ملامح «الكمين» التركي
قرار الحكومة التركية الأخير بـ«وضع اليد» على بلديات ماردين وباتمان وخلفتي التي فاز فيها حزب المساواة والديمقراطية للشعوب في الانتخابات المحلية نهاية شهر مارس/آذار 2024، هو تفصيلة أخرى ضمن مقاربة/عقلية أشمل تتعامل بها الدولة التركية مع القضية الكردية. عقلية تقوم على ممارسة واضحة للصهر القومي وتتريك الشعب الكردي وتوسيع وتجديد وتثبيت السياسات والممارسات التي تؤدي إلى ضرب العمل التنظيمي وكل مظاهر الوعي السياسي لدى الكرد. وتأتي هذه الخطوة في انتزاع البلديات الثلاث، وبالتالي الاستهتار بإرادة الناخبين ومجمل العملية الانتخابية، في جو عام يتحدث فيه أقطاب الحكومة التركية عن «الحل السياسي» وضرورة توطيد «التلاحم الداخلي» للحفاظ على «إخوة الألف عام بين الترك والكرد» والتصدي لكل «مخططات إعادة رسم المنطقة».
وكانت الأسابيع القليلة الماضية شهدت تصريحات أطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وقبله حليفه دولت بهجلي، رئيس الحركة القومية، حول القضية الكردية ودعوة قائد الحركة عبد الله أوجلان إلى القدوم للبرلمان في أنقرة والإعلان عن نهاية الكفاح المسلح والاستفادة من «قانون الأمل» وبالتالي «حل القضية الكردية» والانطلاق بتركيا إلى «مرحلة جديدة» وقرن جديد من «البناء والتقدم»!. وجاء لقاء البرلماني عمر أوجلان بالقائد أوجلان، بعد عزلة فرضتها عليه الحكومة التركية دامت 44 شهراً، ليقوّي سردية «الانطلاقة الجديدة» التي تقول بها أوساط قريبة من الحكومة التركية، في الحوار والتفاوض تحت قبة البرلمان، وبعيداً عن جبهات الحرب وساحات العمليات العسكرية. لكن كل هذا الكلام (الجديد/القديم، لكونه لم يخرج عن مفردات ثابتة توسم نضال الكرد بالإرهاب، وينزه الدولة عن سياسات الأرض المحروقة وحملات الاحتلالات/الإحلالات ودعم الجهاديين الدوليين)، لم يغير شيئاً من عقلية الدولة التركية القائمة على إنكار الكرد ونفي وجودهم والإصرار على ثابتة «الدولة الواحدة والشعب الواحد والعلم الواحد». استمرت الدولة التركية في التضييق على الهيكل التنظيمي في ولايات كردستان، وواصلت سياسات الاعتقال والمنع والمصادرة ووضع اليد، بالتوازي طبعاً مع توسيع الآلة العسكرية حملات الحرب في المناطق الجبلية في إقليم كردستان العراق ضد ما تقول إنها مواقع لمقاتلي حزب العمال الكردستاني، فضلاً عن استئناف القصف السجادي على البنية التحتية ومصادر الحياة في إقليم شمال وشرق سوريا.
المتابع للجولات السابقة من الحوار بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني، والتي كانت كلها تنطلق على قاعدة إنهاء الكفاح المسلح والمشاركة في الحياة السياسية التركية بعد إجراءات و«برامج» تذهب في دمقرطة البلاد وتغيير القوانين ومنح المزيد من الحقوق، سيعي عدم جدية هذه الدعوات. وسيعي أنها في الحقيقة لم ولا تعبر عن أي تغيير جذري في مقاربة الدولة التركية من القضية الكردية. وهي بالتالي ليست أكثر من «إجراءات» سياسية ضمن خطة أشمل تضم جوانباً عسكرية وأمنية واجتماعية واقتصادية وسياسية لتطويق الحراك الكردي الناهض وخداعه وإلهاءه واستدراجه لإضعاف المقاومة الكردية لسياسة الدولة التركية في التتريك والصهر القومي وتجفيف جغرافية كردستان من مظاهر الهوية الكردية. لم تكن تلك الجولات/المحاولات، وآخرها حديث بهجلي، سوى دعوات استسلام لا سلام تقوم عليها أجهزة دولة أحادية شمولية لا تفهم المطالب الديمقراطية والإنسانية الكردية، ودأبت طيلة تاريخها على إدراجها ضمن «الأخطار والمؤامرات التي تستهدف الأمن القومي ووحدة البلاد».
