بهجلي والقضية الكردية.. لعبة أردوغان الجديدة!

د.محمد نورالدين

يمكن للمطلع على تاريخ تركيا الحديث منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى، وخصوصاً بعد إعلان الجمهورية عام 1923، أن يقف عند ثابتة لا تتغير أدواتها وأهدافها وإن تغيرت أساليبها، وهي: كيف يمكن للهوية القومية التركية والمذهبية السنية أن تكون هي السائدة المطلقة في بلد تعددت فيه الأعراق والمذاهب.
وإذا كان هذا يشمل أيضاً ما اصطلح على تسميته المسألة العلوية، فإن القضية الكردية تقع في القلب منه.
لم يستطع الخط البياني للقضية الكردية في العهد الجمهوري أن يواصل صعوده لينتهي الى نقطة ذروة سواء بالنسبة لمحو الهوية الكردية أو لانتصارها، بل كان هذا الخط متكسراً على الدوام. بالكاد يصعد قليلاً حتى ينكفئ نزولاً ثم يتصاعد وهكذا دواليك.
وهذا ما ينطبق عليه قول إن الكرد في تركيا ليسوا لقمة سائغة بل هي غير قابلة للبلع. وإن الكرد كانوا من الإيمان والتمسك بهويتهم بحيث كانوا ملتصقين فعلاً بالجبال التي يُعيرون شبابهم إليها لرفع لواء الثورة ضد الدولة، وهو ما يجعل الكردي عصياً على الإذعان رغم مرور أكثر من مئة عام.
في عصر الصورة وحقوق الانسان وحرية تقرير المصير، فإن قرناً بكامله من التلاعب بالهوية الكردية والاستجداء بالاستعمار الخارجي لتصفية هذه الهوية هو وقت طويل بمقاييس الثورات في أمكنة أخرى من العالم.
وما كان مثيراً ولافتاً أن جميع الحكومات والتيارات السياسية وميول النخب الفكرية التركية، بجناحيها الأساسيين العلماني والإسلامي، تتوحد حول إنكار الهوية الكردية. وإذا اعترفت بها، فلا سبيل لترجمة ذلك إلى إجراءات عملية.
وبهذا، يتبين أن العلمانية كانت مفهوما شكلياً لا علاقة لها بالعلمنة الحقيقية. كما كان مفهوم الأخوة الإسلامية مجرد مراوغة لا علاقة له بالنصوص الدينية ولا يتناغم مع ما ورد في القرآن الكريم «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا». وحين كان زعيم الحركة الإسلامية الراحل نجم الدين أربكان، كما خلفه المتمرد عليه رجب طيب أردوغان، يُسألان عن الحل للمسألة الكردية، كانا يجيبان أنه يمكن ذلك في إطار الأخوة الإسلامية التي لا مضمون معاصراً لها بالنسبة إليهما.
ومع أن القضية الكردية، التي هي أساساً مشكلة تركية لا كردية، أثبتت أنه من دون حلها فلا استقرار اجتماعياً ولا سياسياً في تركيا، وأنها تكلف البلاد عشرات المليارات من الدولارات وعشرات الألاف من الضحايا، فإن الدولة العميقة اتبعت أساليب الخداع والتضليل والكذب والمراوغة وكسب الوقت من أجل إبقائها من دون حل.
ولن نذهب بعيداً في الماضي البعيد بل تكرر هذا أربع مرات واضحة: الأولى مع سليمان ديميريل عام 1991 عندما قال إن «القضية الكردية واقع»، ومن ثم مع تانسو تشيللر التي قالت إن حل مشكلة الباسك نموذج قابل للمحاكاة في تركيا، ومن ثم مع مسعود يلماز الذي قال إن «معايير كوبنهاغن تمر في ديار بكر»، وأخيراً في صيف عام 2005 عندما اعترف رجب طيب أردوغان بوجود «قضية كردية» في تركيا. وكل هؤلاء ذكروا ما ذكروه عندما كانوا في سدة رئاسة الحكومة وكانوا مسؤولين وبيدهم إمكانية المبادرة إلى اتخاذ إجراءات عملية في اتجاه الحل.
ومن بعدها، تكرر اعتراف اردوغان بالواقع الكردي أكثر من مرة. علماً أن آخر محاولة جدية كانت في فبراير/شباط 2015 بين ممثلين عن حزب الشعوب الديمقراطي ووزراء في الحكومة، فيما عرف باتفاق «دولمه باهجه». ما لبث أردوغان أن انقلب عليه قبل أن يبدأ تنفيذه. والسبب في ذلك أن أردوغان كان يأمل بهذا الاتفاق استمالة جزء من الناخب الكردي وتعزيز رصيده الانتخابي، فإذا باستطلاعات الرأي تعكس تراجعاً لحزبه العدالة والتنمية، فأعلن عدم اعترافه به حتى لا يخسر الانتخابات. ومع ذلك، خسر حزب العدالة والتنمية للمرة الأولى في تاريخه، في انتخابات يونيو/حزيران 2015، الأكثرية المطلقة في البرلمان وفاز الحزب الممثل للأكراد، للمرة الأولى كحزب، في انتخابات نيابية متخطياً حاجز العشرة في المئة.
كانت النخبة الحاكمة تخفي، في حالتي الاعتراف أو الانقلاب على الاعتراف، تلّمس سبل الاستمرار في السلطة. ولا عجب أن نرى بعد إلغاء نتائج انتخابات صيف 2015 حملة ترهيب دموية على مدن وقرى كردية وتفجيرات في تجمعات كردية، سقط في إثرها المئات من القتلى وآلاف الجرحى ومئات البيوت والأحياء المدمرة قبل إعادة الانتخابات في نوفمبر/تشرين الثاني وفوز حزب العدالة والتنمية بها.

بعد الأول من أكتوبر 2024

في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، افتتح العام اليرلماني الجديد في تركيا. وعلى هامش الجلسة، حصلت مصافحة هي الأولى من نوعها بين زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي وزعماء حزب المساواة والديموقراطية للشعوب. وكان ذلك مثار تساؤلات كثيرة وما إذا كانت بداية مسار جديد في المسألة الكردية.
وفي 22 أكتوبر/تشرين الأول، تحدث بهجلي أمام نواب كتلة حزبه مستخدماً مصطلحات وأدبيات حزبه في توصيف الوضع واقتراح ما لديه: «إذا رفع العزل عن رأس المنظمة الإرهابية فليأت إلى البرلمان ويتحدث أمام كتلة حزب المساواة والديموقراطية للشعوب، ولينهِ بالكامل الإرهاب وليعلن تصفية المنظمة. وليكن العنوان لا أدرنه ولا قنديل بل من إيمرالي إلى حزب المساواة والديموقراطية للشعوب. ولتخرج مسألة الإرهاب الثقيلة والتاريخية نهائياً من أجندة البلد».
وصف نائب رئيس الحركة القومية فيتي يلدز تاريخ 22 أكتوبر/تشرين الأول بأنه «محطة فاصلة بين مرحلتين في السياسة التركية». وتوجهت الأنظار الى ردة فعل الحزب الكردي على نداء بهجلي. وكان الجواب بالترحيب، ولكن على قاعدة أن المخاطب هو عبدالله أوجلان، ويجب أولا إطلاق سراحه والتفاوض معه وتلبية تطلعات الشعب الكردي، وأن يكون البرلمان هو مكان حل المشكلة الكردية. ويعتبر هذا الموقف طبيعياً من دون الرهان على حدوث تحولات جذرية في مسار الحل.
طرحت «مبادرة بهجلي» الكثير من الأسئلة التي قد لا تجد أجوبة جاهزة أو مقنعة ولكنها تساهم في وضعها في إطارها الواقعي.
أولاً، هل كان بهجلي يتحدث باسمه فقط أم إنها رسالة غير مباشرة من أردوغان؟ وهل يعني ذلك ان أردوغان يجس نبض رد فعل الكرد والمعارضة الأخرى أيضاً ليتحرك في ضوئها، دفعاً أو تنصلاً، من أي مواقف لبهجلي؟
ثانياً، إن أحد أهم الأسئلة هو أنه هل يمكن إطلاق سراح أوجلان من دون أن يكون قد تم التفاهم أصلاً على حل معظم جوانب المسألة الكردية؟ وإذا لم يكن ذلك، هل يمكن توقع أن يوافق أوجلان هكذا ببساطة على تسليم السلاح وحل حزبه؟
ثالثاً، هل ستسمح الدولة العميقة التي تعيش على معاداة الكرد والعلويين لمثل هذه الخطوة أن تحصل وتوافق على تلبية التطلعات العامة للكرد؟
الأسئلة أكثر من أن تحصى عندما يتعلق الأمر بمسألة معقدة وشائكة تتداخل فيها كل الأبعاد الداخلية بالإقليمية والدولية. لذلك، فإن نداء بهجلي يحتاج إلى مزيد من مرور الوقت لتتضح خلفياته الفعلية.
لذلك، فإن البحث يكون موضوعياً وواقعياً عندما نحاول البحث عن مدى جدية السلطة أو حينما يمكن أن يكون خداعاً أو مراوغة، تماماً مثل محاولات الرئيس التركي البحث عن حل للأزمة في سوريا خارج أي استعداد للانسحاب منها ومن أجل هدف واحد هو تصفية حزب العمال الكردستاني ومنع نشوء ما يسميه «إرهابستان».

الشك الذي لا شك فيه

أن الشك في جدية السلطة لحل المسألة الكردية لا ينازعه شك، ومرد ذلك:
1- إن الذهنية الإيديولوجية التي تنكر الهويات القومية والمذهبية المخالفة للإيديولوجية الحاكمة منذ مئة عام مستمرة ولم يرف لها جفن أمام حق الكتلة الكردية التي تشكل ربع سكان تركيا (على أقل تقدير) في نيل حقوقها، بل تحاول اقتلاعها من الأرض والتاريخ.
2- سياسة الإقالات والتعيينات التي تمارسها السلطة تجاه رؤساء البلديات الكردية المنتخبين من قبل الشعب. وعادت هذه السياسة من جديد مع إقالة احمد أوزير رئيس بلدية إسنيورت في اسطنبول. ومع ان أوزير منتم الى حزب الشعب الجمهوري، فهو من أصل كردي واتهم بالتواصل مع «منظمة إرهابية».
وتلا ذلك، إقالة رؤساء ثلاث بلديات كردية ينتمون الى حزب المساواة والديموقراطية للشعوب وهم الشخصية الكردية المعروفة أحمد تورك (82 عاماً) رئيس بلدية ماردين، وغولستان صونوق (31 عاماً) رئيسة بلدية باتمان (إيله)، ومحمد قره يلان (57 عاماً) رئيس بلدية خلفتي في محافظة رُها. وأقالت وزارة الداخلية رؤساء البلديات الثلاث نتيجة صدور أحكام سجن بحقهم بتهمة أنهم أعضاء في منظمة مسلحة ويعملون للدعاية لها، كما حملوا السلاح ضد الدولة.
وعين وزير الداخلية علي يرلي كايا كلاً من محافظ ماردين تونجاي آق قويون بدلاً من تورك في ماردين، ومحافظ باتمان أكرم جان ألب بدلاً من صونوق في إيله، وقائمقام خلفتي هاكان باش أوغلو بدلاً من قره يلان في خلفتي.
والتساؤل الذي يتبادر الى الذهن هو أنه إذا كانت السلطة جادة في مبادرة بهجلي فما هو الدافع للجوء لسياسات الإقالة (القيوم) تجاه رؤساء البلديات الكردية وبما يتعارض مع مساعي حل المشكلة الكردية؟
3- في عرض خاطف للعناصر المؤثرة في المشكلة الكردية، فإن أعداد اللاعبين المؤثرين فيها بات أكثر من قبل، من الولايات المتحدة وروسيا إلى إيران ودول خليجية، فضلاً عن تركيا وسوريا والعراق والكرد أنفسهم. وهو ما يجعل التوصل إلى اتفاق حول هذه المشكلة في الظروف الحالية أكثر تعقيداً وصعوبة.
4- لا تعمل التوترات المتصاعدة في المنطقة لصالح حل المشكلة الكردية، لا سيما مع المخاوف من توسع الحروب الإسرائيلية من غزة ولبنان إلى سوريا وكل المنطقة. وفي ظل ضبابية المستقبل في انتظار ما سترسو عليه نتائج الصراع في الميدان العسكري ومن ثم السياسي، فإن القضية الكردية لا تشكل أولوية في ترتيبات الحلول المقبلة. ومن المبكر، بالتالي، أن تبادر تركيا إلى إعلان طروحات جدية لحل الأزمة في تركيا وشمال سوريا، حيث ترى أنقرة تلازم مسار القضية الكردية في تركيا وسوريا.

خاتمة

يرى البعض أن أردوغان يريد أن يجس نبض الكرد لجهة المدى الذي يمكن أن يذهبوا اليه للتوصل إلى بعض التفاهمات التي تعطيهم بعض الفتات مقابل تأييدهم تعديل الدستور ليتمكن أردوغان من الترشح مجدداً للرئاسة. ولكن التجارب السابقة لا تشجع الكرد للذهاب إلى صفقة هزيلة ومثيرة للسخرية. فهو لن يعط حقوقاً بالمعنى الجدي للكلمة، بل يسعى إلى إضاعة الوقت لنيل أصواتهم ومن بعدها النكوص عما تعهد به أو تحقق فتتواصل الذهنية العنصرية الاقتلاعية أربع سنوات أخرى بعد العام 2028 وتستمر أسطوانة المئة العام من سياسات الإنكار والمحو. والأنكى من ذلك، أن يكون الهدف الاستقواء بالكرد من أجل أن يواجه أردوغان خصمه العلماني سواء كان أكرم إمام اوغلو رئيس بلدية أنقرة أو منصور ياواش رئيس بلدية أنقرة أو غيرهما.
بالتأكيد، سيبطل الكرد لعبة أردوغان الجديدة. والنقاط الأربع التي رفعها حزب المساواة والديموقراطية للشعوب وحدها الأساس لبدء مسار جديد: اعتماد الطرق الديمقراطية والسياسية للحل، إطلاق سراح أوجلان دون أن أي تأخير، استعداد الحزب للقيام بما يتوجب عليه، وأخيراً وقف سياسة الإقالات والتعيينات.
واللافت أن مقترح الحزب كان للسلطة والمعارضة على حد سواء، حيث دعاهما ليكونا اكثر جرأة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد