سوريا.. أرض القصص الكبرى التي يجب أن تنتهي

شورش درويش

يبدو أن الصراع في سوريا وعليها يستوجب على الدوام استحضار أو اختلاق القصص الكبرى. في هذا المقال، سيتم استعارة مفردة «القصّة» التي برع يوفال نوح هراري في توظيفها ضمن سياق شرحه لأهميّة وجود القصّة في السياق العالمي، ذلك أن العالم كان وما زال بحاجة إلى قصص تُروى. ومن ذلك، كانت قصص الفاشية والشيوعية والليبرالية والتحوّلات التي طرأت على الأخيرة. كان التوق إلى القصّة يعيد الأمل للجماهير أو يصرفهم عن مشكلاتهم الحقيقية؛ بتصريف آخر: يبدّد اختفاء القصّة من وهج الأنظمة السياسية سواء كانت ديمقراطية أم مستبدّة. وجود القصّة هنا هو الدافع الذي يبعد العاطلين واليائسين ومهددي السلطة والراغبين في التغيير عن مواجهة مشكلاتهم الحقيقية. في الأثناء، تطلّ قصّة سوريا الإسلاميّة برأسها بعد أن أُخضعت لقصص الآخرين. وعليه، لا ضير في استعارة هذه المفردة المفتاحية وتوظيفها لفهم ما جرى ويجري في السياق السوري.

قد تكون كلمة «سرديّة» هي الوجه الآخر لكلمة قصّة، إذ درجت الأدبيات السياسية السورية على استخدامها عند وصف تصوّرات الجماعات الأهلية لنفسها أو طرحها لمخاوفها. لكن هذه المفردة قد تشير إلى الماضي بدرجة أساسية، فيما تشير القصّة إلى التهويمات أو التصوّرات التي تخصّ المستقبل.
يمكن القول إن القصة السورية الأولى تمثّلت في مساعي الاتجاهات السياسية منذ تشكّل الكيان السوري لاختلاق قصص ذات منحى واحد، حيث أطلقت قصّة ما بعد جلاء القوات الفرنسية الخيال للأحزاب المشتقة من الكتلة الوطنية لطرح مسائل الوحدة العربية، سواء كانت وحدة ترابية وسياسية مع الهاشميين في العراق أم أخرى موازية تدور حول الوحدة مع مصر أو الحجاز. كان هذا التأسيس الأوليّ للخروج من سوريّا الضيّقة إلى فضاء عربيّ أرحب التحضير العملي للاتجاهات الأكثر تطرّفاً في عروبتها كحزب البعث الناشئ قبل قليل من نكبة فلسطين.
تفاقم حضور القصّة الوحدوية عندما اتحدت سوريا بمصر. فخسر البلدان اسميهما لصالح الاسم الوليد: الجمهورية العربية المتحدة. وإذا كان اسم سوريا درج استعماله قبل مئة عام ونيّف على وحدتها بمصر، فإن الأخيرة تنازلت عن المعنى التاريخي لاسمها لأجل حلم طوباويّ متعجّل ارتجله قوميو سوريا فوضعوه على طاولة جمال عبد الناصر. ورغم الانفصال سنة 1961، عادو السوريون بناء قصّة الوحدة العربية الرتيبة غير مرّة مذ سيطر انقلابيو البعث على السلطة بعد سنتين على الانفصال، بيد أنها بقيت أقرب إلى لافتة تشير إلى اللاشيء سوى الأبعاد المتصلة بالتعبئة الداخلية والتدخّل في الشؤون العربية.
وُضعت القضية الفلسطينية أيضاً في قلب القصّة السوريّة، وتم تبويبها في باب «الحرية». فالعقيدة الرسمية للبلاد تبنّتها على نحو دعائي لم يخلو من الابتذال في وقت كان الأردنيون واللبنانيون والسوريون، وحتى الفلسطينيون أنفسهم، يئنون من وطأة تدابير البعث وسياساته تجاه الملف الفلسطيني.
لا يمكن القول إن البعث ابتدع القضية الفلسطينية وما لحقها من قصص عن المقاومة والممانعة، لكنه أدخل جميع السوريين في إهاب هذه القضية لصرفهم عن كل ما يتصل بحياتهم السياسية. وفعلياً، كانت فلسطين هي المساحة الخضراء للعمل السياسي الموالي والمعارض ونقطة التقاء معظم السوريين والقصّة الأثيرة للسوريين حتى 2011 حين بدّل عنف النظام ووقائع الحرب السورية من المنظور السوري العام تجاه النزاع الفلسطيني الإسرائيلي بشكل شبه جذري. ففيما كان النظام يقتل بصنوف الأسلحة كلها مؤيّدي فلسطين، أي السوريين، ويُحضر الإيراني ومقاتلي حزب الله لأداء مناسك قتل السوريين ومحق كل حلّ سياسي وإنساني باسم الطريق إلى القدس، كان السوريون تجاوزا القضية الفلسطينية إلى حيث قضيتهم نفسها المبنيّة على توقٍ شديد للتخلّص من نظام القتل والتهجير المستعين بالخارج لقهر الداخل ومحقه بقسوة غير مسبوقة.

بابل المسلّحة

ساهمت الحرب السورية المفتوحة في بلوغ البلاد مرحلة التدخّل الخارجي وتحوّل سوريا إلى مشاعٍ للجهاديين السنّة والشيعة على السواء. غدت سوريا أقرب إلى بابل جديدة: أخلاط بشرية وثقافية ولغوية تقاتل بعضها وتفتك بالسوريين وتدمّر بلادهم باسم القصص الكبرى التي صاغتها عبارات «الجهاد» و«الأمن القومي» لدول الجوار. وجرى كل ذلك بمباركة الدول المتنافسة على سوريا، قبل أن تتدخل هذه الدول باسمها العاري إلى سوريا في مرحلة لاحقة.
افتتح النظام السوري ورهطٌ معارض الطريق أمام اللاعبين الدوليين والإقليميين للتواجد على الأرض السورية، فانطلقت إلى قلب الحرب السورية قصص أعظم:
قررت روسيا أواخر عام 2015 أن تحرس دمشق وتراكم الممتلكات في سوريا وتوقّع العقود في مجالات النفط والطاقة وتستولي على مقدّرات البلد الأهم على الشريط الساحلي البالغ طوله 180 كم. وبنى منظّرو البوتينية قصّة قوّتهم على فكرة أن روسيا هي امبراطورية برّ، فيما واشنطن هي امبراطورية بحر. هذا البحث عن تعادل رمزيّ في الأدبيات الرسمية البوتينية قادها إلى الحرب على أوكرانيا وجعلها تخسر موقعها ونفوذها في سوريا على نحوٍ لا يخلو من إذلال. خسرت موسكوـ مع تمكّن هيئة تحرير الشام من طرد بشار الأسد من دمشق، أحلامها الممتدة ومن زمن القياصرة في البقاء الهانئ على شواطئ المياه الدافئة. وخسرت إلى ذلك أدوارها الاستراتيجية المتوقّعة في الشرق الأوسط التي انطلقت من سوريا منذ أواخر عام 2016 حين بدأت تتأهب لعرض خدماتها على دول خليجية وإقليمية، إن بديلاً أو مكافئاً للمظلّة الأميركية.
في هذه الأثناء بعد أن أُتلفت القصّة الروسية، فإن ما تبقّى لموسكو هو قدرتها على الحفاظ على صفحة واحدة من سيرتها السورية ألا وهي الاحتفاظ بقواعدها العسكرية على المتوسّط. وضع القواعد في خطر رغم التطمينات التي يبديها أحمد الشرع ورغبته في إبداء شيء من المرونة تجاه موسكو لا تطمئن الروس، إذ إن الأقرب للتحقّق هو أفول شمس العلاقات الروسيّة السورية التي بدأت أواسط خمسينيات القرن الماضي، وهو ما ستدلّ عليه طبيعة العقيدة التسلّحية للجيش السوري الجديد. فقد لا يكون تسليح الجيش السوري شرقياً هذه المرّة. زد على ذلك، أن الروس لم يفكّروا بفكرة الأقاليم في سوريا بحيث يكون الساحل السوري إقليماً مستقلّاً ذاتياً تتولّى مهمّة حمايته القوّات الروسيّة. يبقى أنه بعد أن سيطرت هيئة تحرير الشام على محافظتي الساحل وقصباتها، لم يعد بإمكان الروس العيش في مواجهة البحر وظهورهم مكشوفة على أعداء محتملين.
في إزاء روسيا الحالمة، حرّكت تجربة خلافة تنظيم داعش وعنفها المشهدي الأميركيين لتتبعّ قصّة مطاردة الجهاديين التي انطلقت إثر أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، وما حملته المطاردة بعد 13 عاماً من إعادة اكتشاف الكرد بطريقة مغايرة لاكتشافات الثنائي هنري كيسنجر وريتشارد نيكسون نهاية الستينيات.
بلغت الولايات المتحدة أوج انتصاراتها على الإرهاب الذي جسّده التنظيم بالتحالف مع قوات سوريا الديمقراطية في المقلب السوريّ. ومع رغبة دونالد ترامب الاحتفاظ بذكرى الانتصار على «داعش» دون أن يعزّزه، قرّر الرئيس المرتجِل التخلّي عن سوريا المضطربة وإجلاء قواته، لولا أنّ الاستراتيجيين في واشنطن حالوا دون ذلك، لتبرز في زاوية القصّة الأميركية عملية تعقّب النفوذ الإيراني ووجوب تحجيم موقعها في سوريا، خاصّة بعد تحقق نبوءة الاستراتيجيين في واشنطن من أن نفوذ إيران المتنامي في سوريا قد يضرّ بمصالح تل أبيب، وهو ما تحقق بالفعل يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، الأمر الذي أضاف فصلاً آخر للقصّة الأميركية بأن أمن الحليف الإسرائيلي يستوجب مراقبة نشاط الإيرانيين في الممر السوريّ إلى لبنان. في الأثناء، لا يمكن التحقق من تصوّرات ترامب الثاني حول قصة التواجد الأميركي في سوريا مع تمكّن تنظيم القاعدة باسمه الملطّف (هيئة تحرير الشام) من حكم دمشق.
بثقة غير مسبوقة يمكن الحديث عن هزيمة إيران وسقوط برنامجها الإمبريالي في المنطقة وانتهاء امبراطورية الحرس الثوري وتصدع مقولة «صانعو السجّاد» المهرة أصحاب الصبر الاستراتيجي العميق أمام ضربات إسرائيل في لبنان وسوريا، إذ تبدو إيران اليوم أقرب لدولة ثانوية شارفت إلى إغلاق الباب على نفسها بعد أن كانت قوّة إقليمية يعتدّ بها وبنفوذها الحاكم في بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء وعلى طول الخليج الفارسي.
أنفقت طهران عشرات المليارات في سوريا وسخّرت لأجل بسط هيمنتها المغرورة عشرات المليشيات الطائفية من إيران والعراق ولبنان وباكستان وأفغانستان بأعلامها وشاراتها وألسنتها العجماء وشيّدت عشرات المراقد وأحيت قبوراً مندثرة على أنها مراقد لأئمة الشيعة. بل أبعد من ذلك، عبثت إيران بعقائد السوريين فكشف زعماء ووجهاء عشائريون عن روابط قرابتهم بآل البيت وانخرطوا في مجهود إيران التعبويّ لأجل المال والنفوذ والحظوة.
خلال 14 عاماً، أعطت إيران درساً في الغرور والتعالي، إذ لم تدعو ولو لمرّة واحدة إلى أيّ مبادرة لحلّ الأزمة السوريّة بالسبل السياسيّة، بل كانت قصّة إيران صفريّة، أو لنقل انتحاريّة، تدور حول بطلٍ أوحد يجب أن ينتصر في نهاية المطاف على ما قالته النسخة المبتذلة والمنحولة من الشهانامة (كتاب الملوك) التي خطّها آيات الله هذه المرّة.
بالتوازي مع المشروع الإيرانيّ، مضى الأتراك في تأليف قصصهم عن عالمٍ عثمانيّ مُحدث ترفل تحت رايته تنظيمات الإسلام السياسي والجهادي على تنويعاتها. وبدأ استقطاب الأتراك للمعارضين السوريين ذوي الاحتياجات الخاصة المتمثّلة بتلقي التمويلات والعطاءات والمنافع الخاصّة. ولأجل ذلك، رعت تركيا ائتلافاً معارضاً راضخاً للإملاءات التركية على الدوام وفصائل مسلّحة أدخلتها الحكومة التركية في برامج السياحة المسلّحة خارج سوريا في ليبيا وأذربيجان والنيجر. هل يذكّر هذا بأن هذه الفصائل كانت التصوّر الكاريكاتوريّ التركي لـ«فيلق القدس» الإيراني؟ أم يذكّر بالشركات الأمنية التي جمعت أشتات المرتزقة وزجتها في معارك خاصة؟ بطبيعة الحال رعت أنقرة كل الفصائل المناوئة للأسد، بعضها كان ذو طبيعة وظيفية تمثّل بقتال الكرد وتهجيرهم وبعضها الآخر لضبط إيقاع التوازن مع الروس والإيرانيين.
يوم 8 ديسمبر/كانون الأول، أوحت تركيا أنها هي من أسقطت نظام الأسد بمطرقة هيئة تحرير الشام، وسارعت إلى إرسال طلائع استخباراتها إلى دمشق ووزير خارجيتها مرتين ليقرأ بيان الانتصار على طريقة الدول المنتدبة مطالباً إنهاء تجربة الإدارة الذاتية. مسارعة أنقرة تقول أموراً كثيرة من بينها أنها تسعى لاستبدال الهلال الشيعي بآخر سنّي، وأن العقود التي وقّعها الإيرانيون مع الأسد سيجري استبدالها بعقود إذعان تركية تتضمّن ترسيمات حدودية جديدة برّية وبحرية وإقامة قواعد عسكرية ولوجستية. وستتولّى الشركات المتخادمة مع الحكومة مهمّة إعادة إعمار البنية التحتية المدمّرة. ولعل هذه الشراهة التركية لتوقيع عقود استدامة عسكرية تنطوي على تكرار لما قامت به في ليبيا مع حكومتي فائر السراج وعبد الحميد دبيبة.
أبعد من ذلك، لم تخبو قصّة تولّي زعامة العالم السنّي مذ انتهى حكم جماعة الإخوان في مصر وتونس، إذ ترنو تركيا لأن تصبح دمشق المدخل الأوسع لعملية هيمنة إقليمية بالضبط كالتي أجرتها إيران طيلة 14 عاماً خلت. ويعني ذلك أنها تسعى لتصبح جار إسرائيل الجديد. وخلال الأيام الماضية، هتف مناصرو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: «خذنا إلى القدس»، ليجيبهم بتؤدة ولغة عربيّة مستلّة من لكنات السلاطين: «مَن صبر ظفر». في وقت بلغ الترميز التركي أوجه مع شعار المتظاهرين الأتراك وتريندات روّاد مواقع التواصل القائلة: في الأمس آيا صوفيا، واليوم الجامع الأمويّ، وغداً المسجد الأقصى.
والحال، يسعى أردوغان توظيف هزيمة الأسد، الذي كان يدأب على لقائه ومصافحته، في صالح سياساته الداخلية. فخلال الانتخابات البلدية الأخيرة، عاقب جمهور الناخبين حزب العدالة والتنمية عقب ما اعتبروه تقاعس الرئيس عن أداء واجبه تجاه سكان غزّة، فيما الفرصة الآن سانحة أمام أردوغان لصرف أنظار التركي العادي عن ضعف الحكومة أمام إسرائيل، لذا، ستصبح سوريا أوّل الطريق المزعوم نحو القدس في الأدبيات والخطابات الشعبوية للحزب الحاكم، بالضبط مثلما كانت عليه الحال بالنسبة لإيران. ولا غرابة إن مرّت طريق القدس هذه المرّة أيضاً بالقامشلي ودير الزور وحمص ودمشق.
في المجمل، طويت صفحة إيران، وربما روسيا، فيما تبدو تركيا على أوّل الطريق في جعل سوريا محور القصّة التركية المقبلة. هذه مهمّة شاقة ومغامرة في مستنقع يموج بالمتغيّرات والعنف والمفاجآت. ربما على تركيا أن تدرك أنها ستصبح جارة جديدة لإسرائيل، وفق ما يرد في الإعلام الإسرائيلي. لن تعدم تل أبيب الوسائل للتعامل مع ضيفٍ ثقيل لا يقلّ دهاءً عن الإيرانيين. فوق ذلك، باتت تركيا في موقع المنافس الجيوسياسي لعالم عربيّ طَموح تتزعمه السعودية والإمارات، وهذا التنافس قد يضعها في مرمى التنافس الإقليمي على ما قالته تجربة إيران.

الأفق المسدود أو «من يُحرِّر يُقرِّر»

بعد سقوط النظام، برز شعار «من يحرّر يقرّر». وهو انعكاس مضلِّل وعملي لرؤية شرعيّة تتحدث عن المتغلّب بالسيف الذي تجب طاعته ولا يجوز الخروج عليه. مثل هذه الرؤية، تقدّم لنا أحمد الشرع، باسمه المقيّد في سجلّات النفوس السورية، حاكماً يقرّر شكل الحوار الوطني والعملية الانتقالية وتوقيتها وتصوّراته للنظام القادم وشكل إدارة الدولة وكيفية التعامل مع النسيج الاجتماعي التعدّدي، فضلاً عن رؤيته وجماعته للدستور والبرلمان والقوانين الواجب تطبيقها.
للشرع قصّة لا يمكنه الفكاك عنها، مفادها أن الرجل قادم من متنٍ جهاديّ صارخ، من داخل تنظيم القاعدة تحديداً. يقوم حكمه على العصبيّة وشبكات القربة والاستناد على الحلقة الخاصّة. ففي حكومته الحالية، أربعة وزراء من مدينة حلفايا بريف حماة، وفيها شقيقه ماهر الشرع. وكل أعضاء حكومته قادمون معه من تجربة حكمه لإدلب. وغاية الأمر أن الوزارة المجرّبة في إدلب هي نواة حكم سوريا لما فيها من تجانس، وأن وقت التطعيم أو التلوين الحكومي لم يحن بعد.
تتبع تجربة القائد الشرع بقصر الشعب، والقائد هنا لفظ إطلاقي ومكافئ لمنصب الرئيس، تؤكّد قدرته على تجنّب الكلمات المؤسِّسة لسوريا الجديدة مثل الديمقراطية والبرلمان والمساواة الجندرية والمواطنة المتساوية، فيما تبرز مفردات الشورى ومجلس الشورى والعقد الاجتماعي عوضاً عنها. ثمة تطلّع لبناء قصّة شبيهة بالتجربة الخمينية في ثنايا تصريحات الجولاني، حيث تصبح الجمهورية كياناً ثيوقراطياً مصمتاً تحظى فيه الأقليات الدينية بقوانينها الخاصة التي تحتجزها في أماكن ضيّقة وتحول دون مجاراتهم لأهل السواد أو أمّة السنّة، ما سيجعلهم رعايا أبديين وفق نظام تعاقدٍ قروسطيّ.
لا تخطئ العين القصّة التي يريد الشرع بناءها في سوريا: دولة شريعة وجمهورية إسلامية مركزيّة في كل شيء ابتداءً من تمركزها حول الرئيس الذكر السنّي العربيّ، وليس انتهاءً بمركزة السلطات في دمشق وبيد الجماعة المتغلّبة، إضافةً إلى مركزة الثروة بيد أصحاب الحظوة والولاء.
في الدولة الثيوقراطية، تبرز مسألة تأديب الجماعات الدينية أو الطائفية، أو الموصوفون بأنهم مهرطقون ومرجفون. هذا يعني احتمال انكشاف سوريا على حروب أهلية وإخضاع الهوّيات الفرعية لهويّة كبرى متخيّلة. وجدنا صورة هذه القصّة الأولى في القرى الدرزية والمسيحية بإدلب. ونجد صداها في تخويف العلويين في الساحل وترك الدروز حالياً لمرحلة التمكين والاستحكام بالسلطة، فوق أن السنّة أنفسهم جماعة تنطوي على هشاشة على كثرتها، ذلك أنها منقسمة إلى مدينيين وريفيين وطبقات اجتماعية وثقافية متنوّعة وإلى اتجاهات دينية متفاوتة قد يضطرّ كثيرهم إلى ارتداء الزي الذي تفرضه السلطة الجديدة.
ثمّة مساحة داخل هذه القصة المتخيّلة عن مستقبل سوريا، التي تشبه في تضاعيفها التجربة الإيرانية، لانكشاف البلد على حروب أهلية تبعدها عن النموذج الإيراني قليلاً أو إلى بلوغ نماذج لحروب الإلغاء التي تبدأ باستهداف جماعة على الأقل تجعل منها عبرة لبقيّة الجماعات، فضلاً عن إمكانية أن تنشط الحرب الفصائلية على ما قالته التجربة الليبية أو السودانيّة، وهي صورة أخرى للحرب الأهلية.
في الأثناء، تجري بروفات لجلسات الحوار الوطني المنشود؛ وهي جلسات عمومية لشخصيات من المجتمع الأهلي الذي حطّمته الحرب السورية الطويلة. لكن لا تمثل مثل هذه الجلسات أي بديل عن الحوار الذي تشارك فيه الشخصيات النسويّة والثقافية والمعارضة والحزبيّة وممثّلي المناطق الجهويّة الفعليين، يقدّم لنا مثل هكذا حوار طبعة جديدة من نموذج «البيعة» الذي تفضّله هيئة تحرير الشام، والذي لا يخلو من مكاذبات باسم الوطنيّة، والذي تكون مخرجاته في الغالب عمومية بلا أي معطى سياسي يقول فيها المشاركون كل شيء ولا يقولون أي شيء، كالحفاظ على الوحدة الوطنية ووحدة الأراضي السورية.
ليس في أفق الشرع أيّ تصوّرات لتقديم حلٍّ عادل لقضية كرد سوريا المزمنة خارج الإنشاء الرتيب المعتاد: «الكرد جزء من النسيج السوري». هذا بالضبط ما يُقال في إيران منذ عام 1979، حيث الاعتراف الشفويّ خارج الإطار الدستوري الذي يرسم صورة البلاد، في وقت تهرس آلة النظام الإيراني الحضور السياسي والثقافي الكرديّ بقوّة القانون وعضلات محاكم الشريعة ومشانقها الشاهقة.
بطبيعة الحال، تخضع سوريا الآن لشروط كتابة قصّة كبرى جديدة حول مستقبلها، بقلم هيئة تحرير الشام هذه المرّة، تستمدّ من الماضي الأمويّ والإسلاميّ معالم السؤدد والعزّة المتخيّلة وضمن شروط راهنٍ بالغ التعقيد. فبعد أن كانت سوريا البعث قطراً عربياً مؤقّتاً ووطناً محتملاً وملاذاً لأنصار الحركات القومية العربية، تسير دمشق لتصبح وقفاً لكل مسلمي العالم ومطلوبي المحاكم الأوروبية والعربية الذين يُصار إلى حمايتهم باسم الإسلام. إن تحويل دمشق إلى متروبول إسلاميّ هو أحد فصول القصّة التي يمكن قراءتها، ما يعني أن رابطة الانتماء إلى الأمّة الإسلامية المتخيّلة للمجاهدين الأجانب القادمين من أفغانستان والهند والصين ستصبح أهم من الرابطة الوطنية.
ما ينبغي الدفاع عنه على الدوام هو أن تصبح سوريا للسوريين والسوريات دون استثناء، لا أن تكون أسيرة الدول بقصصها الكبرى وبحثها عن جعل سوريا جزءاً من مجالاها الحيويّ أو أمنها القوميّ، وأن لا تكون كذلك أسيرة جماعةٍ مهووسة بالسلطة وبقصصها الخاصّة ورؤيتها للعالم. إذ إن التماس معظم السوريين الآن هو أن تصبح البلاد أكثر استقراراً يعرف فيه الرجال والنساء طريقهم إلى العمل والمخبز وصندوق الانتخاب بعيداً عن القصص الكبرى التي حطّمت هذه البلاد.
من يحرّر لا يجب أن يقرّر وحده على أقل تقدير، وإلّا سيصبح كل أفقٍ مسدوداً أمام العدالة والمساواة والمواطنة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد