«الذئاب المنفردة» في أوروبا: استراتيجية داعش الجديدة في الهجوم

المركز الكردي للدراسات

نشر الباحث غيدو شتاينبرغ تحليلاً في موقع المعهد الألماني للدراسات السياسية والأمنية حول ظاهرة «الذئاب المنفردة» في أوروبا، وهي مصطلح يطلق على الجهاديين الذين يخططون وينفذون عمليات تفجير وقتل في المدن الأوروبية بشكل فردي ذاتي بعيداً عن الاتصال وتلقي التوجيهات والمعلومات من المنظمة الأم في منطقة الشرق الأوسط. وسلط شتاينبرغ الضوء على تطور وتنامي هذه الظاهرة بعد الضربات التي تلقتها التنظيمات الجهادية، خاصة تنظيم “القاعدة” في أفغانستان ومناطق أخرى من الشرق الأوسط، موضحاً أن المرحلة السابقة (من بداية الألفية وحتى عام 2012) تميزت بتدريب التنظيمات الجهادية لمقاتليها على كيفية تنفيذ العمليات الإرهابية في أوروبا، ومن ثم إرسالهم من أفغانستان وباكستان لشن مثل هذه الاعتداءات.
أما المرحلة الثانية، فامتدت من عام 2014 إلى 2017، وتصدرتها منظمة داعش التي أرسلت مجموعات جهادية للقارة الأوروبية لتنفيذ عمليات تفجير وقتل واستهداف المصالح الأوروبية، بالتوازي مع دعوة المنظمة لأنصارها ومبايعيها لتنفيذ العمليات الإرهابية بشكل منفرد وبمبادرات ذاتية. ومنذ عام 2017، قلّت العمليات الكبيرة، وبدت ظاهرة جديدة تتشكل وهي ظاهرة «الذئاب المنفردة» التي تمثلت في قيام جهاديين متخفين لا ترصدهم رادارات الاستخبارات، تحوّل قسم كبير منهم إلى الفكر الجهادي بمبادرات فردية ودون أن يتصلوا بالمنظمات الجهادية في الشرق الأوسط أو يزوروا معاقلها هناك، بعمليات تفجير وقتل في أوروبا. واستفحلت هذه الظاهرة منذ عام 2020، حيث نفذت عمليات إرهابية عديدة قام بها أشخاص تحولوا للفكر الجهادي العنفي دون الخضوع للتجنيد والدورات الشرعية، في كل من فرنسا وألمانيا والنمسا، وأطلق عليهم وعلى كل الظاهرة «الذئاب المنفردة».

الجهاديون الجديد

بدت معالم ظاهرة «الذئاب المنفردة» تتضح بشكل ملفت منذ عام 2020، وذلك بملاحظة العديد من الهجمات وجرائم القتل التي نفذها جهاديون أفراد بمبادرات ذاتية دون تكليف وتوكيل من المنظمات الجهادية التي تأثروا هم بفكرها وطريقتها في التوسع والبطش. ويسرد الباحث هنا عمليات من قبيل قتل السوري عبد الله . أ. ه في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2020 في ميدنة دريسدن الألمانية لشخص مثلي بالسكين وجرح آخر. وقتل الشيشاني عبد الله أنسوروف في 16 أكتوبر/تشرين الأول 2020 المدرس الفرنسي صامويل باتي في العاصمة الفرنسية باريس. وكذلك قتل التونسي إبراهيم . أ، والذي كان وصل فرنسا قبل أسابيع قليلة، لثلاثة أشخاص أثناء هجومه على كنيسة في مدينة نيس الفرنسية في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2020. وأيضاً إطلاق مواطن من أصل مقدوني في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 النار على أربعة أشخاص في العاصمة النمساوية فيينا أثناء محاولته اقتحام قداس أقيم في كنيسة.
وضعت هذه الهجمات المتلاحقة في غضون أسابيع، والتي قام بها أشخاص تحولوا للجهادية بجهود فردية ذاتية، معالم ظاهرة «الذئاب المنفردة»، وهي ظاهرة تستحق الدراسة والمتابعة والبحث في أسباب ودوافع تحول أشخاص عاديين إلى تبني الجهادية العنفية وشن عمليات بتخطيط ذاتي لقتل أشخاص يتهمون بالتهجم على الرموز الإسلامية، أو شن هجمات على الكنائس أو حتى قتل مدنييّن بشكل عشوائي. ففي 16 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قتل جهادي تونسي مواطنيّن سويدييّن في بروكسل بسبب سماح الحكومة السويدية لأشخاص بحرق القرآن. وتستهدف «الذئاب المنفردة» كذلك التجمعات الكبيرة، مثل الاحتفالات والمهرجانات الغنائية، لتفجيرها وقتل أكبر عدد ممكن من البشر، مثل الهجوم الذي كان ينوي جهادي من أصل مقدوني أن ينفذه على حفل المغنية تايلور سويفت في فيينا في أغسطس/آب 2024، ومحاولة مواطن من أصل شيشاني وآخر من أصل بوسني الهجوم على مهرجان للمثليين في فيينا في 17 يونيو/حزيران 2023.
ومن الملاحظ بأنه ومنذ موجة تدفق اللاجئين عام 2015، فإن قسماً كبيراً من «الذئاب المنفردة» هم من اللاجئين الجدد القادمين من سوريا وأفغانستان وشمال أفريقيا، وليس من أبناء الأجيال الثانية أو الثالثة للمهاجرين المولودين في أوروبا. وتعرضت ألمانيا منذ عام 2015 لعمليات إرهابية، أغلبها طعن بالسكاكين، من قبل مهاجرين جدد معظمهم قادمون من سوريا وأفغانستان، بخلاف ما يحدث في بلدان مثل فرنسا وبلجيكا، حيث نفذت الهجمات الفردية من قبل جهاديين ولدوا في تلك البلدان، وهم غالباً من أصول عربية من شمال أفريقيا.
ويسرد الباحث حوادث عديدة مثل إقدام الفلسطيني القادم من سوريا عبد الرحمن. أ في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 على طعن ثلاثة أشخاص في القطار السريع المتجه إلى مدينة نورنبرغ. وطعن السوري معن. د في أبريل/نيسان 2023 لشخص في مدينة ديسبورغ، ومن ثم اقتحامه صالة ألعاب رياضية وطعن أربعة أشخاص آخرين. وفي نهاية شهر مايو/أيار 2024، طعن الأفغاني سليمان .أ الصحافي الألماني ميخائيل شتورتس بيرغر بسبب انتقاداته للإسلام، وطعن شرطي ألماني حاول منعه مات لاحقاً. وفي أغسطس/آب 2024، قتل السوري عيسى . أ . ه في مدينة زولينغن ثلاثة أشخاص وجرح ثمانية آخرين أثناء اقتحامه احتفالاً. كما شن البوسني أيمراه إبراهيموفيتش هجوماً على القنصلية الإسرائيلية في مدينة ميونخ في سبتمبر/أيلول 2024 أسفر عن مقتله. وتبين وجود اتصالات بين المهاجم و«داعش».

استراتيجية «القاعدة» و«داعش» الجديدة

عمد تنظيم القاعدة، بعد إعلان الولايات المتحدة الحرب عليه، إلى بناء أفرع عديدة حول العالم ومنحها صلاحيات التحرك الذاتي. ومن هنا، تم تأسيس فرع التنظيم في العراق في 2004 وفرعه في الجزيرة العربية عام 2003، وفي الجزائر ومالي عام 2007، وفي اليمن عام 2009. وتعرض التنظيم إلى ضربات قوية من الولايات المتحدة قضت على حرية الحركة والتعبئة في المناطق التي كانت تعد معاقله في أفغانستان وباكستان. كما تم تصفية عدد كبير من قياداته ما بين أعوام 2009 و2012، ولاحقاً زعيمه أيمن الظواهري في 2022.
وعموماً فمنذ عام 2005، لم يتمكن تنظيم القاعدة من شن هجمات كبيرة. وكان الظواهري خرج على أتباعه في يونيو/حزيران 2011 يدعوهم إلى القيام بعمليات فردية بمبادرات ذاتية ودون الحاجة إلى الاتصال مع التنظيم. وباستثناء سوريا، حيث تأسست جبهة النصرة في 2013 والتي استقطبت عناصر التنظيم الأم حول العالم ما بين 2013 و2015، لم ينجح «القاعدة» في توطيد أركان أي فرع قادر على السيطرة على مساحة جغرافية ما والإمساك بالأرض فيها. وفي سوريا ورغم نجاح الولايات المتحدة في قتل عدد كبير من قادة وكوادر جبهة النصرة، نجح الفرع في تثبيت أقدامه، وعمد في عام 2017 إلى تغيير اسمه إلى هيئة تحرير الشام، واقتصار حربه على الساحة السورية، حيث ما زال يسيطر على مدينة دلب والمناطق المحيطة بها. ولم ترصد الدوائر الاستخباراتية أي توجيه أو دعوة لجبهة النصرة وحليفها تنظيم حراس الدين لأنصارهما بالقيام باعتداءات في أوروبا.
أما تنظيم داعش، فبدأ بالتشظي ابتداء من عام 2016 بعد أن تلقى ضربات على أيدي التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب. فالتنظيم الذي أعلن عن «دولة الخلافة» في عام 2014، تلقى ضربات ساحقة في كل من سوريا والعراق في 2017 وبعدها. واستطاعت الولايات المتحدة وحلفائها في كل من سوريا والعراق قتل عشرات الآلاف من مقاتلي التنظيم، ومن ضمنهم قيادات كبيرة مثل زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي الذي قتل عام 2019. وتحتفظ سجون إقليم شمال وشرق سوريا بحوالي 9000 مقاتل من «داعش»، بينهم 2000 من أصول أجنبية. ويحاول التنظيم تحرير هؤلاء المقاتلين، لكن كل محاولاته فشلت بسبب إحكام القوات الكردية قبضتها على السجون بالتعاون مع الولايات المتحدة. وعلى غرار «القاعدة»، عمد «داعش» أيضاً إلى بناء أفرع جديدة في العديد من البلدان حول العالم وكّل إليها العمليات العسكرية ومهام التوسع وبناء الإمارات الإسلامية، خاصة في أفريقيا.

صعوبة المتابعة وإحباط العمليات

من الملاحظ أن قدرة «داعش» على التخطيط للعمليات الإرهابية في أوروبا ضعفت. وبدت المراهنة على عمليات «الذئاب المنفردة» وعلى وسائل الترويج والدعاية في الانترنت، حيث الغرض منها التأثير في الشباب المسلم، خاصة اللاجئين الجدد، ودفعهم لارتكاب هجمات بتخطيط ذاتي على أهداف يختارونها هم بأنفسهم بعيداً عن تكليف المنظمة.
وتقول الدوائر الاستخباراتية الألمانية المختصة إن تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين من فئة الشباب من مناطق الحروب والنزاعات على ألمانيا بعد عام 2015، شكل تحدياً امنياً كبيراً للدولة، وإن الجهات الأمنية المعنية كثفت من اتصالاتها مع الاستخبارات الأجنبية لتلقي المعلومات منها والاستفادة من خبرتها في مجال مكافحة الإرهاب والكشف عن الخلايا النائمة وعن «الذئاب المنفردة» قبل أن تنجح في شن الهجمات على الأهداف التي حددتها.
وتعاني الاستخبارات الأوروبية من نقص في المعلومات وقلة الخبرة في التعامل مع ظاهرة «الذئاب المنفردة». وهي بذلك في حاجة ماسة إلى مساعدة وتعاون الاستخبارات الدولية، وكذلك في حاجة إلى دارسات أمنية واقتصادية واجتماعية للبيئات التي تصدّر الشباب الجهادي، بالإضافة إلى وسائل احباط أساليب الدعاية والترويج لدى تنظيم داعش وسد المنافذ الإعلامية التي يطل من خلالها على الشباب المسلم في أوروبا. ورغم تحقيق الاستخبارات الفرنسية والبريطانية للعديد من النجاحات وتمكنهما من إحباط عمليات كثيرة والكشف عن خلايا جهادية وأفراد كانوا يستعدون لشن اعتداءات، إلا أن الاستخبارات الألمانية مازالت دون المستوى المطلوب في احتواء هذه الظاهرة وتطويقها.
وعموماً، أظهرت الفترة ما بين 2014 و2017 مدى ضعف الاستخبارات الأوروبية في متابعة «داعش» ورصد خلاياه وأنصاره. ولولا المساعدة الأميركية في هذا المجال ومد الأوروبيين بالمعلومات، لكان الوضع الأمني أسوأ بكثير في ظل الفوضى التي حدثت بعد موجة الهجرة إلى أوروبا ابتداء من عام 2015 وقرار فتح الحدود على مصراعيها لأعداد هائلة من الشباب القادمين من مناطق الحروب والنزاعات في سوريا وأفغانستان وشمال أفريقيا.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد