سقوط الأسد وملامح سوريا الجديدة

د. طارق حمو

يعيش الشعب السوري بعد فرار بشار الأسد، أجواء التخلص من النظام الذي وطدّه حافظ الأسد منذ عام 1970 وسار عليه من بعده ابنه الوريث. تلاشت مظاهر النظام العسكرية واختفت الأجهزة الأمنية وفتحت أبواب السجون والمعتقلات، وتم تحرير مئات المساجين والمعتقلين، الذين غيبوا لسنوات طويلة لمجرد رأي قالوه، أو لشبهة تقول أنهم معارضون للنظام، أو ربما لمشاركة بعضهم في المظاهرات التي خرجت تطالب بالإصلاح والتغيير.

كما وبدأ آلاف السوريين المهجرين من بلادهم، وكذلك أولئك الفارين من ملاحقة المخابرات، بالعودة إلى سوريا. وشهدت البوابات الحدودية مع كل من تركيا والأردن ولبنان تدفق آلاف السوريين يومياً للعودة إلى منازلهم التي هجروا منها. وأصبح في مقدور السوريين حول العالم زيارة بلادهم دون خوف من ملاحقة أجهزة نظام بشار الأسد. لقد تلاشت هذه الأجهزة وأفل النظام، وأصبحت تركته من الماضي.

وما يزال المحللون والمراقبون والمتابعون للشأن السوري يبحثون في خلفيات هذا التداعي السريع والمفاجئ للنظام السوري، والأسباب التي دفعت الأسد للرحيل، وقوات الجيش النظامي إلى التخلي عن مقاومة زحف “هيئة تحرير الشام” والمجموعات المسلحة المتحالفة معها، ورفض القطعات النخبوية في جيش النظام مثل الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري، وفرقة النمر، من تلك المسلحة تسليحاً جيداً، المواجهة واختيار “الانصرف العشوائي”، وكل فرد باتجاه قريته أو مدينته.

ثمة قاسم مشترك واحد بين كل التفسيرات لما حدث، وهو حالة الضعف التي مر بها الحليفان الإيراني والروسي، وانسحاب مقاتلي حزب الله اللبناني من ساحة المواجهات في سوريا، بعد الضربات التي تلقاها الحزب في لبنان على يد الآلة العسكرية الإسرائيلية. عصفت تداعيات عملية حركة حماس الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023 ضد إسرائيل، بالنظام السوري نفسه، بعد ضرب الدولة العبرية لإيران، وتدمير حزب الله والأذرع المسلحة في سوريا والعراق. بدأت بعض أصابع الأخطبوط الإيراني تتقطع والأخرى في التراخي، وانكشف النظام السوري أمام خصومه، وبات في أضعف حالاته، قابلاً للانكسار والتداعي.

وبعد دخول قوات الهيئة دمشق، وهروب الأسد، وفي غمرة الفرحة التي شكلها هذا التطوّر السريع والواقع الجديد، بدأ الحديث عن مستقبل سوريا السياسي، وماهية شكل النظام القادم، وهل سيكون قادراً على تحقيق المطالب التي خرج من أجلها الشعب السوري عام 2011، والمتمثلة في الحرية والتعددية ودولة القانون والحقوق؟ هل يمكن أن يكون بديل الأسد ونظامه، حكومة وطنية صالحة، تقبل بالحريات ودولة القانون وتعترف بكل مكونات الوطن السوري؟

أعلنت هيئة تحرير الشام عن حكومة انتقالية لتسيير الأعمال، دون مشاركة أية قوى أخرى، وتكلم أحمد الشرع ( أبو محمد الجولاني) عن نظام الشورى الإسلامي كمحكم لإدارة الدولة. لم تأت أية إشارات إلى الانتخابات أو النظام البرلماني المعلوم في الديمقراطيات. وفي الوقت الذي دعا فيه الشرع إلى الحفاظ على مؤسسات وإدارات الدولة، وعدم اللجوء الى التنكيل والانتقام بل وقال بأنه مستعد لتغيير اسم تنظيمه في سبيل تحقيق الاندماج والتمهيد للعملية الانتقالية، ظهرت أعمال انتقامية في العديد من المناطق، وأوضحت مقاطع مصورة لأعمال قتل وتعذيب على الهوية لمواطنين، قيل إنهم عناصر في الأجهزة الأمنية للنظام السابق.

الآن يخوض المختصون في دراسة الحركات الجهادية في تحولات الهيئة وزعيمها، طارحين أسئلة كثيرة، تتمحور كلها حول هل ما يحصل هو تغيير حقيقي وفي الصميم، تتحول فيه المنظمة الى “دولة مسؤولة”، أم هي براغماتية تتواءم فيه مع المرحلة، أم هو تغيير جذري، جاء بعد مراجعات فكرية، بنيت على أسس شرعية وتاريخية إسلامية، على غرار المراجعات التي قدمتها الجماعات الجهادية المصرية، وتخلت بموجبها عن العمل المسلح ومحاربة النظام والدولة ؟

لا يمكن التكهن بعد بحقيقة تحول الهيئة، بعد دخولها دمشق وتشكيلها لحكومة تسيير الدولة، لحظة تكليف الشرع ( حاكم دمشق) لمحمد البشير، الشرعي السابق في الهيئة بإعداد فريق الحكومة الانتقالية المؤقتة. ويبدو أن الآراء ستبقى متضاربة حول تحولات وتمظهرات تحرير الشام لأشهر طويلة، قبل أن تظهر الحقيقة وتنكشف معالم مشروعها.

إقليمياً، وبالتوازي مع المتغير الكبير الذي ظهر في سوريا، يمكن ملاحظة متغيرين اثنين كبيرين، وهما التدخل الإسرائيلي السريع (والذي يبدو استباقيا، من جهة تفاعله الخاطف مع الأحداث)  في تدمير ترسانة الجيش السوري. وقد شنت إسرائيل ما يقارب 400 غارة جوية استهدفت خلالها أكثر من 300 موقع عسكري، وطالت الهجمات الجوية المطارات العسكرية، ومخازن أسلحة وذخائر، وقواعد للصواريخ ومستودعات مضادات الدروع، وموانئ وسفن حربية ومراكز للبحث العلمي. كما تقدمت القوات الإسرائيلية في الأراضي السورية، محتلة جبل الشيخ و الشريط العازل الممتد داخل الجانب السوري شرق خط وقف إطلاق النار في الجولان، وبعض القرى في محافظة القنيطرة.

وأوضح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بأن حكومته لن تسمح بظهور قوة معادية لها، وأن اتفاق وقف إطلاق النار لعام 1974 قد ألغي مع انسحاب الجنود السوريين وتخليهم عن أسلحتهم. دمرت إسرائيل الأسلحة الثقيلة لدى الجيش السوري، وتموضعت عسكرياً في مواقع يمنحها إنذاراً مبكراً عند حدوث أي هجوم أو خرق من الجانب السوري، ويؤهلها عسكرياً لضربات تحيط من خلالها أي محاولة تسلل أو هجوم مفاجئ، على غرار ما حصل في 7 أكتوبر في غلاف غزة.

أمًا المتغير الثاني، فهو هجوم الفصائل الموالية لتركيا على مناطق الإدارة الذاتية، بإسناد ودعم من الجيش التركي، والذي أسفر عن احتلال كل من مناطق الشهباء وتل رفعت ومنبج، وارتكاب المسلحين الموالين لأنقرة انتهاكات وجرائم بحق المدنيين الكرد. وجدت أنقرة الفرصة في دخول الهيئة دمشق وهروب الأسد وتخلي الجيش السوري عن المقاومة، فرصة ثمينة في توسيع احتلالها ونفوذها في الخارطة السورية عبر المسلحين الموالين لها، بالإضافة إلى هدفها الأهم وهو ضرب قوات سوريا الديموقراطية وتدمير الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا.

وقد شهد الأسبوعان الماضيان انتهاكات فظيعة ارتكبتها الفصائل الموالية لأنقرة بحق الأهالي والمهجرين، وحصلت حوادث قتل واحتجاز وترويع للمئات، وخاصة من المكون الكردي. اختارت تركيا التوسع وبالتالي الحصول على أوراق أقوى تفاوض بها السلطة الجديدة في دمشق. ترى أنقرة انه يتعين الآن على الجولاني و”هتش” الرضوخ لمطالبها في محاربة الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، ورفض التحاور معهما، وهي المهمة التي كانت أنقرة تتأملها من النظام السوري السابق، لو قيضت لمساعي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان النجاح في اللقاء ببشار الأسد، تلك المساعي التي بدت محمومة إلى درجة توسيط أردوغان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لدى الأسد لإنجاح عملية “المصالحة”. وما تزال الحكومة التركية تواصل تقديم كل الدعم العسكري والإشراف والمتابعة الاستخباراتية للفصائل الموالية لها في شن هجمات على مواقع قوات سوريا الديموقراطية، ومحاولة قضم المزيد من المدن والمواقع الواقعة في الضفة الشرقية لنهر الفرات. وكان الجنرال مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديموقراطية قد دعا تركيا إلى وقف هجماتها، وإجراء حوار مع الإدارة الذاتية، بدل المراهنة على الحرب والطرق العسكرية. فيما بدأت الولايات المتحدة الأميركية في الضغط على أنقرة لوقف هجماتها وهجمات الفصائل الموالية لها، معلنة مواصلة دعمها لقوات سوريا الديموقراطية واعتبارها شريكًا أساسيًا في محاربة الارهاب. كذلك أرسلت واشنطن قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال مايكل إريك كوريلا للقاء الجنرال مظلوم عبدي، والتباحث معه حول التطورات الأخيرة.

إقليم شمال وشرق سوريا أعرب عن استعداده للحوار مع الحكومة الجديدة في دمشق. وقوات سوريا الديمقراطية انسحبت من غرب محافظة دير الزور، بما فيه مدن دير الزور والبوكمال والميادين، التي دخلتها بعد انسحاب جنود الجيش النظامي والميليشيات الإيرانية منها، مخافة أن يستغل تنظيم “داعش” الفراغ ويتمدد هناك. الآن هناك ترقب للأوضاع وانتظار لما ستؤول إليه التطورات في دمشق. وفيما تحاول الإدارة الذاتية فتح قنوات حوار وتواصل مع جميع القوى السياسية، وتبدي المرونة الكافية لاجراء حوار داخلي سوري ينهي الحرب وحالة الانقسام والتصارع، ويضع اتفاقا وطنياً يظهر معالم سوريا القادمة (قررت الإدارة الذاتية اعتماد العلم الجديد/ علم الاستقلال ورفعه في كل إداراتها ومؤسساتها) تستمر الدولة التركية والفصائل الموالية لها في شن المزيد من الهجمات الرامية للاحتلال وتهجير المكون الكردي. فيما تواصل الآلة الدعائية الموالية لتركيا (وهي تشكيلة واسعة من القنوات المرئية والمقروءة وشخصيات معارضة ونشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي) في نشر الأكاذيب والإدعاءات والأخبار المزيفة التي تستهدف مشروع الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديموقراطية والشعب الكردي برمته.

تحاول تركيا خلق صراع عربي – كردي وتجذير حالة الانقسام والفوضى. وفي ظل الحديث الوارد من دمشق عن الحوار وتأسيس الدولة، وتشكيل “هتش” الحكومة بمعزل عن “الائتلاف”، فإن تركيا ترى بأن الأمور قد بدأت تخرج عن سيطرتها، وإن البديل هو في المزيد من الاحتلال وقضم الأراضي السورية ووضع السوريين أمام الأمر الواقع، ونشر خطاب الكراهية الموجه والمتابع من دوائر الاستخبارات التركية، وتحويل الحرب الأهلية والفوضى الى واقع حياة وقدر للسوريين الحالمين بالاستقرار ودولة القانون و المؤسسات.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد