شورش درويش
غير قليلة كانت الأصوات السوريّة التي شجبت النصائح الأوروبية التي عرضتها وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك رفقة زميلها الفرنسي جان نويل بارو على الإدارة السورية المؤقّتة. بل إن الشجب أخذ طابع التعريض الذي طاول سلوك الوزيرة الألمانية وهيئتها الخارجية، حيث طفت إلى السطح عبارات من قبيل أننا لا نريد تدخّلاً خارجياً، وأننا قادرون على حلّ مشاكلنا بعيداً عن التدخّل الخارجي والإملاءات الأوروبية.
لم ترد إدارة أحمد الشرع بشكلٍ رسميّ على الرؤية الأوروبية، لا سيما خطّة النقاط الثماني التي طرحتها برلين، لكنها ربما تركت أمر ذلك لطاقمٍ إعلاميّ يؤيّدها. بلغت حدود الردّ القول بأننا لا نحتاج إلى المساعدات الأوروبية، على ما تحمله مثل هذه المواقف من اعتباط وانعدام للمسؤولية تجاه بلدٍ مُفقر ومعوز بحاجة ماسة لعون الدول ومساعدتها، فوق أن ملف العقوبات مازال بحاجة إلى معاينة وتدقيق غربي أميركي يحسم أمرها.
يمكن معاينة النصائح الألمانية الفرنسية ووصفها بأنها جاءت في صالح العملية الانتقالية والرغبة في الخروج بضمانات تؤدي إلى إنتاج عملية سياسية لا تستثني الجماعات الدينية والقومية وتدعم مشاركة المرأة، في وقت تُظهر الإدارة المؤقّتة مساعيها لوضع الحوار الوطني في عهدة المجتمع الأهلي بدل المجتمع المدني والأحزاب ونشطاء الشأن العام.
قبل قليل من زيارة وزيري الخارجية الأوروبيين، خرج وزير العدل في حكومة الإدارة ليقول إن تسعين بالمئة من السوريين هم مسلمون، ما يشير وضوحاً إلى نظرة راسخة تتحدّث عن أكثرية وأقلّية دينية. لم يثر حديث الوزير اعتراضات واضحة حين تحدث باسم كل المسلمين وتقسيمه السوريين إلى أكثرية وأقلية وقوله إن من حقّ هذه الأكثرية الدعوة لحكم الشريعة. وعلى العكس من ذلك، شدّ التركيز الأوروبي المنصبّ على وجوب احترام الأقليات والكرد وتضمينهم في العملية السياسية من عصب المغرمين بخطاب السلطة الجديدة.
واقعياً، يذكّر الحديث عن أكثرية مسلمة هذه المرّة بمفهوم الأكثرية العربيّة زمن سلطة البعث وما أفرزه من استبعاد للكرد من دائرة الحضور السياسي والمشاركة الثقافية. ولعل احتكار الكلام والحكم باسم أكثرية غير سياسية يعني على الدوام تحوير مفهوم المواطنة المتساوية ومسحه. ولئن مثّل تضمين الأقليات في العملية السياسية والدستورية الأساس لتشكيل الهوية الوطنية الجامعة، فإن احتكار هذه الهوية لصالح أكثرية غير سياسية سيؤدّي إلى نتيجتين متصلتين: تصوّر الجماعة المتغلّبة التي وصلت إلى السلطة بالقوّة بأنها الممثل الوحيد والحصري للأكثرية، ووضع الأكثرية القومية أو الدينية الفعليّة في مقام الأقليّة حين يفقدها المتغلّبون الجدد كل حقوقهم السياسية.
من المثير القول إن الاشتراطات الأوروبية تتقاطع مع ما جاء في البيان الختامي لمجموعة الاتصال الوزارية العربية المنعقدة في العقبة، حيث دعت المجموعة لحوار سوريّ شامل وإنجاز عملية انتقال سلمي برعاية الأمم المتحدة والجامعة العربية. ومعنى الحوار الشامل هو أن لا يستثنى أي طرف أو جماعة سورية عن مجريات الحوار المأمول، وهو الموقف ذاته الذي قالته كلٌّ من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات. لكن يبدو أن وقع الكلام الغربيّ، وإن تقاطع مع العربي في المؤدّى والنتيجة، يدفع طائفة سورية واسعة إلى استهجان كلام «الرجل الأبيض» الموضوع في خانة «الوصي»، فيما يجري تفهّم ما تقوله الدول العربية على نحو أفضل. وفي مجمل الأحوال، يبقى التذكير بأن الأطراف الغربية تنسّق مع الدول العربية ويتقاسمان المخاوف ذاتها وشيئاً من التطلّعات المشتركة.
يبرز أيضاً في سياق المفاضلة بين خارج وآخر النصائح أو الاشتراطات التركية. فما تقوله الجارة اللدود لكرد سوريا ما يزال مسكوناً بأضاليل الأمن القومي المزعومة والجموح تحت ستار هذا الأمن المتطلّب نحو وضع سوريا تحت الوصاية التركية عبر الدعوة إلى إبرام اتفاقيات أمنية وعسكرية مستعجلة وترسيمات حدودية برية وبحرية، فضلاً عن التصوّرات الفجّة حول شكل الدولة والتعاطي مع الكرد وإدارة ملف الأقليات. فخلال الأيام الماضية، تحدث وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بدلاً من أحمد الشرع حول حقوق الأقليات السوريّة قائلاً إنه «لا توجد مشكلة بهذا الخصوص حالياً، لكون الإدارة الجديدة ضامنة لحقوق الأقليات». أما كيف وما هي الضمانات فإنها تبقى في عهدة الوزير التركي الذي وضع أيضاً تصوّرات بلاده الأمنية للتعامل مع قضية كرد سوريا دون أن يعطي الحق للسوريين لمعالجة هذه المسألة، وهو ما يعيدنا إلى نهج تدخّلي حاد تفضّله تركيا على دفع الأطراف السورية إلى التلاقي وحل خلافاتهم بأنفسهم حتى وإن جاء الحل بشكل يخفف من ذرائع تركيا ومخاوفها.
يبدو أن ما تقوله أنقرة فيما خص مستقبل سوريا لا يستفزّ طائفة السوريين الرافضين للتدخّلات الخارجيّة، وهو ما يعني ضعف هذه الذريعة طالما أنّها تميّز بين «خارجَين».
ثمة إلى ذلك شعور بالتذاكي مفاده وضع الغرب في مقام الشرطي الذي يتوجّب عليه تلبية خدمة عامّة للمتصلين به عند الحاجة. ففي وقت يرفض سوريون «التدخّل الغربي» في شؤوننا الداخلية، فإن بعض أولئك الرافضين كان طلب في سبتمبر/أيلول عام 2011 من خلال «جمعة الحماية الدوليّة» بتدخّل دولي لحماية السوريين من بطش النظام. تعني هذه الازدواجية أن الانفصال عن الغرب، أو بمعنى آخر عن العالم، سيقود السوريين إلى سجن أنفسهم داخل بلادهم ولن يحقّ لهم المطالبة تالياً بإنقاذهم حال قيام طغيانٍ جديد، خاصة إذا أتقنت السلطات الحاليّة أو اللاحقة اللعب على ملف تأمين مصالح الخارج، الأمر الذي سيضع الداخل في دورة طغيانٍ طويلة أين منها دورة عهد الأسدين.
إن إطباق السوريين الباب على أنفسهم بداعي القدرة على إدارة المرحلة بمفردهم يبقى قولاً مخاتلاً. إذ إن طبيعة السلطة المؤقّتة، فوق أنها تثير قلق الغرب وما تزال قياداتها موضوعة على قائمة الإرهاب للأمم المتحدة، يبدو مريباً، خاصّة تلك التصريحات التي تتناول العملية الانتقالية وطبيعة الدولة والمجتمع وشكل الدستور.
قد يتعيّن من باب الرشد السياسي، وربّما الوطنية، التركيز على إنهاء ملف العقوبات عبر القبول بالاشتراطات الغربية التي تصبّ في صالح عملية الانتقال السياسي السلمي والقبول كذلك بعدم تدخّل السلطة في شأن توزيع المساعدات الإنسانية وتأسيس شبكات زبائنية لصالح السلطة المؤقّتة. فيما يبقى ملفّ إعادة الإعمار معقوداً على موافقة الغرب، وإن أبدت دول عربية رغبتها في المساهمة في هذا الجهد. ويدخل في باب النصائح المتزنة إيجاد صيغة تضمين للأقليات الدينية والكرد على السواء، ذلك أن هذا التضمين والمشاركة يمثّل مصلحة وطنية بالدرجة الأساس، سواء طالبت بذلك دول أوروبية أو الولايات المتحدة أم لم تطالب.
ليس الوقت في صالح ارتجال مواقف قصيرة النظر تشكّك على الدوام في مصداقية الدول الغربية وتضيّع على السوريين فرصة إعادة الإعمار والتعافي المبكّر والتحوّل الديمقراطي السلمي. ففي هذه الأثناء، ليس ثمّة تسعين في المئة من الجماعة الفلانية المتخيّلة، بل إن التسعين في المئة الفعليةّ يمثّلها السوريون الواقعون تحت خطّ الفقر على ما قالته آخر تقارير الأمم المتحدة.