حافظ الأسد.. قراءة في حكمه وإرثه السياسي

محمد سيد رصاص

في كتاب محمد حيدر «البعث والبينونة الكبرى» (طبعة 1998، من غير تحديد جهة النشر) نجد العبارة التالية في الحديث عن قرار مؤتمر حزب البعث بتنحية وزير الدفاع حافظ الأسد ورئيس الأركان مصطفى طلاس من منصبيهما: «وفي اعتقادي أن اللواء صلاح جديد كان يعرف تماماً أن وزير الدفاع ومن معه لن ينفذوا القرار المشار إليه، وأنهم سيضطرون لاتخاذ اجراء يدفعهم لواجهة السلطة، وهكذا يرغمهم على الظهور في وضع غير شرعي بالنسبة للحزب، ويبدو أنه كان واقعاً تحت وهم غضب الجماهير الكادحة وقدرتها على إحباط حركة الجيش.. [و] كان يتصور أن وزير الدفاع عاجز عن قيادة البلد» (ص186). ويبدو أن هذا كان رأيه فيه منذ عام 1964 عندما وقف ضد محمد عمران الذي رفض ترفيع حافظ الأسد إلى رتبة لواء، وكذلك عندما منحه وزارة الدفاع بعد حركة 23 فبراير/شباط 1966، ما استجر على اللواء صلاح غضب سليم حاطوم وغيره من الضباط الدروز الذين لعبوا دوراً رئيسياً في تلك الحركة. وعلى الأرجح، أن ثلاث صفحات من مداخلة حافظ الأسد في ذلك المؤتمر (الصفحات 197-198-199 من كتاب محمد حيدر) عززت هذا الانطباع عند اللواء صلاح عن ضعف شخصية حافظ الأسد حينما تحدث الأخير كيف كانت السلطة تنتقل حيث كان يغيّر اللواء صلاح في المناصب (معاون مدير شؤون الضباط- رئيس الأركان- القيادة القومية- القيادة القطرية- الأمين العام المساعد للحزب) في سرد يمكن أن يختلط فيه الإعجاب والحسد والرهبة والكراهية. وإلا لا يمكن تفسير كيف بعد كلامه هذا بأيام قام بوضعه في السجن لثلاثة وعشرون عاماً حتى مات في 1993.
هنا، لا يمكن معرفة إن كان اللواء صلاح جديد أدرك خطأ تقييمه لحافظ الأسد حينما اجتمع في صباح 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1970، أي اليوم التالي لانتهاء المؤتمر، مع السفير السوفياتي نور الدين محيدينوف وطرح عليه الأخير «الاعتراف بالقرار 242 مقابل الضغط لإيقاف إجراءات الانقلاب التي بدأ الفريق حافظ الأسد باتخاذها» (مروان حبش: «أضواء وحقائق يرويها شاهد عيان حول الردة التشرينية»، الحلقة الأولى، نشرت على صفحته على فيسبوك). ثم تم اعتقاله بعد ظهر ذلك اليوم بعد أن رفض ما عرض عليه السفير السوفياتي. وربما أيضاً لم يقرأ الأبعاد الدولية التي تصل حتى واشنطن وتل أبيب لقرار وزير الدفاع السوري بعدم منح التغطية الجوية للقوات السورية التي دخلت قبل شهرين لمساندة قوات المقاومة الفلسطينية ضد الجيش الأردني. وعلى الأرجح أنه كان لا يعرف أن القيادي في جماعة الاخوان المسلمين أمين يكن كان منذ عام 1969 على صلة مع حافظ الأسد، هذا غير صلاته مع تجار دمشق. وربما كان ما سبق يلخص سهولة سيرورة انقلاب 13-16 نوفمبر/تشرين الثاني 1970. ولكن ديمومة واستقرار حكم حافظ الأسد حتى عام 2000 تلخصها صورة له وهو خارج من صلاة العيد ويتوسط فيها نقيب تجار دمشق الحاج بدرالدين الشلاح والشيخ أحمد كفتارو المفتي العام للجمهورية وشيخ الطريقة النقشبندية.
يمكن تلخيص طريقة حكم حافظ الأسد من خلال ما رواه الدكتور جمال الأتاسي في عام 1996 عن ما جرى بينه من حديث أخير مع حافظ الأسد في بداية عام 1973 حينما اعترض على المادة الثامنة من مشروع الدستور التي تقول إن «حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع» وطالب بنشر الحريات، حيث قال له حافظ الأسد إن الناس لا تريد الحرية بل هم «ثلاث فئات: الأولى تريد أن تأكل وتشرب وتعلم أولادها جيداً، وهؤلاء تسعون في المئة من السوريين وسنرضيهم، والثانية تعارض الحاكم ورأسها يابس وسنقوم بتليينه بالمناصب والاغراء المادي وهؤلاء خمسة في المئة من السوريين. أما الخمسة في المئة الباقون فمعارضون عنيدون وهؤلاء نهايتهم في السجن». كما أن صورته مع الشلاح وكفتارو تسمي وتُعيِن الأعمدة الداخلية الثلاث لنظام حكمه حيث مؤسسة عسكرية- أمنية يسيطر على مفاصلها ضباط علويون متحالفة مع تجار ورجال أعمال وصناعيين أغلبهم من سنة المدن الكبرى، فيما ثالث هذا الثالوث مؤسسة الإسلام الرسمي المشيخية السنية بفرعيها الإفتائي والوقفي وتفرعاتها من طرق صوفية ومن تنظيمات مثل القبيسيات، هذا عدا عن الحركة السلفية الدعوية التي وقفت مع السلطة ضد جماعة الإخوان المسلمين في أحداث 1979-1982، والتي تؤمن بمناصحة الحاكم وعدم الخروج عليه وأن «الخروج فتنة»، مثلها مثل الشيخ كفتارو والشيخ الأشعري الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.
على الصعيد الداخلي، لاقى حافظ الأسد شعبية كبيرة في الداخل بانت مظاهرها في ترحيب تجار دمشق به والدمشقيون عموماً. وعندما ترشح لرئاسة الجمهورية عام 1971، فإن حماة وحلب استقبلته استقبالات شعبية لم تكن توازيها سوى التي جرت لجمال عبدالناصر في المدينتين زمن الوحدة. ويمكن أن يكون ذلك تعبيراً عن ضيق سكان المدن من النزعة اليسارية التي لدى نظام 23 فبراير/شباط، ولكنه على الأرجح كان ترحيباً تجاه انفتاح سياسي- اقتصادي- اجتماعي أبداه نظام 13-16 نوفمبر/تشرين الثاني. لم يمارس حافظ الأسد القمع المنظم سوى ما أظهره ضد تنظيمات مدنية وعسكرية لـ«الشباطيين»، أي جماعة 23 فبراير/شباط، ثم لبعث العراق الذي ظهر له في ربيع 1975 تنظيم كبير كان يرأسه مروان الحموي، مدير وكالة سانا. وعندما قام الإخوان المسلمون باحتجاجات عام 1973 ضد الدستور في حماة واللاذقية، فإن الاعتقالات كانت محدودة ثم ما لبث أن أفرج عن المعتقلين عام 1975 باستثناء الشيخ سعيد حوى الذي أفرج عنه قبيل استفتاء الرئاسة في فبراير/شباط 1978. ولكن عندما بادره الإسلاميون بالصدام المسلح صيف 1979 ورأت القوى اليسارية في ذلك فرصة لطرح برامجها عبر «التجمع الوطني الديمقراطي» أو عبر «رابطة العمل الشيوعي»، فإنه بطش بالجميع في موجة قمع عنيف لم يخفف منها إلا عندما استقر نظامه مع دخوله التحالف الدولي ضد العراق بعد غزو صدام حسين للكويت في صيف 1990.
أما في الاقتصاد، فإن عهده شهد بروز رأسمالية جديدة إثر موت الرأسمالية القديمة بعد 8 مارس/آذار 1963، وكانت عبارة عن تلاقح لأغنياء جدد أثروا عبر مراكزهم في السلطة أو لرأسماليين اغتنوا من خلال تشاركهم مع مسؤولين في السلطة، عبر مرحلتين: الأولى بنظام المتعهدين الذين تعتمدهم مؤسسات الدولة لتنفيذ مشاريعها، وهذا بدأ منذ عام 1974، والثاني عام 1991 مع المرسوم 10 الذي سمح لمالكي رأس المال بالاستثمار. ورغم الأزمة الاقتصادية التي برزت في فترة 1985-1990، فإن القمع واحتكار السلطة لم يترافق لدى حافظ الأسد مع سياسة الإفقار التي مارسها ابنه تجاه الفئات الوسطى التي ظلت لثلاثة عقود المحرّك الاقتصادي للسوق.
على صعيد السياسة الخارجية، كان واضحاً أن هناك رضا دولي في معسكري الحرب الباردة عن نظام حافظ الأسد الذي قبِل بالقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن الدولي بعيد حرب 1967. وهو أتى للسلطة كحصيلة لتفاهم الكرملين والبيت الأبيض حيال منطقة الشرق الأوسط، في ظل ارتياحهما لزوال نظام كان لا يتقيد بالخطوط الحمر الدولية، كما ظهر من خلال التدخل العسكري السوري في الأردن في سبتمبر/أيلول 1970. وهو ارتياح شاركهما فيه الرئيس المصري أنور السادات والملك فيصل في السعودية. وحينما صنعا حرب 1973 مع حافظ الأسد، فإنهما أرادا «التحريك» وليس «التحرير» بهدف إيجاد تسوية وفق القرار 242 للصراع العربي- الإسرائيلي. ولكن بدأت خلافات الأسد- السادات عندما ذهب الأخير باتجاه التسوية المنفردة في فصل قوات «الكيلو 101» عام 1974 ثم اتفاقية سيناء عام 1975. وكانت القطيعة بعد زيارة السادات إسرائيل عام 1977 وما تبعها من اتفاقيات كامب دافيد. هنا، يمكن ملاحظة أن حافظ الأسد لم يختلف مع السعودية طوال فترة حكمه. وأتى خلافه مع مصر بسبب انفرادية السادات وليس بمبادرة منه. أما مع العراق، فكان خلافاً مزمناً حاولت دمشق كسره لموازنة غياب مصر من خلال التقارب مع بغداد بعد اتفاقيات كامب دافيد خريف 1978. ولكن كل ذلك انتهى مع إطاحة صدام حسين بأحمد حسن البكر في صيف 1979. على صعيد العلاقة مع موسكو، حصل الخلاف الوحيد لدى التدخل العسكري السوري في لبنان عام 1976 ضد المقاومة الفلسطينية واليسار اللبناني، وهو التدخل الذي دشن تفاهم حافظ الأسد مع واشنطن. واستمر هذا التفاهم حتى يوم وفاته، ولم يقطعه سوى تغطية واشنطن لاجتياح إسرائيل للبنان في صيف 1982 وبقي إلى خريف 1989 عندما عاد التفاهم السوري- الأميركي حول لبنان عبر اتفاق الطائف. ثم تكرس ذلك عبر التحالف الدولي ضد العراق الذي كان أحد أثمانه إزاحة ميشال عون من قصر بعبدا في أكتوبر/تشرين الأول 1990 وتكريس أميركي للهيمنة السورية على لبنان. والأرجح أن تقارب حافظ الأسد مع واشنطن كان قراءة منه منذ عام 1989 لخريف القوة السوفياتية العالمية وللقطبية الأميركية الأحادية الجديدة للعالم. والأغلب هنا أن إدخاله الإيرانيين للبنان صيف 1982 كان رد فعل على التأييد الأميركي للاجتياح الإسرائيلي. وحين فاوض تل أبيب في التسعينيات من أجل تسوية سورية- إسرائيلية، احتاج لحزب الله في جنوب لبنان كعامل ضغط على الإسرائيليين مع عدم قدرته على استخدام الجولان من أجل ذلك. كما ظل حليفاً حذراً لطهران ولم يتحول لتابع لها مثل ابنه.
بالمجمل: كان حافظ الأسد لاعباً كبيراً في السياسة الإقليمية مع دول الإقليم ومع الدول الكبرى المؤثرة في منطقة الشرق الأوسط. وهو قارئ ماهر للوحة الجغرا-سياسية وتحولاتها. واستطاع في فترة 1976-2000 أن يجعل سوريا لاعباً كبيراً في المنطقة وليست كما كانت من قبل ميداناً للصراع على سوريا وللصراع في سوريا. كما كان قارئاً بارعاً لتوازنات الداخل السوري. ولكنه كان رجل سلطة يعرف كيف يقويها ويدعمها ويمنع الانقلاب عليها. إلا أنه لم يكن رجل دولة ينشئ مؤسسات تستمر بعده. والأرجح، أن بذور الخراب التي ظهرت بين عامي 2011-2024 كانت حصيلة لما اقترفه.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد