د. طارق حمو
الواقع المعاش في «سوريا الجديدة» يقول الآن إن هيئة تحرير الشام بكل تركتها وحمولتها الأيديولوجية والعملياتية هي من تحكم، منذ 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، المدن الرئيسية بما فيها العاصمة، وبالتالي تتصدر المشهد التمثيلي/الرسمي بوصفها سلطة الأمر الواقع أو حكومة تسيير الأعمال أو الحكومة الانتقالية. فهمت هيئة تحرير الشام هذا التحول الكبير، فسابقت الزمن لتغيير جلدها والإحلال مكان الدولة ومؤسساتها. شكلت حكومة لا تضم سوى وزراء منها، وسلمت حقائب سيادية لشخصيات جهادية من عظم الرقبة في الهيئة. منحت الجنسية لقادة ميدانيين ومقاتلين غير سوريين، وعلقت على أكتاف بعضهم رتباً عسكرية ووكلت لهم مهام تشكيل الجيش والأجهزة الأمنية والشرطية. اللقاءات التي أجراها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) مع الوفود العربية والدولية، منحت الهيئة زخماً جديداً في المضي قدماً في مشروع التمدد داخل هيكلية الدولة السورية: مشروع التحول الكبير للهيئة إلى الدولة، أو تحول الدولة إلى الهيئة. وتمهيداً لهذا المشروع الذي يسير وينفذ فعلاً، قال الشرع إن المرحلة الانتقالية «يمكن أن تمتد أربعة أعوام»، وهي المدة التي يعتقد قائد هيئة تحرير الشام بأنها ربما تكون كافية لتحقيق التمكين المنشود.
نشوة السوريين بالانهيار السريع للنظام السابق وفرار رأسه بشار الأسد وفتح أبواب السجون والمعتقلات الرهيبة وشحنة الحرية الهائلة التي انطلقت فجأة وبدون ضوابط في التعبير عن الرأي والموقف إزاء نظام بطش ونهب وكمم الأفواه، منح هيئة تحرير الشام قدراً كبيراً من القبول بوصفها من أسقطت النظام وخلصّت السوريين من زمنه الذي أكل أعمار أجيال مديدة منهم. عودة عشرات آلاف المهجرين وانهيار سلطة المخابرات والدولة الأمنية وخطاب «التسامح» و«الرحمة» الذي ظهر في الساعات والأيام الأولى من حكم الهيئة، وطدّ لدى السوريين ميلا لمنح «المحررين» فرصة للإدارة والحكم. ظهر هذا الشعور حتى عند الفئات التي ناصرت النظام سابقاً وراهنت عليه، بل وبذلت (مرغمة على الأرجح) في سبيل مشروعيته، وبوصفه أهون الشرين، تضحيات كبيرة. لا أحد تعاطف مع نظام قمعي متعفن ورئيس فار ترك المعركة فجأة وبدون سابق إنذار حتى دون أن يخبر مرؤوسيه وأهل بيته. استفادت هيئة تحرير الشام من كل هذا الواقع وحاولت أن تجيّره لمصلحة توطيدها لحكمها بوصفها السلطة الجديدة البديلة لنظام الأسد التي انتظرها السوريون طويلاً.
وبعد أسابيع من وصول قوات هيئة تحرير الشام إلى القصر الرئاسي في دمشق، توالت حوادث القمع وملاحقة من اتهموا بأنهم من النظام السابق، أو «شبيحة» في التوصيف السوري الأثير والمميز (التعميمي، الشمولي، وغير القانوني كما ينبغي التذكير دائماً)، وانتشرت المقاطع المصورة المستفزة والمهينة لمكونات سورية من جهة، وتلك التي تصور التنكيل أو حتى تصفية أفراد، ولأسباب مختلفة من جهة أخرى. وأعاد ذلك المخاوف التي تم كبتها أو تجاهلها في البداية حول طبيعة هيئة تحرير الشام وحول التشكيلات الموضعية التي تضمها هذه الهيئة والتي تجعل من عملية الضبط والانضباط والتقييد أمراً في غاية الصعوبة. ومع مرور الأيام، خفتت الأصوات التي كانت تتحدث عن التسامح والعفو و«اذهبوا فأنتم الطلقاء» برزت أصوات لجهاديين محليين وأجانب تتحدث عن الانتقام والمحاسبة على قاعدة «أذلكم الله ونصرنا». وانتشرت أعمال القتل والتنكيل والتهجير والتعفيش في العديد من المناطق الواقعة تحت سيطرة كتائب الهيئة، وأغلبها مناطق ذات أغلبية من المكون العلوي.
نظرياً، تحدث الشرع عن نظام الشورى الإسلامي وعن أهل الحل والعقد بوصفه النظام البديل عن الديمقراطية والانتخابات التي تفضي إلى حكومة وبرلمان يشرع القوانين. وعملياً، تسير هيئة تحرير الشام على خطى ثابتة في التمدد الأفقي داخل مؤسسات ومفاصل الدولة، وبشكل خاص في الأطر التي تشكل في الأدبيات السياسية ما تعرف بـ«الدولة العميقة»، وهي مؤسسات الجيش والأجهزة الأمنية (التي تحمي وتقمع) ونظام القضاء (الذي يفصُل) ومناهج التعليم (التي تشكل الوعي) ووسائل الإعلام (التي توجه وتصنع الرأي العام). وينشغل الشرع حالياً في إقناع رفاقه في الهيئة بطبيعة المرحلة. ويدور النقاش حول طرق وأساليب التمكين والتغلغل وتأجيل اتخاذ القرارات السريعة الحاسمة قبل أن تنضج الظروف ووجوب مراعاة الحساسيات العربية والدولية والحاجة الماسة للخارج لجهة الاسهام في إعادة إعمار سوريا وتأمين مصادر الحياة والعيش لملايين السوريين الواقعين تحت خط الفقر عملياً والبدء في بناء سوريا المهدمة فعلاً. ومن هنا، يأتي الحديث ضبابياً وغير واضح المعالم لا عن الدولة المدنية الديمقراطية، كما ينشد أغلبية السوريين، ولا عن دولة الشريعة والحاكمية لله، كما ينشد عناصر وقيادات هيئة تحرير الشام المحلية منها والأجنبية. الواضح أنه لم يتم حسم الأمر داخل الهيئة ولم يتم الاتفاق بعد على معالم المرحلة المؤقتة حالياً. هناك من يفضل التريث والتمكين، وهناك من تأخذه الحماسة ويريد تغييراً خاطفاً مباغتاً، على شاكلة الزحف الذي حدث على دمشق، والذي وطد «حكم الإمام المتغلب» بعد «انتزاع ملك الأسد».
وبانتظار الحسم في ملفات الحكم وشكل وإدارة الدولة داخل هيئة تحرير الشام، تبقى العلاقات بين المركز في دمشق والأطراف السورية، الإدارية والمكوناتية، مضطربة وشديدة التجاذب والاستقطاب. وفي حين تتجنب هيئة تحرير الشام الحديث علانية وصراحة عن رؤيتها بشأن مطالب المكونات السورية وفي اللامركزية الإدارية وتمضي في الحديث العام غير المفصل وتنخرط في الحوار مع بعض الأطراف (قوات سوريا الديمقراطية مثالاً)، تعمل الآلة الدعائية القريبة من السلطة الجديدة، وتلك المشتغلة عند الممول التركي والقطري تحديداً، في شن حملة تشويه وافتراء وتخوين، تصل في بعض مدياتها إلى دعوات فاشية مطلقة بالإبادة والتطهير العرقي، بحق المكونات السورية التي تطالب باللامركزية التي تضمن لها خصوصياتها وتؤمن لها إدارة محلية لمناطقها بكوادرها الذاتية بعيداً عن الأيادي والأصوات والأفكار الغريبة ذات اللون الأحادي المتعصب والمتطرف ذاك. وتطال الحملات الموجهة المركزّة من الإعلام السوري المأجور من قبل رأس المال الأجنبي بشكل خاص المكونات الكردية (إقليم شمال وشرق سوريا) والدرزية (محافظة السويداء) والعلوية (الساحل السوري) والمسيحية (مناطق الداخل)، حيث الرفض التام لمطالب هذه المكونات السورية والدعوات الموتورة التي تطالب هيئة تحرير الشام بالزحف والعمل العسكري والقضاء المبرم على كل دعوات اللامركزية والخصوصيات الأثنية أو الدينية أو المذهبية. تتمادى هذه الأصوات التي تتغاضى عنها أجهزة الهيئة أكثر وأكثر في التخوين والتحريض والمطالبة بالحرب الداخلية السورية. إنها نخبة من الصحافيين والإعلاميين والنشطاء، منهم من كان في إعلام «الثورة» قبل التغيير (حيث التوجيه والقبض من تركيا وقطر)، ومنهم من كان جزءاً من آلة الدعاية التابعة للنظام الآفل و«كوّع» مؤخراً ليمارس نفس الفاشية ونفس التفلت من أي شعور وطني وأخلاقي وإنساني ضمن آلة الدعاية التي تدعّي قربها من النظام الجديد.
إن الأصوات التي تدعو السلطة المؤقتة في دمشق إلى رفض الحوار مع المكونات والمناطق الإدارية السورية وترجّح الحرب والحسم العسكري وتطلب تثبيت أركان نظام أحادي مركزي شمولي قائم على حكم غاية في التطرف المذهبي ترفضه أغلبية الطائفة السنية السورية هي أصوات غير وطنية لا تريد خير سوريا وأهلها. إنها تحوير أكثر خطراً ودماراً للفاشية القديمة زمن النظام الآفل. هي تريد مسخ «سوريا الجديدة» وتحويلها إلى إمارة ظلامية ودولة فاشلة يتقاتل أهلها ويتذابحون في حرب الكل ضد الكل. يمثل السماح لمثل هذه الأصوات بمواصلة دعوات التخوين والحرب والتطهير العرقي والإبادة طعنة لتضحيات السوريين الذين خرجوا على النظام السابق ودفع بعضهم حياته من أجل دولة يحكمها نظام يقوم على الحريات والقانون والمواطنة الحقيقية. بالإضافة إلى ملاحقة مثل هذه الأصوات وتجريمها بتهمة التحريض على القتل والابادة الجماعية، تحتاج سوريا إلى ميثاق شرف إعلامي يرسم الخطوط الرئيسية للعمل الإعلامي ضمن المصلحة الوطنية التي تشمل كل أبناء الوطن السوري.
يزيد النزوع الفاشي الواضح لدى فئة من المشتغلين في حقول الإعلام والصحافة، أو المنفلتين على وسائل التواصل الاجتماعي، الاحتقان والاستقطاب لدى المكونات السورية التي تخشى دولة «الإمام المتغلب» التي ترى في إمارة أفغانستان مثالاً يحتذى به. نفي بعض مكونات الشعب السوري العرقية والدينية والمذهبية، بعد تمرير تأصيل/تزوير التاريخي، إلى خارج الجغرافيا السورية وربطها بالعدو الخارجي لشرعنة الإجهاز الجسدي بالجملة عليها، يخلق واقعاً مشوهاً مريضاً ونفسية ترى في مواصلة الحروب على الآخر المختلف استمراراً للفعل الثوري و«تطهيراً» لسوريا المتخلية التي يريدونها ظلامية أحادية مركزيّة أسيرة فكر غارق في التطرف والاقصاء والبطش. يٌراد للسلطة الجديدة أن تلاحق هذه الأصوات، وأن تمنع «التظاهرات» التي يخرج فيها البعض هنا وهناك ويرفع علانية شعارات تطالب بالتطهير العرقي و«تحرير» مناطق سورية من أهلها وأبنائها، فقط لأنهم من مكون وفكر مغاير لما هو سائد الآن على الساحة السورية.
ثمة حاجة كذلك إلى توثيق كل الدعوات التي تطالب بالحرب وإزالة مكونات معينة من الخارطة السورية. يجب رصد وملاحقة هذه الأصوات في الداخل والخارج باعتبارها تدعو للحروب ولارتكاب جرائم بحق الإنسانية. إن تكتل القوى الديمقراطية والعلمانية والأصوات الرافضة للفكر الظلامي والفاشية القومية، إلى جانب ملاحقة منظمات حقوق الإنسان القانونية للأصوات المحرضة على العنف، هو ما يمكن المراهنة عليه في إنقاذ سوريا من الغرق في الحرب الأهلية والفوضى الشاملة ومن عبثية ودمار حرب الكل ضد الكل.