الراصد لسياسة حكومة حزب العدالة والتنمية حيال القضية الكردية سيعي كنه «محاولات» السلام والحل هذه. ففي 12 أغسطس/آب عام 2005، أطلق أردوغان في مدينة آمد/ ديار بكر تصريحه حول «وجود قضية كردية لم تحل منذ ثمانين عاماً»، واصفاً إياها بأنها قضيته وهو من سيتصدى لحلها. وبعد ساعات قليلة من تصريح أردوغان هذا، أعلن حزب العمال الكردستاني وقفاً لإطلاق النار لإظهار نواياه ورغبته في الحل السياسي واستعداده للحوار والتفاوض كأساس لحل القضية الكردية. وبين شد وجذب من جانب الحكومة والمعارضة التركية ورفض مؤسسات الدولة العميقة والمافيات والأوليغارشيات المتنفذة المنتفعة من بزنس الحرب على الكرد، تراجعت الوعود الكبيرة. وتحول «الانفتاح الكردي» الذي أعلن عنه أردوغان وقال إنه يضم حزمة إصلاحات نوعيّة وغير مسبوقة إلى «انفتاح ديمقراطي» ثم إلى «مشروع وحدة وطنية وأخوة» لا يخص الكرد ومناطقهم فقط، بل كل مناطق تركيا.
وبين أعوام 2005 و 2009، كان الحديث عن آليات الحل وخطوات التطبيع لكن دون تحقيق أي تقدم واضح وجوهري. وابتداء من عام 2009، جرت مباحثات بين مسؤولين في الدولة التركية وقياديين من حزب العمال الكردستاني، ومنها مباحثات أوسلو، لتستمر إلى عام 2011 وتنتهي دون أي نتيجة بسبب تمسك الدولة التركية بإستراتيجيها العليا في الإنكار والصهر القومي ومواصلة الرهان على الحسم العسكري وإضعاف الحركة الكردية، وبالتالي فرض الاستسلام عليها. لم تقبل الدولة التركية بأي من نماذج الحل لقضايا نزاعات مشابهة كتلك التي جرت بين بريطانيا والجيش الجمهوري الإيرلندي وبين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا والمؤتمر الوطني الأفريقي بزعامة نلسون مانديلا. رفضت تركيا المباحثات الطويلة والعلنية التي من ِشأنها تهيئة وتعويد الرأي العام علي آليات وتبعات الحل بشكل تدريجي وفضلت السرية والضبابية. كان واضحاً الإصرار على فرض نموذج «الحل» التركي، وهو نموذج في حقيقته لا يعدو سوى كونه تجميل أو تغليف الاستسلام بعبارات من قبيل «الحل الديمقراطي» و«الانفتاح»، وهو ما رفضه الجانب الكردي بشدة وحزم.
وجاءت مرحلة أخرى من مراحل «مساعي» حل القضية الكردية، ودائماً تحت ضغط التوازنات الداخلية التركية والمستجدات الإقليمية، بالنظر إلى تطورات القضية الكردية في الجوار. وكانت هذه المرحلة نهاية عام 2012، وبدأت بالزيارة التي قام بها هاكان فيدان، رئيس الاستخبارات التركية آنذاك، لسجن جزيرة إيمرالي للقاء القائد الكردي عبد الله أوجلان في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2012، حيث عرض أوجلان تصوره الذي ضمّنه في بنود لحل القضية الكردية ودمقرطة تركيا. وفي تلك المرحلة، كانت التطورات تتسارع في سوريا، حيث تمكن الكرد ابتداء من شهر يوليو/تموز 2012 من طرد مظاهر النظام السوري من مناطق كوباني وعفرين والجزيرة، وتوطيد نظام الإدارة الذاتية المجتمعية، وظهرت إدارات محلية في المقاطعات الثلاث بمشاركة المكونات العربية والسريانية، بعد نجاح وحدات حماية الشعب (YPG) في التصدي للمجموعات المسلحة المتشددة التي حاولت التوغل في المناطق ذات الغالبية السكانية الكردية. أثّرت كل هذه التطورات في قرار الدولة التركية استئناف الحوار مع أوجلان وحزب العمال الكردستاني. وفي يناير/كانون الثاني 2013، توجه وفد من حزب الشعوب الديمقراطي إلى جزيرة إيمرالي لمقابلة أوجلان وبحث مقترحات حل القضية الكردية. قبل ذلك بأيام، تمكنت الاستخبارات التركية من اغتيال القيادية ساكنة جانسيز وناشطتين كرديتين في شقة في العاصمة الفرنسية باريس. ورغم مكانة جانسيز، باعتبارها من الرعيل الأول المؤسس لحزب العمال الكردستاني، إلاّ أن حزب العمال الكردستاني لم يعلق مباحثات السلام وتمسك بالحوار والتفاوض على أمل إنجاح مساعي حل القضية الكردية. وكان أردوغان وصف جريمة الاغتيال بأنها «تصفية داخلية» في إطار الترويج للدعاية الرسمية بأن حزب العمال الكردستاني ضعيف ويتعرض للانشقاق، وأن ما تقوم به الدولة التركية من مباحثات هي في واقع الحال «إجراءات رسمية لفرض الاستسلام عليه ودفعه للتخلي عن السلاح».
أطلق أوجلان خلال الاحتفال المركزي بعيد نورز القومي في مدينة آمد/ديار بكر في 21 مارس/آذار 2013 دعوته لحل القضية الكردية والاستعداد للتخلي عن الكفاح المسلح، في حال تنفيذ خطوات الحل المتفق عليها، والتحقق من جديّة وصدق الدولة التركية في مساعي الاعتراف بالهوية والحقوق الكردية ودمقرطة تركيا. وساد جو من الارتياح والأمل، رغم حالة التوجس والحذر لدى أوجلان وحزب العمال الكردستاني جرّاء مواصلة الدولة التركية، خفيّة وعلانية، لخططها/خطواتها الخاصة الرامية للنيل من حزب العمال الكردستاني وقوته العسكرية والتنظيمية. وقبل ذلك، كانت جهات شبه رسمية تركية نشرت قائمة بأسماء «مجموعة العقلاء» ضمت 63 اسماً مهمتهم البحث في إجراءات حل القضية الكردية وتهيئة المجتمع والرأي العام للسلام ولخطوات الحل. كان هناك ارتياح مجتمعي واضح وجهود مخلصة تقوم بها شخصيات كردية وتركية على أمل تحقيق انفراج حقيقي في ملف القضية الكردية وإنهاء الحرب المستمرة منذ عام 1984 وإنهاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية والتعبئة العسكرية في ولايات كردستان الشمالية.
كان هناك تصور حل تبلوّر لدى أوجلان. وضع القائد الكردي برنامج حل من عشر نقاط تضمن ضرورة وقف الدولة التركية العمليات العسكرية وإطلاق سراح السياسيين الكرد المعتقلين في السجون وترتيب عفو عام شامل. ومن ثم، العمل على دستور جديد يضمن الاعتراف بالهوية الكرية ورعاية الثقافة الكردية ورفع القيود المفروضة عليها ووقف سياسات التتريك والصهر القومي وقبول مشروع الإدارة الذاتية لولايات كردستان وتخفيض حاجز 10% أمام الأحزاب السياسية لدخول البرلمان إلى 5% فقط.
استمرت المباحثات واللقاءات التي أجراها نواب حزب الشعوب الديمقراطي مع كل من أوجلان وقيادات حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل/إقليم كردستان العراق ومسؤولين في الدولة التركية إلى بداية عام 2015. وكانت الذروة اللقاء الذي حدث نهاية فبراير/شباط 2015 بين وفد حزب الشعوب الديمقراطي الذي ضم كل من سري ثريا أوندر وادريس بالوكان وبروين بولدان مع نائب رئيس الوزراء التركي يالجين آكدوغان في قصر دولمه بهجه في اسطنبول. وخرج البرلماني سري ثريا أوندر للإعلام وقال إنه ورغم المصاعب الكبيرة والمعوقات إلا ان المباحثات مستمرة، والهدف هو حل القضية الكردية وضمان تعهد الحكومة التركية بالتزاماتها في تطبيق برنامج الحل والتسوية، في ظل دعوة أوجلان إنهاء الكفاح المسلح في حال الاعتراف بالكرد وتنفيذ مطالب الشعب الكردي. وكان مقرراً أن يعقد حزب العمال الكردستاني مؤتمراً طارئاً في ربيع عام 2015 للإعلان رسمياً عن التخلي عن الكفاح المسلح والانخراط في التحول الديمقراطي المنشود في تركيا.
رفض رجب طيب أردوغان اللقاء بين نائبه والبرلمانيين في حزب الشعوب الديمقراطي، وأعلن أنه في حل عما ترتب عنه، وعاد بكل مساعي الحل والمباحثات واللقاءات إلى المربع الأول. ورغم التصريحات الإيجابية لمسؤولين في الحكومة التركية، ومنهم رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو ونائب رئيس الوزراء بولنت آرينج ورغبتهما المضي قدماً في المفاوضات الجارية مع أوجلان وحزب العمال الكردستاني، إلا أن أردوغان أنقلب على كل المرحلة وأعلن التمسك بسياسة الدولة التقليدية، رافضاَ الاعتراف بوجود مشكلة كردية أصلاً. انطلق أردوغان من مخاوفه من تصدر حزب الشعوب الديمقراطي في الانتخابات البرلمانية المزمع أجراؤها في يونيو/حزيران 2015 وبالتالي التمكن من انتزاع ولايات كردستان منه، وهو الذي كان يتشدق بأنه يحصل على أصوات أغلبية المواطنين الكرد وبالتالي هو من يمثلهم لا الحركة الكردية. خاف أردوغان من فوز حزب الشعوب الديمقراطي وما يترتب على ذلك الفوز من إضعاف لحزبه والحيلولة دون تمكينه من تمرير التعديلات الدستورية التي يرغب فيها لكسب صلاحيات رئاسية مطلقة. علم أردوغان بأن الانفراج النسبي وحالة الارتياح وسط الشارع الكردي الناتجة عن اتصال أوجلان المباشر مع البرلمانيين في حزب الشعوب الديمقراطي ومع قيادات حزب العمال الكردستاني والحديث عن حل القضية الكردية وإصدار العفو العام والاعتراف بهوية وحقوق الكرد، سوف يدفع بالكرد المترددين إلى ترجيح كفة حزب الشعوب الديمقراطي الذي تحول، من خلال المفاوضات وجولات الحوار مع الحكومة، إلى ممثل رسمي عن الكرد، وهو ما يعني خسارة حزب العدالة والتنمية للأصوات الكردية كله، والخروج نهائياً من جغرافية كردستان.
جرت الانتخابات البرلمانية في يونيو/حزيران 2015، وحقق فيها حزب الشعوب الديمقراطي نسبة 13,12% من مجموع الأصوات في عموم تركيا، مصدّراً 80 برلمانياً إلى البرلمان. وفقد حزب العدالة والتنمية الأغلبية البرلمانية بحصوله على نسبة 40,87%، بعدما كان حصل في الانتخابات السابقة عام 2011 على 49,95%. فهم أردوغان نتائج الانتخابات وخسارة حزبه القاسية في ولايات كردستان على أنها عقوبة ورد فعل على إنهاءه لعملية الحوار والتفاوض مع أوجلان وحزب العمال الكردستاني. وظهرت أصوات بين الكرد تدعو إلى مغادرة البرلمانيين عن ولايات كردستان العاصمة أنقرة (فاز حزب الشعوب الديمقراطي في 14 ولاية كردية بـ50 برلمانياً مقابل 9 لحزب العدالة والتنمية) والتوجه إلى ديار بكر والإعلان عن برلمان محلي، في حال أن أصرت الحكومة التركية على التمسك بعقلية الحرب والحسم العسكري في تعاملها مع الكرد ورفضها الحوار والمفاوضات مع أوجلان والحركة الكردية.
أثرّت الخسارة على أردوغان، الذي رفض تقبل نتائج الانتخابات وبدأ يخطط لجولة إعادة. ومن هنا، بدأت مراهنة أردوغان على الأصوات القومية التركية، من خلال نشر الحرب وإشاعة الفوضى والتخريب في كردستان بغية ردع وترهيب كتلة حزب الشعوب الديمقراطي وثنيها عن المشاركة في الانتخابات، فضلاً عن قرار التصويت له. ووقعت في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2015 هجمات تفجير وتفخيخ، وأخرى انتحارية، طالت مقار حزب الشعوب الديمقراطي والمظاهرات الشبابية المؤيدة له، وأسفرت عن مقتل أكثر من 50 مواطناً كردياً (أشار إليها أحمد داود أوغلو لاحقاً بدفاتر الإرهاب التي إن فتحت لن يستطيع أصحابها النظر في وجوه الناس). وبدأت السلطة تهيء الأرضية لانتخابات جديدة، والتي جرت فعلاً في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 وفاز فيها حزب العدالة والتنمية بنسبة 49,49%، بعد نال قسماً كبيراً من أصوات الأحزاب القومية التركية، وفي مقدمتها حزب الحركة القومية. أعلن أردوغان تحالفاً مع حزب الحركة القومية وزعيمه دولت بهجلي، متعهداً له برفض كل حوار مع الحركة الكردية وعزل أوجلان وتوسيع العمليات العسكرية في إقليم كردستان ومواصلة دعم مسلحي المعارضة السورية الموالية لتركيا ضد الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا وإطلاق عمليات احتلال لمناطق سورية، بالإضافة إلى شن حملة اعتقالات واسعة بحق سياسيي وقادة حزب الشعوب الديمقراطي ووضع اليد على البلديات التي فاز فيها الحزب بحجة وجود علاقة لهؤلاء مع حزب العمال الكردستاني.
منذ نهاية 2015، يمارس تحالف أردوغان/بهجلي سياسة الأرض المحروقة بحق الكرد في داخل وخارج تركيا. كان هناك حزمة كبيرة من الجرائم وممارسات إرهاب الدولة، سواء من خلال عمليات الجيش التركي والاحتلالات في إقليم كردستان العراق وإقليم شمال وشرق سوريا، أو حملات الاعتقالات والمصادرة بحق السياسيين والكوادر التنظيمية والصحافيين والنشطاء الكرد. منذ ذلك التاريخ، والمراهنة مستمرة على سحق الحركة الكردية. هناك استخدام لكل الأساليب والإمكانات للنيل من الكرد داخل وخارج تركيا، من استعمال للقوة العسكرية الغاشمة وإرسال الجهاديين وتشكيل ميليشيات لمحاربة الكرد في سوريا واحتلال مناطقهم وممارسة جرائم التطهير العرقي والديمغرافي. لم يظهر «التغيير» في مسلّمات وثوابت حملة الحرب والاجتثاث هذه إلا مؤخراً، من خلال «دعوات» حل القضية الكردية بعد التطورات الأخيرة في المنطقة عقب 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 والحرب المستعرة بين إسرائيل وحركة حماس وحزب الله وإيران وحلفائها في اليمن والعراق وسوريا. تقول تركيا إن هناك مخططاً يريد تقسيم دول المنطقة، ومن ضمنها تركيا. لذلك، بدأت تتحدث عن «حل القضية الكردية» وفق تصورها الجديد/القديم الذي هو في واقع الأمر وصفة استسلام لا سلام.
تريد تركيا أردوغان/ بهجلي فرض الاستسلام على الحركة الكردية التي تظنها ضعفت بعد حملات الحرب الكبيرة ولم تعد قادرة على تهديد تركيا بالشكل الذي كان في الماضي. يقوم التصور التركي على فرض صيغة «حل» هي أقرب إلى صيغة استسلام وتركيع وإنهاء القضية الكردية بدون مقابل تقدمه الدولة التركية للشعب الكردي وحركته السياسية. إنها استدارة ضمن حزمة الإجراءات العسكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية للإجهاز على الحركة والحراك الكرديين، وتأتي مستفيدة ومستوحاة من الصراع الدائر بين إسرائيل وإيران وحلفاؤها. كذلك، هي، في الجانب الإمبراطوري المتخيل لشخصيتي أردوغان وبهجلي، مناورة الغرض منها جذب الانتباه في غمرة حرب الصواريخ والطائرات بين إيران وإسرائيل، عبر الصراخ لشد الأنظار إلى «الدولة الإقليمية القوية» التي ترفض «مخططات الشرق الأوسط الجديد» عبر ترتيب بيتها الداخلي وزيادة «التلاحم التاريخي» بين مكوناتها!.