيئات الدولية على مصالحها الضيقة وفرضت شروطاً مرهقة على المساعدات، فمن المؤكد أن عملية الانتقال في سوريا سوف تتعثر. ويجب عليهم بدلاً من ذلك دعم سوريا في جهودها لإعادة بناء اقتصادها والانفتاح على العالم وتحقيق السلام مع نفسها».
في كل الأحوال، قد تميل القوى العالمية إلى استغلال البدايات الجديدة في سوريا لصالحها. ولكن جر الحكومة المؤقتة إلى نزاعات إقليمية أو دولية قد يؤدي إلى إفشال عملية الانتقال، كما يعتبر بيرثيس، الذي يرى أن الجغرافيا السياسية ليست أولوية في الوقت الحالي بالنسبة لقادة سوريا الجدد.
على سبيل المثال، امتنع أعضاء الحكومة المؤقتة، على الرغم من خلفياتهم الإسلامية، عن إطلاق أي خطاب عدواني معاد لإسرائيل. كما قررت الحكومة الانتقالية أن تتعامل بحذر مع روسيا، الداعم الخارجي الرئيسي للنظام القديم. لقد أعاد حكام سوريا الجدد العلاقات الدبلوماسية مع أوكرانيا، بل وتحدثوا حتى عن «شراكة استراتيجية» بين البلدين. ولكن لا تريد سوريا أن تقع في خضم التنافس الجيوسياسي. ومن المؤكد أن قادتها لا يحتاجون إلى مواجهة مع روسيا أو أن تقدم موسكو الدعم لما تبقى من النظام القديم. وتهدف الحكومة الجديدة إلى إبعاد روسيا عن الشؤون الداخلية السورية دون إغلاق أي أبواب. وقد تسعى حتى إلى كسب ود موسكو لأن سوريا لن تكون قادرة، على الأقل في الأمد القريب، على استبدال أسلحتها الحالية، والتي كلها روسية تقريباً، أو التخلي عن الخبرة المتعلقة بالبنية التحتية المدنية التي بنتها روسيا، بما في ذلك محطات الطاقة والمعدات العسكرية.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد