شنكال في مرمى النيران التركية

د.طارق حمو

بدأت الدولة التركية واعتباراً من 23 أكتوبر/تشرين الأول الجاري هجمات جوية مركزّة بالطائرات الحربية والمسيّرات طالت قضاء شنكال في إقليم كردستان العراق. واستهدفت هذه الهجمات، بحسب بيان لوحدات مقاومة شنكال (YBS)، 16موقعاً مدنياً، وأسفرت عن مقتل وجرح العشرات من المواطنين. وفي ليلة 24 أكتوبر/تشرين الأول، قصفت طائرات حربية تركية مقراً لقوات مقاومة شنكال في منطقة خانصور في شرق شنكال، ما أسفر عن مقتل 6 مقاتلين وجرح آخر.
تتزامن هجمات الدولة التركية المستمرة على شنكال مع الاستهدافات الواسعّة والمركزّة على البنية التحتية في إقليم شمال وشرق سوريا والتي بدأت في 23 أكتوبر/تشرين الأول، حيث دمرت الطائرات الحربية والمسيّرات والمدفعية التركية عشرات المنشآت الخدمية من مصانع ومحطات كهرباء ووقود وأفران ومشافي ومدارس وملاعب كرة القدم وغير ذلك من مظاهر خدمية مدنية تتبع الإدارة الذاتية، وأوقعت عشرات القتلى والجرحى بين المدنيين.
وكشفت وحدات مقاومة شنكال في بيانها أسماء مقاتليها، وقالت إنهم ستة بينهم مقاتل من المكون العربي، وهم كل من: هفال نمر قاسم علي، عمران أحمد قاسم قولو، عزيز خيرو كردو، رائد خالد حسين، صلاح حسن عامر، وعد حامد هيكل. وتم تشييع جنازات المقاتلين في شنكال بمشاركة كبيرة من الأهالي، حيث نددت الإدارة المدنية في شنكال بهجمات الدولة التركية على المدنيين وقوات الحماية والشرطة، مطالبة الحكومة العراقية بالتدخل لوقف الانتهاكات التركية بحق الأهالي واحترام إرادة المواطنين في تسيير شؤونهم والتعاون معاً للدفاع عن منطقتهم في وجه المجموعات الخارجة عن القانون وتلك الإرهابية وعلى رأسها تنظيم داعش الذي لا تزال خلاياه نشطة في الباديتين العراقية والسورية.
ودأبت الدولة التركية بشكل مستمر على شن هجمات جوية على المصالح المدنية والعسكرية في قضاء شنكال، بالإضافة إلى أعمال تخريب واغتيال بحق الشخصيات السياسية والاجتماعية، للنيل من الإدارة الذاتية المدنية التي أسسها أهل قضاء شنكال في 15 يناير/كانون الثاني 2015 بمشاركة جميع المكونات (كرد إيزيديين ومسلمين وشبك، وعرب سنّة وشيعة، وآشوريين مسيحيين)، والتي تهدف لتقديم الخدمات للأهالي والاهتمام بالجوانب التنظيمية للمجتمع ورعاية قطاعات التعليم والصحة والطفولة والمرأة، بالإضافة إلى حماية المنطقة وسكانها عبر تشكيل قوة عسكرية وأخرى أمنية محلية بالتعاون مع الحكومة المحلية في نينوى والمركزية في بغداد. وكان الأهالي في شنكال شاركوا في الانتخابات المحلية في محافظة نينوى التي جرت في 18 ديسمبر/كانون الأول 2023 وتمكّن مرشحهم عن حزب الحرية والديمقراطية الإيزيدي بالفوز بمقعد فيها.
لقد شنت الدولة التركية منذ عام 2015 مئات الهجمات الجوية بالطائرات الحربية والمسيّرات ضد البنية التحتية في شنكال وضد قوات مقاومة شنكال وقوات الأمن والشرطة. كما أسست أنقرة شبكات تجسس وتجنيد العملاء المحليين لجمع معلومات على الأرض ساهمت في تمكين الاستخبارات التركية من تصفية عشرات الشخصيات المدنية والعسكرية في شنكال (زكي شنكالي، سعيد حسن، بير جكو، دجوار فقير، زردشت شنكالي، مروان بدل، منال ماردين، وغيرهم). وتحاول الدولة التركية تدمير نموذج الإدارة الذاتية في شنكال عبر القصف المستمر للبنية التحتية واستهداف الشخصيات السياسية والكوادر العسكرية لإشاعة جو من الرعب بين الأهالي ومنعهم من التعاون مع هذه الإدارة والحيلولة دون عودة عشرات الآلاف من أبناء شنكال من الموجودين في المخيمات في دهوك وغيرها من مدن إقليم كردستان. إن هدف تركيا هو منع ظهور حالة من الاستقرار في شنكال قد تشجع وتغري النازحين بالعودة إليها والمساهمة في بناء قراهم ومجمعاتهم التي دمرها هجوم تنظيم داعش، ولاحقاً العمليات العسكرية لتحرير المنطقة من التنظيم الإرهابي.
وعلاوة على الجانب العسكري والاستخباراتي في استهدف البنية الإدارية والعسكرية لشنكال، فإن الدولة التركية نشطة سياسياً وتحاول تجيير كل علاقاتها مع الحكومة المركزية في بغداد ومع الكتل والشخصيات السياسية للنيل من إدارة شنكال وجناحيها المدني والعسكري وإنهاء الوضع القائم لصالح صيغة قديمة تبقي الأهالي بدون تنظيم وقوة عسكرية قادرة على حمايتهم والدفاع عنهم. تريد تركيا إرجاع عقارب الساعة للوراء والعودة بشنكال إلى ما قبل فترة هجوم «داعش» في أغسطس/آب 2014، وتمكين الحكومة المحلية في نينوي والحزب الديمقراطي الكردستاني من الإمساك بكل المظاهر الإدارية والأمنية في شنكال.
وكانت كل من حكومة المركز في بغداد وحكومة إقليم كردستان قد وقعتا في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2020 ما سمي «اتفاقية بغداد»، والتي تهدف لتطبيع الأوضاع في قضاء شنكال والإشراف على الجوانب الإدارية والعسكرية عبر تشكيل لجنة مشتركة من ممثلين إداريين وعسكريين في كل من بغداد وأربيل، مع استبعاد كامل للإدارة الذاتية وقوات مقاومة شنكال.
كذلك، نجحت تركيا، خاصة بعد الزيارة التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لبغداد في أبريل/نيسان 2024، في دفع الجانب العراقي إلى اصدار المزيد من القرارات الجائرة بحق قضاء شنكال ومنها قطع الاتصال مع الإدارة الذاتية ومنظمات المجتمع الأهلي ورفض التعاون مع ممثلي القضاء فيما يخص تطوير المشاريع التنموية وبرامج إعادة إعمار المنطقة. كما أصدرت الحكومة العراقية في 6 أغسطس/آب 2024 قراراً بحظر كل من حزبي الحرية والديمقراطية الإيزيدي وجبهة النضال الإيزيدي بحجة ارتباطهما بحزب العمال الكردستاني.
وكانت وزارة الهجرة والمهجّرين العراقية أعلنت في 24 يناير/كانون الثاني 2024 يوم 30 يوليو/تموز 2024 موعداً نهائياً لعودة المهجرين الإيزيديين من مخيمات إقليم كردستان إلى مناطقهم الأصلية في شنكال. ولتشجيع العودة، كشفت الوزارة عن حزمة من المساعدات والحوافز للعائدين منها مبلغ يدفع مرة واحدة بقيمة 4 ملايين دينار عراقي (حوالي 3 آلاف دولار أميركي) لكل أسرة، فضلاً عن بعض الوظائف الحكومية ومزايا الضمان الاجتماعي وقروض للمؤسسات التجارية الصغرى بدون فوائد (انظر: شنكال: معوقات تطبيع الأوضاع وعودة المهجرين. المركز الكردي للدراسات 31 مايو/أيار 2024)، إلا أن عودة المهجرين لم تتم بالشكل الذي تم الترويج له.
الآن وبعد مرور ثلاثة أشهر على انقضاء «الموعد النهائي» لعودة المهجرين الإيزيديين، بقيت الأوضاع تقريباً على ماهي عليه، ومازالت أكثر من 24 ألف عائلة إيزيدية تعيش في 24 مخيماً للمهجرين (منها 15 في دهوك)، في حين ما تزال نحو 38 ألف عائلة إيزيدية تعيش خارج المخيمات في العديد من المدن والقرى في إقليم كردستان بعيداً عن مساكنها في شنكال. وبالإضافة إلى القصف التركي المستمر لشنكال، وهو السبب الرئيسي في رفض المهجرين الإيزيديين من العودة، فإن هناك أسباب أخرى وهي حالة اللاثقة بوعود الحكومة العراقية في منح المساعدات المالية وتنفيذ برنامج إعادة إعمار شنكال وتوفير مصادر الدخل وتأمين الأنظمة التعليمية والصحية والاجتماعية المطلوبة. كما يتخوف الأهالي من اندلاع صدامات بين المجموعات المسلحة التي تتوزع النفوذ في القضاء.
تقوم سياسة الدولة التركية تجاه قضاء شنكال ذو الغالبية الكردية الإيزيدية على تدمير الإدارة الذاتية والنيل من قوات مقاومة شنكال وجميع المظاهر المدنية والعسكرية التي يشرف عليها الإيزيديون وأبناء بقية المكونات في شنكال. تسعى أنقرة إلى تخريب صيغة اللامركزية وتسليم القضاء للحكومة المحلية في نينوى (التي يسيطر عليها القوميون العرب السنّة) وحليفها الحزب الديمقراطي الكردستاني. ولتحقيق هذا الهدف، تواصل تركيا قصف شنكال بشكل مستمر مستهدفة البنية التحتية والكوادر السياسية والعسكرية التي تشرف على أطر ومؤسسات الإدارة الذاتية. تأمل تركيا من هذا الاستهداف المستمر بواسطة الطائرات الحربية والمسيّرات وأعمال التخريب من اغتيال وتفخيخ وتفجير من إنهاء الإدارة الذاتية ومنع المهجرين الإيزيديين من مغادرة مخيمات إقليم كردستان والعودة إلى شنكال، بل ودفع الأهالي الموجودين إلى الرحيل والهجرة هرباً من قصف وقنص الدولة التركية لكل مظاهر الحياة هناك.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد