مافيا “عثمانيو جرمانيا” والرئيس أردوغان!
يورغ ديل و انسجار سيمينس *
كانت لحظة فاصلة ستٌسجل في تاريخ البحث الجنائي الألماني ذلك الحدث الذي حصل في يوم الأربعاء الأول من شهر حزيران/يونيو عام 2016 الساعة الحادية عشر مساء. فقد سجلت دائرة الشرطة التابعة لمنطقة جنوب شرق ولاية (هيسن) مكالمة لأحد الأشخاص الذين تراقبهم منذ مدة. كان أحد طرفي تلك المكالمة ذلك الشحص، أما الطرف الآخر فكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان!. الرجل الذي كانت السلطات الألمانية تراقبه هو برلماني عن كتلة حزب العدالة والتنمية، وما أن علم من وزير الخارجية التركية ان أردوغان على خط الهاتف، حتى صاح بكل احترام: “سيدي الرئيس مرحبا، كيف هي حال صحتك؟. وبدأ الحديث بين الرجلين، رجب طيب أردوغان الرئيس التركي ومتين كولتك البرلماني التركي. سأل أردوغان كولتك عن المظاهرات التي تعتزم الجالية التركية القيام بها ضد قرار البرلمان الألماني الاعتراف بالابادة الأرمنية. وكان كولتك هو المسؤول عن تنظيم المظاهرات. أطلع كولتك رئيسه في المكالمة على الأنشطة والمظاهرات المزمع القيام بها، وقال إنه ينتظر أوامر من أردوغان، فيما رد هذا الأخير بأنه سوف يتابع الموضوع ويتصل به، متمنيا له ليلة طيبة.
الشرطة الألمانية تعجبت من هذا الاتصال المفاجئ. وكتب المسؤول في خلية المراقبة ملاحظة تبيّن أهمية موضوع المظاهرات والاعتصامات التي تجعل من أردوغان يتصل شخصيا لمتابعة أمرها، ويوجه أنصاره بشكل مباشر للتحرك ضد قرار الاعتراف الألماني بالابادة الأرمنية. وكانت خلية المراقبة تتنصت على هاتف البرلماني التركي في إطار ملاحقة ومتابعة ما تسمى بمجموعة (عثمانيو جرمانيا)، وهي مجموعة مافيوية تركية يديرها المطلوب الجنائي محمد باكجي، وتشتغل في الاتجار بالسلاح والمخدرات، والتهريب والتهديد والقوادة، ولديها ارتباطات مشبوهة مع بعض الشخصيات التركية النافذة القريبة من أوساط الحكومة التركية. ومن خلال مراقبة الاتصالات الهاتفية، تبين مدى العلاقة القوية بين الشخصيات المهمة في هذه المجموعة المافيوية وبين أوساط في الحكومة التركية. بل أن أحد رجال المباحث الألمان كتب معلقا: “أن مجموعة (عثمانيو جرمانيا) هي في واقع الحال الذراع الضاربة للدولة التركية في ألمانيا”!.
استغرقت التحقيقات التي أجرتها الشرطة والنيابة العامة في تفاصيل وحيثيات عمل مجموعة (عثمانيو جرمانيا) عامين كاملين، إلى أن حلّ موعد نظر المحكمة المختصة في مدينة شتوتغارت في القضية قبل أسبوعين، حيث عقدت الجلسة الأولى لمحاكمة الشخصيات المهمة في المجموعة تلك. السلطات الألمانية المختصة تتحدث عن وجود 2000 شخص أعضاء في هذه المجموعة. النيابة العامة قدمت مذكرة الاتهام بحق بعض قيادات المجموعة بتهم شتى من بينها القتل وحجز الحرية، والاعتداء الجسدي، والاتجار بالجنس، والتهديد باستخدام السلاح، والاتجار بالمخدرات. تم محاكمة كل من محمد باكجي رئيس المجموعة ونائبه سلجوق شاهين بتهمة الشروع في القتل والتهديد بالسلاح. وقد انكر الشخصان الاتهامات الموجهة إليهما، وزعما بأن هناك “أسباب سياسية” تقف وراء قرار اعتقالهما وملاحقتهما بهذا الشكل. وقال محامي باكجي الألماني شتيفان شتريفلر بأن موكله يطالب السلطات الألمانية باطلاق سراحه، كما اطلقت السلطات التركية سراح الصحفي الألماني المعتقل لديها دنيز يوجل!.
التحقيقات التي أجرتها النيابة العامة الألمانية أظهرت بأن مجموعة (عثمانيو جرمانيا) استخدمت العنف المفرط ضد الخصوم والحلفاء على السواء. ففي عام 2016 بدأت عناصر من هذه المجموعة بمهاجمة المواطنين الكرد في مدينة لودفيغسهافن. ففي هذه المدينة هاجمت عناصر هذه المجموعة المواطن الكردي أولغون. أ واعتدت عليه بالضرب الشديد، ثم فرت بعد مجيء الشرطة وسيارات الاسعاف. كذلك اعتدت المجموعة بالضرب على عضوها السابق جلال. س الذي رفض المشاركة في الهجمات على المواطنين الكرد، وعمدت إلى خطفه واحتجازه وممارسة التعذيب الشديد بحقه. وقد استندت النيابة العامة على هذه المجريات في توجيه التهم للعصابة وقياداتها. كذلك من بين التهم: أنشطة هذه المجموعة في مساكن إيواء اللاجئين وتغلغلها في الجهاز الأمني المشرف على الحفاظ على الأمن، ومنع حدوث المواجهات بين اللاجئين. وكانت المجموعة تشرف على عمل 50 شخصا من الجهاز الأمني المكلف بالحماية في دور إيواء اللاجئين. وتشير المعلومات بأن المجموعة حصلت فقط في شهر شباط عام 2016 على 12500 يورو من الشركة المسؤولة عن توظيف جهاز الحماية، وكانت حصتها من 8 إلى 10 يورو على الساعة، في حين كانت الشركة المكلفة بتوفير الأمن تحصل من الدوائر الألمانية المختصة على 35 يورو على كل ساعة عمل.
تقول السلطات الألمانية بأن مجموعة (عثمانيو جرمانيا) قد ظلت مشرفة على قضايا الأمن في مساكن إيواء اللاجئين حتى شهر آذار عام 2017، حيث عمدت السلطات إلى إنهاء عملها بعد الاطلاع على الملفات المتعلقة بأنشطتها المافيوية. وتتشابك علاقات هذه المجموعة وتتعدى الجوانب الاقتصادية والصفقات المريبة، لتشمل أنشطة سياسية ينخرط فيها رجال السياسة والاعمال وممثلوا أجهزة الدولة السريين. فهذه المجموعة تعٌرف بوجود نزعة قومية تركية متشددة، وتضع من بين أهدافها التعرض للمعارضين للحكومة التركية، وتهديدهم والاعتداء عليهم. وحسب المعلومات المتوافرة لدى الشرطة الألمانية فإن مجموعة (عثمانيو جرمانيا) لديها علاقات وثيقة بشخصيات نافذة في الاتحاد التركي الديمقراطي الأوروبي (UETD)، وهو الاتحاد الذي يٌعتبر اللوبي التركي في أوروبا، حيث تعمل تحت إطاره الجمعيات والمنظمات التركية التابعة لحزب العدالة والتنمية الحاكم. ومن هنا تظهر علاقة مجموعة (عثمانيو جرمانيا) مع النائب متين كولتك، القيادي السابق في الاتحاد المشار إليه. لكن كولتك ينفي التهمة عن نفسه، ويزعم بأنه لم يعد له علاقة بهذا الاتحاد منذ زمن. لكن التحقيقات التي أجرتها الشرطة الألمانية تشير إلى عكس هذا الكلام، فأثناء تنظيم المظاهرات للتنديد بقرار البرلمان الألماني الاعتراف بالمذابح العثمانية ضد الأرمن، طلب الاتحاد التركي الديمقراطي الأوروبي من محمد باكجي رئيس مجموعة ( عثمانيو جرمانيا) بإدخال عناصر من مجموعته إلى المظاهرات باللبس المدني. باكجي وعد بإرسال 500 رجل، لكنه أرسل فقط 50 من أنصاره للإشراف على المظاهرات. وبحسب المكالمات بين باكجي وشخصيات في الاتحاد التركي المشار إليه، فقد قبض باكجي وجماعته مبالغ محددة لقاء كل مشاركة في المظاهرات. وقد تم إرسال تلك المبالغ مباشرة من تركيا. النائب كولتك ينفي الموضوع أساسا، ويتحدث عن وجود “حملة ضد تركيا والرئيس أردوغان” تقف وراء تمرير مثل هذه الأخبار.
في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2016 التقى في أنقرة وفد من المجموعة مع شخصيات قيادية في الحكومة التركية. المجموعة عمدت إلى نشر تفاصيل وحيثيات اللقاء في صفحتها على الانترنت، مظهرة شعورها بالفخر والاعتزاز، ومشيرة بأن ” الحكومة عبرت لها عن دعمها للمواطنين الأتراك المقيمين في الخارج في مساعيهم الرامية للتصدي للمنظمات الإرهابية”. والمقصود ب “المنظمات الإرهابية” هنا: حزب العمال الكردستاني المحظور في ألمانيا. في حديث هاتفي لباكجي مع صحفي تركي، رصدت الشرطة الالمانية سؤال الصحفي حول إمكانية دعم الاستخبارات التركية (MIT) لباكجي وأنشطته، فيما أجاب هذا الأخير ضاحكا: علينا ألا نتحدث هكذا علانية عن مثل هذه المسائل. وبعد إلحاح من الصحفي، قال باكجي: “نعم، لدينا علاقات مع الاستخبارات التركية. هم يدعموننا. علاقاتنا جيدة جدا”.
إحدى المحققات في دائرة التحقيق في ولاية (هيسن) الألمانية رصدت التغيير الحاصل في بنية هذه العصابة، مشيرة بأن ثمة “تسيسا” لعمل وانشطة العصابة، وهناك تأثير كبير للاتحاد التركي الأوروبي ولحزب العدالة والتنمية الحاكم، حيث يٌراد توظيف العصابة في مهام داخلية منها التجسس والملاحقة. النيابة العامة في مدينة (دارمشتاد) مازالت تحقق في الموضوع مع البرلماني كولتك ومع عضو في الاستخبارات التركية.
المعلومات التي خلصت إليها التحقيقات تشير بأن النائب متين كولتك، ومن وراءه قيادات حزب العدالة والتنمية، وضعت نصب عينيها الاستفادة من هذه العصابة وتشغيلها في تنفيذ أجندة محددة سياسية الصبغة ضمن صفوف الجاليات التركية في الداخل الألماني. والهدف الرئيسي الموكل لهذه العصابة هو الانخراط في المظاهرات الكردية ومحاولة تخريبها وتشتيتها والاعتداء على المشاركين فيها. لكن محمد باكجي ونائبه سلجوق شاهين ينفيان صلتيهما بالحكومة التركية ومنظماتها في الخارج، ويقولان بأنهما، وفي كل الاعتداءات التي نفذوها ضد الكرد، انما كانا ينطلقان من نقطة حب السيطرة وابراز القوة ليس إلا. بينما ينفي الاتحاد التركي الأوروبي أي علاقة له بهذه المجموعة.
كذلك تتوافر معلومات لدى الشرطة الألمانية حول توكيل مهمة من قبل شخص ينتمي لجهة رسمية تركية لمحمد باكجي بالاعتداء على الاعلامي الألماني المشهور جان بوهمرمان، والذي كان قد تلى في 31 آذار/مارس 2016 في برنامج تلفزيوني قصيدة تهكمية عن أردوغان. وسجلت الشرطة الألمانية اتصالا من هذا الشخص يسأل باكجي حول موعد تنفيذ الاعتداء على الاعلامي الألماني، ولماذا تأخرت العملية؟!. فيرد باكجي بأن مجموعته مازالت تستطلع الأمر، حيث أن بوهمرمان يعيش في كولونيا، وهو قد كلف أحد معارفه من الذين يعملون مع “العم”، والمقصود هنا جهاز الشرطة الألمانية، وسوف يحصل منه على عنوان الاعلامي الألماني قريبا. لكن جان بوهمرمان حصل فورا على حماية من الشرطة الألمانية وظل سليما وفي منأى من الاعتداء…
مجلة (دير شبيجل) الألمانية. الترجمة: المركز الكردي للدراسات.