د.عقيل سعيد محفوض
تعاني سوريا من “مشكلات بالولادة”، منذ تشكلها دولةً أو شبه دولة بالمعنى الحديث للكلمة في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1914-1918). وتظهر تلك المشكلات مع كل أزمة تشهدها البلاد، كبيرة كانت أو صغيرة. وحتى الآن لا يبدو أن ثمة إمكانية لـ”تجاوزها”، ولا من يحاول ذلك بالقدر المطلوب من الهمة والجدية، أو ان من حاولوا لم يصيبوا قدراً مهمهاً من النجاح.
التشكل الكياني
غالباً ما كانت “سوريا” أو “المجال السوري”، جزءاً من إمبراطوريات وأنماط حكم وسلطة أوسع منه، وفي الوقت نفسه مقسمة إلى نطاقات حكم وسلطة متوافقة أو متصارعة فيما بينها. وثمة كلام كثير عن أن سوريا لم تحكم من قبل “سوريين” خلال عدة قرون، وأن سوريا كما نعرفها، أي سوريا ما بعد الكولونيالية، قد تكون أول دولة حافظت على تشكلها الكياني والجغرافي لمدة طويلة. وهذا يتطلب المزيد من التقصي والتدقيق.
وعلى الرغم من وجود أفكار عن “سوريا” و”الظاهرة السورية” تشمل جغرافيا ومجتمعات وثقافات ما يُعرف بـ”بلاد الشام” أو “سوريا التاريخية”، بتداخلاتها مع المجال المشرقي التاريخي الأوسع نطاقاً، إلا أنها لم تكن تمثل تياراً عاماً أو سائداً أو حاكماً، فكرياً أو سياسياً، ولا ظاهرة ثقافية أو قيمية عامة؛ الصحيح أنها عبارة عن توجهات لفواعل فكر وثقافة في المقام الأول، ولم تكن شائعة في فضاء ما أصبح يُعرف بـ”سوريا” و”بلاد الشام”. ولم يكن لتلك الأفكار “تَمَثُّلات” أو “تجسيدات” سياسية مؤثرة أو مُقَرِّرَة.
ولا يقف الأمر عند فكرة أو هدف “بناء دولة” في سوريا، بالمعنى الذي كنا نعرفه، وقد حدث شيء من ذلك خلال فترة الانتداب أو ما يعرف بـ”الدولة الكولونيالية”، وحتى ما بعد الانتداب أو ما يعرف بـ”الدولة الوطنية” أو “دولة الاستقلال”، ولو أن هذا أمر مفهوم ومشروع، وإنما هدف بناء “دولة سورية”. وهذه مسألة بالغة الصعوبة والتعقيد.
بصمة التأسيس
يبدو أن “بصمة التشكل” أو “التأسيس” لا تزال حاكمة بكيفية أو أخرى للظاهرة الدولتية والمجتمعية السورية. والأمر لا يقف عند السوريين أو لا يقتصر عليهم، ذلك أن تلك المشكلات تضعهم في تفاعل أو احتكاك مع فواعل أخرى، وخاصة المشكلات الكيانية والجغرافية والحدودية ومشكلات الدولنة، وبالطبع ديناميات التحالف والصراع في الإقليم.
ومعروف أن ذلك التشكل الكياني والدولتي لم يكن من فعل السوريين (أو ما سوف يعرف لاحقاً بالسوريين) أنفسهم، إذ لم يُسأَلوا عنه أو تؤخذ رغباتهم وتطلعاتهم بالاعتبار إلا قليلاً. وأصبحوا –على الأغلب أو بحكم الأمر الواقع (الدولتي، والإقليمي، والعالمي) “سوريين” بالمعنى السياسي والقانوني في المقام الأول، وليس بالضرورة بالمعنى الهووي والثقافي والقيمي والتاريخي، إذ ان الحدود الدولتية أدرجت أناساً أو جماعات لم تكن في أفق سوريا في الداخل، وتركت أو أقصت جماعات سوريّة خارج الحدود، وضمتهم إلى دول أخرى تم تشكيلها كولونيالياً أيضاً. وهذه مسألة تتطلب المزيد من التقصي والتدقيق.
إخفاق تاريخي
أخفق السوريون في “مفهمة” معنى وفكرة سوريا، ومبنى كيانية سوريَّة، وكلمة كيانية هنا ليست تقليلاً أو انتقاصاً من “الدولنة” أو ما كان من “دولنة” في سوريا منذ العام 1918 على وجه التقريب أو التقدير، على الرغم من أن التفكير أو الخطاب السياسي، الرسمي أو شبه الرسمي، وحتى ما كان منه خارجهما، كان “مرتاباً” من “الدولنة” في سوريا. كان ثمة طموحات أكبر من حدود دولة سايكس-بيكو وما بعدها. وبالطبع هواجس من “الدولنة” أو “الدولة” نفسها، بسبب مخاوف أصلية عميقة من كل أشكال السلطة التي حكمتهم خلال عقود أو قرون طويلة، لدرجة أمكن – من منظور البعض- الحديث عن نزعات “لا دولة” أو “مضادة للدولنة” في سوريا، بالمعنى الذي يرد في الانثروبولوجيا السياسية. وقد ينسحب ذلك على الإقليم بصورة عامة.
هذا الإخفاق، كان يضع سوريا، المجتمع والدولة، تحت تهديد وجودي بالفعل، مع كل أزمة تشهدها البلاد، وجعل منها تكوينات، مرة أخرى: المجتمع والدولة أو “ما يُعدُّ مجتمعاً” و”ما يُعدُّ دولة”، هشة وتحت تأثير ديناميات ولاء وانتماء وتشكيل، بقدر قليل جداً من المناعة ضد عوامل كثيرة: التغلغل الخارجي، الاستبداد الداخلي، الانقسامية الاجتماعية على أسس قبلية ودينية وجهوية وعائلية، الطائفية، قابلية الصراع الاجتماعي، الخ
التباس جماعي
ولدى “السوريين” نوع من “الالتباس الجماعي” في وعيهم بأنفسهم، ثمة “ادعاءات هووية” تتمظهر تحت عناوين وطنية وقومية وحتى طبقية، لكنها ليست عميقة، بل “نكوصية”، إذ ترتد مدارك ونزعات الهوية إلى “ما دون الدولة” وحتى إلى “ما هو عابر” لها، إذا أخذنا بالاعتبار أن التكوينات الاجتماعية، على تنويعاتها، هي تكوينات عابرة للدولة.
وهكذا، يكون من السهل ارتداد الناس من الإيديولوجيات والمقولات والشعارات القومية أو ربما الحداثية إلى مقولات وشعارات وممارسات دينية أو طائفية، أو تعصب إثني عرقي/ قومي، أو تشكيل يمزج بين التعصب الديني الطائفي وبين التشكل الإثني العرقي/القومي، وهو ارتداد سواء بـ”وعي” و”قصدية” أم “لا وعي” و”تلقائية”!
والواقع أن تعبير “مجتمع سوري” أو “مجتمع في سوريا”، وهما ليسا سواء، لا يحيل إلى واقع أو وقائع تبرر نفسها، ذلك أن السوريين لم يتشكلوا “مجتمعاً” بالمعنى المعروف والحداثي لكلمة مجتمع. والصحيح أن التشكل الحداثي ما كان أكثر من قشرة على السطح، فيما كانت تعتمل ديناميات انقسام واستقطاب وتشكل طائفية وعرقية وقبلية وجهوية ومناطقية الخ على قدر كبير من التعدد والتداخل والتخارج، الأمر الذي ظهر بأشكال فجة خلال السنوات الماضية، وبالأخص خلال سنوات الأزمة والصراع.
نفاق اجتماعي!
يعزز ذلك حالة من “النفاق الاجتماعي”، الجماعي أو شبه الجماعي أيضاً، يدفع شريحة قد تكون كبيرة من الناس لنوع من التكاذب الاجتماعي، وإلى حد ما الجماعي أيضاً، وإظهار توافقات وأنماط قيم عابرة للجماعة أو الملة أو الطائفة الخ وهذا أمر مفيد على العموم، إلا أنه لا يصمد كثيراً أمام ديناميات التجييش والاستقطاب في حالات التوتر والأزمة.
وظهر في حالة سقوط النظام وسيطرة “هيئة تحرير الشام” على السلطة في دمشق (كانون الأول/ديسمبر 2024) وما بعد، نوع من “ركوب الموجة” و”اقتناص الفرصة”، من قبل شريحة كبيرة من الناس، لتبني خطاب “الثورة” و”الحرية”، وفي الوقت نفسه خطاب “الأسلمة” و”التطييف” و”المذهبة” الخ و”بنوع من المنعكس النفسي السوسيولوجي، ونوع من الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تعكس مدارك عميقة حول السياسة والسلطة وحكم الأمر الواقع.
وفي الختام، يبدو أن سوريا أو ما يُعرف باسم “سوريا”، تعاني من مشكلات وجودية أو تأسيسية أو أنطولوجية، إن أمكن التعبير، أو “مشكلات بالولادة”، لم يمكن تجاوزها، بل إن ثمة “ديناميات تثبيت” و”إنتاج” و”إعادة إنتاج” لها (المشكلات)، كما لو أنها قدر لا فكاك منه. والصحيح أن ما تعانيه سوريا اليوم، ليس فريداً من نوعه، ولا هو خاص بها وحدها، وقد أمكن لكيانيات وتشكلات دولتية حول العالم أن تتجاوز لحظات التأسيس أو التشكيل الدولتي، بقدر متفاوت من النجاح، لم تصب منه سوريا إلا القليل، ولو أن من المؤمل أن تكون (تظهر) شريحة من السوريين، تكون قادرة على التفكير، واقتراح الأطر والأجندات الجماعية والتوافقية من أجل تفكيك مشكلات الحاضر والمستقبل، ووضع أو اقتراح بدائل لها.
والأمل -في مثل هذه الظروف- ليس عيباً ولا حراماً!