أنقرة وسوريا الجديدة: ثوابت الاحتلال والتتريك وتهجير الكرد

المركز الكردي للدراسات

بالموازاة مع الهجوم الواسع الذي شنته هيئة تحرير الشام في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، والذي انتهى في 8 ديسمبر/كانون الأول بدخول قواتها العاصمة دمشق دون مقاومة تذكر وانهيار النظام وفرار الرئيس السابق بشار الأسد، نظمت الفصائل الموالية لتركيا والمنضوية تحت «الجيش الوطني» حملة عسكرية أسمتها «فجر الحرية» طالت مدن ومناطق تابعة للإدارة الذاتية الديمقراطية. واحتلت هذه الفصائل مناطق الشهباء وتل رفعت. وبعد ذلك، دخلت مدينة منبج في 7 ديسمبر/كانون الأول. ورافق ذلك مقتل وجرج العشرات من المدنيين وتهجير الآلاف من المواطنين الكرد من مخيمات الشهباء وأعمال نهب وسلب طالت المدنيين (بشكل خاص في منبج) بتهمة التعامل مع مؤسسات الإدارة الذاتية. ولم تكتف الفصائل الموالية لتركيا بالسيطرة على تل رفعت ومنبج، بل واصلت هجومها للسيطرة على سد تشرين وجسر قره قوزاق، في وقت حشدت تركيا قطعات من جيشها على حدود مدينة كوباني، مهددة بإطلاق عملية توغل كبيرة.

التلويح باحتلال كوباني

بعد التطورات الأخيرة في سوريا، والتي خلقت واقعاً جديداً، قررت قوات سوريا الديمقراطية التعامل بشكل مرن مع العاصمة دمشق فانسحبت من مدن دير الزور والميادين والبوكمال التي دخلتها بعد فرار قوات النظام السابق منها، مخافة أن يستغل تنظيم داعش الفراغ ويتمدد فيها. كذلك، طرحت الإدارة الذاتية الديمقراطية مبادرة للحوار الوطني تدعو فيها الأطراف السورية كافة للجلوس معاً والتباحث في حل كل القضايا العالقة دون تدخل خارجي وعلى أرضية سلامة أرض وشعب سوريا. ولكن تركيا لم تلق بالاً لكل تلك الخطوات، بل عمدت إلى استغلال الأوضاع الجديدة المتمثلة بوصول هيئة تحرير الشام إلى دمشق وحالة الفراغ الحاصلة في العديد من المناطق السورية نتيجة تخلي الجيش النظامي عن القتال وانسحاب الميليشيات الإيرانية وتدمير إسرائيل لترسانة الجيش السوري السابق، فقامت بالتمدد على حساب مناطق الإدارة الذاتية لتزيد من نفوذها وحضورها داخل الوطن السوري. وبعد سيطرة الفصائل الموالية لأنقرة على تل رفعت ومنبج والشهباء، تحاول هذه الفصائل الآن، مدعومة بالغطاء الجوي والمدفعي التركي، التقدم نحو سد تشرين وجسر قره قوزات والسيطرة على طريق «إم 4» بالإضافة إلى التلويح باحتلال مدينة كوباني.

وكانت قوات سوريا الديمقراطية استطاعت صد الهجمات الكبيرة المستمرة للفصائل الموالية لتركيا وأحبطت هجماتها العسكرية، موقعة عشرات القتلى والجرحى في صفوفها، ومعلنة بأن القتال الضاري والمقاومة الكبيرة ستتواصل وستكون الرد على كل محاولة تقدم نحو مناطق شرق الفرات. ورغم مرور حوالي أسبوعين على الحملة العسكرية التي شنتها تركيا والفصائل الموالية لها، إلا أنها لم تحقق أي تقدم ميداني، بل ما تزال المقاومة مستمرة في بعض أحياء مدينة منبج، حيث تشن وحدات من قوات سوريا الديمقراطية هجمات خاطفة ضد مسلحي «الجيش الوطني» الذين دخلوا المدينة وتمركزوا فيها. وأدخلت قوات سوريا الديمقراطية سلاح المسيّرات في المواجهات مع الفصائل المهاجمة. وأوضحت مشاهد مصورة نشرها المركز الإعلامي في قوات سوريا الديمقراطية هجمات بالمسيّرات طالت مواقع «الجيش الوطني» وأسفرت عن تدمير آليات عسكرية وبطاريات صواريخ وقتل مسلحين كانوا يتأهبون للهجوم على سد تشرين وجسر قره قوزاق.

وكان قائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، قد أعلن على حسابه في منصة «إكس» عن مبادرة تقوم على إنشاء منطقة منزوعة السلاح في كوباني، لقطع الطريق على تركيا التي تحشد وتتحضر للهجوم على المدينة. وجاء في نص المبادرة «تأكيداً على التزامنا الثابت بتحقيق وقف شامل لإطلاق النار في كافة أنحاء سوريا، نعلن عن استعدادنا لتقديم مقترح إنشاء منطقة منزوعة السلاح في مدينة كوباني، مع إعادة توزيع القوات الأمنية تحت إشراف وتواجد أميركي. تهدف هذه المبادرة إلى معالجة المخاوف الأمنية التركية وضمان استقرار المنطقة بشكل دائم». وتأتي المبادرة لكشف زيف السردية التركية التي تقوم على مجموعة من الافتراءات وقلب الحقائق ومن باب سد الذرائع وإماطة اللثام عن خطط التوسع والاحتلال التي تقوم بها وتتمسك بها حكومة تحالف حزب العدالة والتنمية والحركة القومية، والرامية للإجهاز على الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية وتهجير الشعب الكردي والسيطرة على مناطق شمال وشرق سوريا (من ضمنها حلب، كما أشار إلى ذلك علانية دولت بهجلي)، تمهيداً لضمها إلى تركيا ضمن المخيال القديم في «الميثاق الملي».
وبالتوازي مع مبادرة السلام تلك والاستعداد للحوار مع جميع الأطراف، أعلنت قوات سوريا الديمقراطية جهوزيتها الكاملة للدفاع عن كوباني في وجه أي توغل عسكري تركي، موضحة في بيان نشرته في 19 ديسمبر/كانون الأول بأنها، وبالتعاون مع أهالي كوباني الذين تصدوا لتنظيم داعش قبل عشرة أعوام وهزموه، سوف تخوض حرباً شعبية للدفاع عن المدينة تمنع تقدم قوات الجيش التركي الغازية والفصائل المولية لها.

المواقف الدولية
أعلنت العديد من الدول معارضتها لأي عملية عسكرية تركية جديدة تطال الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية. وتحدثت الولايات المتحدة عن اتصالات مستمرة مع الجانب التركي للوصول إلى تفاهمات تحول دون وقوع توغل عسكري تصر عليه أنقرة. وصرح ماثيو ميلر، المتحدث باسم الخارجية الأميركية، بأنهم توصلوا لاتفاق هدنة مع تركيا بشأن المناطق المحيطة بمنبج حتى نهاية الأسبوع الجاري. فيما هدد كل من السيناتور الديمقراطي كريس فان هولين والسيناتور الجمهوري ليندسي غراهام بفرض عقوبات على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في حال إصراره على الهجوم على مواقع قوات سوريا الديمقراطية وعدم موافقته على الهدنة ووقف إطلاق النار معها. كما انضم إليهما السيناتور الجمهوري جون كيندي، مندداً بموقف الحكومة التركية وإصرارها على الهجوم على القوات الحليفة للولايات المتحدة في حربها ضد تنظيم داعش.
وأشار الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند إلى أن الهجمات على إقليم شمال وشرق سوريا غير مقبولة. وأكد: «لا يمكنني أن أغض الطرف عن ترك الكرد وحدهم. فرنسا والتحالف الدولي ملزمان بحماية الكرد في سوريا». كذلك، دعت وزيرة الخارجية الألمانية آنالينا بيربوك تركيا إلى وقف هجماتها على مناطق شمال وشرق سوريا وعدم اللجوء إلى احتلال مدينة كوباني التي قالت إن «الكرد فيها قاوموا ببطولة تنظيم داعش» في عام 2014 لحمايتها من السقوط تحت سيطرته. كذلك، رفضت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون لاين التهديدات التركية بالهجوم على كوباني، وقالت إن أوروبا لا تريد أن تترك سوريا تحت النفوذ التركي لأن ذلك يضر بالمصالح الاستراتيجية لأوروبا.
وتواصل الولايات المتحدة تحركاتها الدبلوماسية بغية إقناع الجانب التركي بالتخلي عن مخططات التوسع في مناطق شرق الفرات ووقف حملة التوغل العسكري في كوباني التي تحضر لها الآن، في وقت أعلن مسؤول في وزارة الدفاع التركية أن أنقرة مصممة على القيام بعملية عسكرية. وكان قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال مايكل إيرك كوريلا زار شمال شرق سوريا والتقى الجنرال مظلوم عبدي في إطار التنسيق والتعاون المستمر ضد تنظيم داعش الذي انتعش في الفترة الأخيرة وزادت هجماته انطلاقاً من البادية السورية.
وتربط قوات سوريا الديمقراطية بين تصاعد هجمات التنظيم وانتعاش آماله وبين حملات الحرب والتوسع التي تقوم بها تركيا والفصائل المؤيدة لها ضد مناطق الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية. وتحدث الجنرال مظلوم عبدي عن معلومات تتوفر لديهم حول خطط لدى تنظيم داعش لشن هجمات على المنشآت التي تضم عناصر التنظيم في مراكز الاحتجاز بشمال شرقي سوريا. وأضاف عبدي خلال حوار أجرته صحيفة «ذي وورلد» البريطانية: «لدينا معلومات استخباراتية عن خطط لشن هجمات على المنشآت التي تضم أعضاء داعش أو عائلاتهم». وقال عبدي إن الهجمات التركية رفقة الفصائل المسلحة الموالية لها تؤثر على انتشار قواتهم وهو ما يؤثر بدوره على «حماية هذه المنشآت». وأضاف: «نعمل بجد لإبقائها تحت السيطرة وفي وضع آمن».

الخلاصة

ترى الحكومة التركية، التي تتشكل من تحالف حزب العدالة والتنمية والحركة القومية المتطرفة، أن الفرصة سانحة لمزيد من التوسع العسكري والسيطرة على المناطق السورية، وبالتالي ضمان دور ونفوذ تركي كبير يتجاوز النفوذين الإيراني والروسي في سوريا الجديدة وضرب مشروع الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية وتنفيذ المزيد من التهجير بحق الكرد وتطبيق تغيير ديمغرافي دائم في مناطقهم. وعليه، يمكن تثبيت النقاط التالية:
أولاً: تخطط تركيا لاحتلال المزيد من المناطق ذات الأغلبية الكردية وتهجير سكانها وإحلال عناصر أخرى محلهم، كما فعلت بشكل خاص ومركز في كل من منطقة عفرين عام 2018 ومنطقة رأس العين عام 2019، وبالتالي ضمان إجراء تغيير ديمغرافي عميق يتيح قيام حزام سكاني غير كردي مع حدودها، حيث يشكل الكرد الأغلبية الساحقة في الجانب التركي. ومن هنا، فهي ترفض كل مبادرات الحوار والهدنة ولا تقبل بمناطق عازلة من السلاح. تقوم الخطة التركية القديمة/الجديدة على تتريك الكرد داخل تركيا وتهجيرهم من المناطق القريبة من حدودها الدولية من تلك الواقعة ضمن حدود كل من سوريا والعراق.
ثانياً: تعتقد الحكومة التركية أن التغيير الكبير الذي حصل في سوريا يجب أن يمنحها فرصة/حق التوسع والسيطرة على المزيد من الأراضي السورية، بحيث يضمن لها اليد الطولى والعليا في تشكيل مستقبل سوريا من جهة هوية النظام القادم وتوزيع السلطات والصلاحيات. لا تريد الحكومة التركية دولة لامركزية ولا اعتراف دستوري بالهوية الكردية ولا سلطة مستقلة عن إرادتها السياسية.
ثالثاً: ترى الحكومة التركية أن الإدارة الذاتية (القائمة على تحالف الكرد والعرب) تشكل خطراً عليها، لأنها نموذج يقوم على الاعتراف بالهويات الإثنية والدينية والطائفية ورعاية ثقافاتها وخصوصياتها وضمان حقوق المرأة ورفض الإسلام السياسي. وهو مشروع يناقض مشروع الدولة التركية القائم على دولة العنصر الواحد والعلم الواحد واللغة الواحدة. لذلك، تهدف تركيا للنيل من هذا المشروع ومنع اقتباسه وتطبيقه في المزيد من المناطق السورية.
رابعاً: تريد تركيا تدمير قوات سوريا الديمقراطية التي قضت على تنظيم داعش ونالت دعماً وتعاطفاً دولياً. وبالتالي، حل الشراكة بينها وبين التحالف الدولي لمحارية التنظيم وعلى رأسه الولايات المتحدة.
خامساً: تتحدث أنقرة عن ضم حلب والمناطق التي تحتلها منذ عام 2016، وهي تطبق سياسة تتريك واضحة في تلك المناطق. ربطت المناطق إدارياً بالداخل التركي ورسخت برامج التعليم باللغة التركية. تريد تركيا أن تضع من يحكم دمشق أمام الأمر الواقع في حال لجوئها إلى تقبل مطالب الشعب السوري في اللامركزية والاعتراف بالمكونات والحقوق والحريات العامة. تريد أنقرة سوريا الجديدة على مقاسها هي: أن تذعن وتوافق على كل ما كان النظام السابق يرفضه.
سادساً: بعد المقاومة الضارية في منبج وسد تشرين وجسر قره قوزاق، فإن قوات سوريا الديمقراطية مصرة على الدفاع بكل قوة وحزم عن كوباني. وأعلنت في بيان أصدرته أنها، وبالتعاون مع سكان كوباني، ستقاوم بكل قوة وستحول كوباني إلى «مستنقع يغرق فيه الغزاة». وكانت الأيام الماضية شهدت نجاح قوات سوريا الديمقراطية في صد الهجمات العسكرية الكبيرة للفصائل المؤيدة لتركيا على سد تشرين وجسر قره قوزات وبعض قرى ريف كوباني، مع تكبد المهاجمين خسائر كبيرة. كما استخدمت سلاح المسيّرات واستعانت بالخنادق، ما أمن لها ثباتاً في مواقعها وتمكينها من توجيه ضربات مؤثرة ومباغتة للقوات المهاجمة.
سابعاً: تشكيل موقف دولي واضح يرفض التوسع العسكري التركي ويريد أن يرى التغيير الحاصل في دمشق كمرحلة جديدة للتهدئة والاستقرار، عبر إجراء حوار داخلي بين السوريين والتخلي عن لغة العنف والصدام. ومن هنا جاءت تصريحات العديد من الدول برفض التصعيد التركي والمطالبة بحماية الكرد والإدارة الذاتية وبضرورة تخلي تركيا عن لغة القوة واستخدام العنف والتحول لوسيط في الحل السياسي وجمع شمل السوريين.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد