الحزب الجمهوري ممثلاً للعمال والفلاحين؟!

الحياة اليومية تعيد رسم خريطة التصويت السياسي في الولايات المتحدة

حسين جمو 
في العالم الأميركي الجديد، وربما الأوروبي، ليس من ضروب الخيال البعيد أن تغدو أحزاب اليمين والمحافظون التقليديون قادة الطبقة العاملة والموظفين. فالطبقة الوسطى تتفكك سياسياً منذ عقود. وتسارعت هذه العملية في السنوات الأخيرة.
يلاحظ هذا الأمر عالمياً وليس فقط في الولايات المتحدة. ولعل العنصر الحاسم في إعادة إنتاج الطبقة الوسطى وتفكيك القديمة، هو الموجة الأخيرة من الثورة التكنولوجية (عصر الذكاء الاصطناعي) وإعادة تمركز الرأسمالية حول الابتكارات التقنية، وهو عصر أصبح فيه الفلاحون وأبناء البيئة الزراعية والقروية، بفضل زعماء التكنولوجيا أمثال إيلون ماسك، أكثر قدرة على تشكيل آراء سياسية ونقدية ومساءلة السلطة والبحث عمن يشبههم في التمثيل السياسي. وباعتبار أن آراء هذه الفئات المطلة حديثاً على العالم الأوسع عبر التكنولوجيا تنطلق من مصالح مباشرة تتعلق بحياتهم اليومية، فإن إدانة دونالد ترامب في المحكمة، وهو شخص نادراً ما يقرأ خطاباته من ورقة معدة مسبقاً ويتحدث بلهجة الشارع غير الرسمي ويهاجم خصوم هؤلاء المزارعين والموظفين والمتدينين، لا تؤثر على صورته، وهذا ما حدث في هذه الانتخابات حين صوتت غالبية الشعب الأميركي ضد إدانة ترامب مجرماً.
من المبكر تحديد ملامح التكوينات الاجتماعية الجديدة. ويمكن ملاحظة انعدام اليقين في تعريف الطبقة الوسطى والجمهور من مجريات الانتخابات الأميركية الأخيرة التي انتهت بفوز ترامب وهزيمة الليبراليين واليساريين الذين مثلتهم كامالا هاريس. المفاجأة، أن الحزب الجمهوري، الذي كان يوصف أنه حزب الرأسماليين والأثرياء المتهربين من الضرائب، يتحول إلى حزب الطبقة العاملة بامتياز. قد لا يكون هذا الانزياح العمالي نهائياً، وربما يكون ردة فعل على خيبة الأمل من الديمقراطيين وطروحاتهم الليبرالية المنفصلة عن واقع هذه الفئات التي تكافح للنجاة من السقوط في الفقر المدقع.
قد ترقى هزيمة الديمقراطيين إلى ضربة قاصمة ضد «اليسار الليبرالي اللاطبقي». اليسار المهزوم هنا هو «يسار الجندر» الذي أصبحت أهم قضاياه الأخلاقية مرتبطة بالحرية الجنسية. إن واحدة من مشكلات هذا اليسار مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين- على سبيل المثال – أن الأخير متهم بالذكورية.
تتصدر هذه التعبيرات الانعزالية الحقيقية خطابات النخب والأكاديميات المرموقة الليبرالية واليسارية في عالم يعيش فيه نحو 700 مليون شخص في فقر شديد وتدور فيه 56 حرباً. وعليه، فإن اتهام ترامب بالانعزالية ليس أمراً مفروغاً منه. فبإمكان الطرف الآخر الرد بسهولة على هذا التوصيف بل واتهام الليبراليين واليسار الجندري بالانعزالية والانفصال عن الواقع.
خلال سنوات طويلة، تشكلت القاعدة السياسية للحزبين حول الطبقة الوسطى وادعاء كل حزب تمثيلها بصورة أفضل من منافسه. سار الأمر على هذا النحو طيلة القرن العشرين حيث ارتفعت يوتوبيا «الحلم الأميركي»، ثم وصل هذا الحلم إلى أدنى حالاته في عهد الرئيس جو بايدن.
في سبتمبر/ أيلول الماضي، أظهر استطلاع للرأي أجرته صحيفة «وول ستريت جورنال» مزيداً من التلاشي في الحلم الأميركي مع الصعوبات الاقتصادية المتنامية التي تصعب على الأميركيين تحقيق العناصر الأساسية للحياة الموعودة في الحلم، وهو امتلاك منزل، تكوين عائلة، والتطلع إلى تقاعد مريح. ويعتقد القليل منهم أنهم قادرون على تحقيقه بسهولة. وفي حين أن 89% من المشاركين في الاستطلاع قالوا إن امتلاك منزل هو إما أساسي أو مهم لمستقبلهم، فإن 10% فقط قالوا إن تحقيق ملكية المنزل أمر سهل أو ممكن. بالمثل، تم تصنيف الأمن المالي والتقاعد المريح على أنهما أساسيان أو مهمان بنسبة 96% و95% على التوالي، ولكن تم تقييم تحقيقهما على أنه سهل أو نوعاً ما سهل من قبل 9% و8% فقط. هذه الفجوة تعيد الحلم الأميركي إلى حالته الأصلية: حلم لا مكان له في الواقع.

ما هو الحلم الأميركي؟

في العام 1931، صاغ المؤرخ الأميركي جيمس آدامز مصطلح «الحلم الأميركي»، وهو واقع كان موجوداً فقام بتأطيره فكرياً في هذا المصطلح الذي أصبح يراود عشرات الملايين من سكان العالم خارج الولايات المتحدة سعياً لهذا الحلم الذي يكسر كل عوائق التقدم الفردي في «العالم القديم»، وفق آدامز، ـ أي أوروبا وآسيا وأفريقيا، ليقترن الإنجاز فقط بالجدارة والاجتهاد، حيث لا شيء يمكن أن يقف في وجه المواطن الأميركي للارتقاء، بما في ذلك تحقيقه العناصر الأساسية للرخاء الاجتماعي وهي امتلاك منزل وعائلة وأبناء وسيارة وعمل براتب فائض وتقاعد مريح في آخر العمر.
هكذا صيغ الحلم نظرياً. وعملياً، شابه الكثير من الشوائب حين وجد الأميركيون السود والملونون أنفسهم خارج هذا الحلم حتى مطلع السبعينيات حين بات عدد منهم – بشكل محدود وربما انتقائي- يجدون طريقهم للصعود في سلم الاقتصاد والسياسة.
شمل استطلاع «وول ستريت جورنال»  1502 شخصاً بالغاً في الولايات المتحدة، وأظهر فجوة كبيرة بين رغبات الناس وتوقعاتهم، ذكوراً وإناثاً. لكنه كان أكثر وضوحاً بين الأجيال الشابة التي أصبحت غير قادرة على تحمل تكاليف شراء المنازل وتواجه أسعار فائدة مرتفعة وديون طلابية.
قبل اثني عشر عاماً، عندما سأل باحثون 2500 شخص عما إذا كان «الحلم الأميركي لا يزال سارياً»، قال أكثر من نصفهم إنه كذلك. ولكن عندما طرحت «وول ستريت جورنال» السؤال نفسه في يوليو/تموز 2024، انخفضت النسبة إلى حوالي ثلث المستجيبين.
يقول إيمرسون سبريك، وهو اقتصادي في «مركز السياسات الحزبي» في واشنطن: «تبدو الجوانب الأساسية للحلم الأميركي بعيدة المنال بطريقة لم تكن كذلك للأجيال السابقة». ويشير سبريك إلى التراجع المستمر في معاشات التقاعد في القطاع الخاص، ما أدى إلى اختفائها تقريباً، وارتفاع تكاليف ملكية المنازل، كاثنين من أكبر التغيرات الاقتصادية على مدى العقد الماضي.
في حين كان حوالي 90٪ من الأطفال المولودين في عام 1940 أفضل حالاً في نهاية المطاف من والديهم، وفقاً لبحث أجراه أستاذ الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ناثانيال هندرن وخبير الاقتصاد في جامعة هارفارد راج تشيتي، إلا أن حوالي نصف المولودين في الثمانينيات فقط كانوا قادرين على قول الشيء نفسه. يقول هندرن إن الفئات العمرية الأصغر سناً تبدو في وضع مماثل بناءً على نمو الدخل المتوسط، لكنها ربما شهدت دفعة طفيفة بعد كوفيد-19 حيث تجاوزت أجور الأميركيين من ذوي الدخل المنخفض أجور غيرهم من أصحاب الدخول.
ينظر تشيتي إلى الحلم الأميركي من خلال عدسة مدى صعوبة وصول شخص يبدأ في أسرة فقيرة إلى الطبقة المتوسطة. ويقول إنه بالنسبة إلى الأميركيين البيض على وجه الخصوص، أصبح هذا الهدف يشكل تحدياً أكبر بشكل ملحوظ على مدار السنوات الخمس عشرة الماضية. ويرى أن الناس محقون في الشعور بأن الحلم الأميركي أصبح أكثر صعوبة من حيث فرصهم في تحقيق أداء أفضل من آبائهم أو فرصهم في التخلص من الفقر.

لماذا ترامب؟

إذاً، أمام مصطلحات مثل الطبقة الوسطى والطبقة العاملة والحلم الأميركي، عمّن يبحث المواطن الأميركي اليائس من الحلم الأميركي وفاقد الثقة بجدوى «الجدارة» في بلد تتولى الحكومة توسيع الإنفاق بالاقتراض؟ الأرقام وخريطة التصويت المهنية والثقافية تكشف جانباً من الإجابة أن الإجابة هي دونالد ترامب.
أعاد ترامب تشكيل الحزب الجمهوري ليصبح الممثل السياسي للأميركيين البيض من الطبقة العاملة، وفق تقرير نشره آرون زينتر في «وول ستريت جورنال».
تُظهِر الأرقام الأولية أن ترامب نجح هذا العام في تحقيق أحد أهم طموحات الحزب الجمهوري منذ ذلك الحين: التحول إلى حزب يجتذب الناخبين من الطبقة العاملة من جميع الخلفيات الثقافية والدينية.
خريطة التصويت للحزبين (الأحمر للجمهوريين)
وكانت القاعدة الموسعة من الناخبين غير الجامعيين سبباً في تعزيز موقف ترامب في البيت الأبيض. وهو تحول له آثار مهمة على أجندة السياسة لكلا الحزبين، إذ ترشح ترامب مرة أخرى على أساس برنامج يقوم على فرض تعريفات جمركية أعلى وتشديد إجراءات الأمن على الحدود واتخاذ مواقف اجتماعية محافظة في الغالب. والواقع، أن الناخبين البيض الذين لا يحملون شهادة جامعية، والذين يطلق عليهم غالباً الناخبون من الطبقة العاملة، يشكلون قوة متراجعة مع تزايد تنوع المجتمع وتعليمه. واليوم، بدلاً من انتزاع المزيد من الأصوات من مجموعة متقلصة، أظهر الجمهوريون أنهم قادرون على استكمال الناخبين البيض بأصوات من الأقليات.
كان الناخبون السود واللاتينيون، خاصة الرجال، أكثر ميلاً نحو ترامب هذا العام مقارنة بعام 2020، حيث تضاعف دعم السود تقريباً إلى 15٪ ونمو دعم اللاتينيين بمقدار 6 نقاط مئوية إلى 41٪.
من بين الذين شملهم الاستطلاع، تفوق ترامب بالناخبين غير الجامعيين من جميع الخلفيات العرقية بنسبة 12 نقطة مئوية على خصمه الديمقراطي، مقارنة بـ4 نقاط في عام 2020، وهو تحول مهم نحو الحزب الجمهوري في مجموعة شكلت ما يقرب من 60٪ من جميع الناخبين. على النقيض من ذلك، تراجعت كامالا هاريس بنقطة واحدة بين الناخبين المتعلمين في الكليات مقارنة بأداء حزبها في عام 2020، وفازت بهم بفارق 15 نقطة.
يشير التحرك نحو ترامب بين الناخبين من الأقليات والناخبين غير الجامعيين من العديد من المجموعات العرقية إلى تغيير مهم في الانقسامات السياسية في الولايات المتحدة، بحسب آرون زينتر، إذ أنه «بينما نصبح أقل انقساماً على أساس العرق والإثنية، تزداد المسافة بين الطبقة المهنية الحضرية (الموظفين) والطبقة العاملة في البلاد».
ويقول مايكاه روبرتس، وهو خبير استطلاعات رأي جمهوري، إن «ما نشهده هو إعادة تنظيم اجتماعي في جميع أنحاء البلاد والتحرك نحو اليمين بين الناخبين غير الجامعيين». ويضيف أن هذا التغيير «كان مدفوعاً إلى حد كبير بالرجال البيض من الطبقة العاملة، ولكنهم الآن يجلبون معهم أيضاً رجالاً من السود واللاتينيين ليس لديهم شهادة جامعية».
بعد خسارة ترامب في انتخابات 2020، وجد بعض الجمهوريين جانباً إيجابياً في الأمر. فمن خلال فوزه بـ11 مليون صوت إضافي مقارنة بـ2016، جذب المزيد من الناخبين من الطبقة العاملة إلى الحزب. في مذكرة بعنوان «ترسيخ الحزب الجمهوري كحزب للطبقة العاملة»، أشار النائب آنذاك جيم بانكس من إنديانا إلى أن 79% من الميكانيكيين و59% من عمال النظافة تبرعوا لترامب، بينما تبرع 94% من أساتذة الجامعات و73% من المصرفيين لبايدن الذي كان مرشحاً في ذلك الحين. واعتبر بانكس أن هذا الانقسام بين ما وصفه بـ«النخبة الثقافية المؤسساتية» وبقية البلاد «هدية سياسية» من ترامب يمكن للحزب البناء عليها.

الأصوات اللاتينية تتخلى عن تقاليدها

ذكر بانكس أن الناخبين من أصل إسباني سيفضلون سياسات ترامب الصارمة لوقف الهجرة غير الشرعية، وأن الناخبين السود واللاتينيين يعارضون السياسات المؤيدة للمتحولين جنسياً المرتبطة بالديمقراطيين، وأن أجندة ترامب بشأن هذه القضايا، فضلاً عن سياسات التجارة التي تهدف إلى حماية الوظائف الأميركية، من شأنها أن تجتذب المزيد من هؤلاء الناخبين.
في يوم الثلاثاء، فاز بانكس بانتخابات مجلس الشيوخ من ولاية إنديانا. في خطاب النصر، أخبر أنصاره أن والده كان عامل مصنع متقاعد، وكانت والدته طاهية سابقة في دار رعاية المسنين، وأنه قضى السنوات الأولى من حياته في متنزه للمقطورات. وقال إنه سيكرس نفسه للنضال من أجل الناس الذين يعيشون في ذلك المتنزه الآن من خلال الدفع ضد «النخب والديمقراطيين» الذين «يرسلون وظائفنا إلى الخارج.. إلى الصين والمكسيك».
يرى آرون زينتر أن هذا التحول، إذا ثبت، سيكون له تداعيات مهمة على أجندة كلا الحزبين. سيتعين على الديمقراطيين أن يقرروا ما إذا كان أفضل مسار لهم هو الانتقال إلى المركز السياسي بشأن بعض القضايا التقدمية في محاولة لاستعادة بعض الناخبين المنشقين، أو ما إذا كان المسار الأفضل هو محاولة تنشيط الجناح الليبرالي المضطرب. وسوف يتعين على الديمقراطيين أيضا أن يدققوا لماذا لم يكسب الحزب أي فائدة من ثلاثة تشريعات كبيرة تم تمريرها في وقت مبكر من ولاية بايدن والتي أدت إلى استثمارات في البنية التحتية ومصانع أشباه الموصلات وغيرها من أعمال البناء.
وسيتعين على الجمهوريين أن يأخذوا في الاعتبار الصراعات داخل صفوفهم بين الجناح التقليدي المؤيد للأعمال التجارية في الحزب، والذي يتوخى الحذر من مقترحات ترامب مثل التعريفات الجمركية المرتفعة، ومجموعة متزايدة من قادة الحزب الجمهوري الذين يقولون إن التعريفات الجمركية تحمي الوظائف في الولايات المتحدة، وأن الشركات يجب أن تفعل المزيد لتعزيز العمال والأسر.
كان هناك تغيير هائل بين الناخبين الشباب الذين تقل أعمارهم عن 30 عاماً. ففي حين ظلت الشابات ديمقراطيات بقوة، وإن كان ذلك بدرجة أقل بكثير مما كانت عليه في عام 2020، تحول الشباب بشكل كبير إلى اليمين. من المرجح أن يضيف تحول الشباب دعماً لبعض سياسات ترامب. يؤيد الشباب فكرة تمديد التخفيضات الضريبية التي وقعها ترامب لتصبح قانوناً، والتي تنتهي في عام 2025، في حين تتبنى الشابات الموقف المعاكس، كما تظهر استطلاعات الرأي. يدعم الشباب بعض السياسات المتعلقة بالمتحولين جنسياً بشكل أقل من النساء.
يظل الرجال البيض من الطبقة العاملة أساس دعم ترامب، إذ حصل على تأييد 68٪ منهم.
دفع تحول الناخبين السود واللاتينيين إلى تغييرات جذرية في التوجهات السياسية في معظم أنحاء البلاد. في ولاية بنسلفانيا، بدا أن ترامب يستفيد من زيادة الدعم اللاتيني. وفي فلوريدا، دعمت مقاطعة ميامي ديد ذات الأغلبية اللاتينية الديمقراطية هيلاري كلينتون بفارق 30 نقطة في عام 2016 وبايدن بفارق 7 نقاط في عام 2020. وفي يوم الثلاثاء، شهدت تحولاً دراماتيكياً نحو ترامب الذي فاز بها بنحو 12 نقطة. كما قلب ترامب مقاطعة أوسيولا ذات الأغلبية اللاتينية، بالقرب من أورلاندو، بفوز ضيق بعد أن فاز بها بايدن بنحو 14 نقطة.
يختم زينتر تقريره باقتباس من مايكاه روبرتس، خبير استطلاعات الرأي الجمهوري: «هذا تغيير كبير عندما يتعلق الأمر بالتركيبة العرقية للحزب الجمهوري. هذا هو عصر ترامب».

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد