أردوغان ونتانياهو: العثمانية الجديدة أم الشرق الأوسط الجديد؟

طارق حمو

يحاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على جري عادته في اقتناص الفرص وتجيير المستجدات لحسابه وتحويلها لمكاسب سياسية توطد سلطته، الاستفادة من الحرب المشتعلة في كل من غزة وجنوب لبنان وتصويرها بأنها خطر وجودي على تركيا، وبالتالي التعتيم على المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الهائلة التي يعاني منها مواطنوه التي سببها أردوغان وحزبه، وعاقبهما الناخبين على ذلك في الانتخابات المحلية التي جرت نهاية مارس/آذار 2024 وحقق فيها حزب الشعب الجمهوري المعارض 37,7%، بينما لم ينل حزب العدالة والتنمية سوى 35,5%.

يرى أردوغان بأن الحرب في كل من غزة ضد حركة حماس وفي لبنان ضد حزب الله يمكن أن تكون المناسبة الأفضل والفرصة الثمينة لإيقاف تدهور شعبية حزبه والحيلولة دون تحقيق منافسه حزب الشعب الجمهوري، الذي يسيطر على أهم البلديات في البلاد، المزيد من التقدم والشعبية. ومن هنا، يحاول أردوغان إعادة ترتيب الأولويات عبر الإشارة إلى «احتلال إسرائيلي قد يحدث لتركيا»، مستنداً على التصريحات التي أطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو حول «إعادة ترتيب الشرق الأوسط». يظن أردوغان في هذا المتغير الكبير، والمتمثل في الحرب في كل من غزة وجنوب لبنان والمواجهة مع إيران وميليشياتها في كل من اليمن والعراق وسوريا والتلويح بالهجوم على النظام السوري، طوق نجاة له للتخلص من التدهور والتراجع في الداخل التركي وكبح جماح خصمه حزب الشعب الجمهوري الذي يطالب بانتخابات رئاسية مبكرة عام 2025 بدل الموعد المحدد عام 2028، ويكون أردوغان فيها خارج دائرة المنافسة. وبالتالي، منح نظامه فرصة لترتيب أوراقه ورسم خارطة التحالفات، وربما تغيير بعض القوانين، مستفيداً من الحرب الإقليمية المستعرة، كما يريد أن يصور ويمرر ما يحدث على الجمهور السياسي والعام في تركيا.

فتح أردوغان خطاً ساخناً مع المعارضة، وبات يتحرك وكأن الزحف الإسرائيلي على الأناضول بدأ فعلاً (أشار في كلمته أمام البرلمان مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول الجاري بأن منطقة يايلاداغي على الحدود التركية ـ السورية تبعد عن الحدود اللبنانية بنحو 170 كيلومتراً فقط). وبذلك، على الأحزاب السياسية في تركيا أن تنسى خلافاتها، وعلى المواطنين أن يتناسوا ـ أو يتساموا على ـ واقعهم المعيشي والاقتصادي المزري أو أن يشدوا الحزام ويتراصوا خلف قيادة أردوغان لإنقاذ تركيا من مخطط التغيير الإستراتيجي الإسرائيلي. وكان أردوغان بدأ قبل أشهر بتصعيد خطابه ضد الحكومة الإسرائيلية، التي لا يزال يتمتع معها بعلاقات اقتصادية أكثر من ممتازة، فقارن بين مقاومة حركة حماس للتوغل العسكري الإسرائيلي في غزة بمقاومة القوات التركية «قواي مللي» للجيوش الأوروبية في ما سميت بـ«حرب الاستقلال» عام 1919، مشيراً إلى أن حركة حماس «تدافع عن الأناضول»، بينما زايد عليه شريكه في الحكم دولت بهجلي، رئيس الحركة القومية المتطرفة، عندما قال إن «القضية اليوم ليست بيروت بل أنقرة، والهدف النهائي هو الأناضول»، مطالباً بـ«استخدام القوة لوقف إسرائيل».

والحال، أن الحكومة التركية، فضلاً عن الحسابات الداخلية وتجييرها لكل ما يحدث لمصلحة بقائها في السلطة واحتواء تصاعد قوّة المعارضة، تفاجأت بقوة الرد الإسرائيلي وسوية الحرب على كل من حركة حماس وحزب الله، والتي اتضح أنها تمشي وفق خطة محكمة تهدف للقضاء على الحركتين وتجفيف حاضنتيهما، مع حضور وإحلال إسرائيلي واضح ودائم في كل من غزة وجنوب لبنان يضمن غياباً دائماً للتنظيمين. وإقليمياً، لاحظت تركيا ضعف الجانب الإيراني وعدم قدرته على إنقاذ حلفائه في غزة ولبنان، واكتفاء طهران بالرد غير الموجع والمؤثر على إسرائيل واتصالاتها، التي تشبه الاستجداءات، لتطويق واحتواء المواجهة والوصول لحلول دبلوماسية وتفاهمات مع تل أبيب وواشنطن. تتخوف أنقرة من هذا الانتشاء الإسرائيلي في أن يتحول إلى استراتيجية توغل وترتيب تتعدى قطاع غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان لتشمل أجزاء أخرى من المنطقة، خاصة سوريا، حيث الحضور العسكري والإداري الكبير لإيران وميليشياتها. تقول تركيا علانية إن هناك نوايا إسرائيلية لاحتلال دمشق ومواجهة النفوذ الإيراني وإخراجه من كل المساحة السورية. وتتحدث أوساط حكومية، وأخرى بحثية وإعلامية تركية، عن أن إخراج إيران من سوريا سيكون فرصة أمام مشروع الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا (المدعوم على الأرض من قوات التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش) لكي ينتعش ويتطور، ويشمل بالتالي «مناطق الفراغ» التي ستتشكل بعد إخراج الميليشيات الإيرانية منها. وقالها أردوغان علانية في تصريح للصحافيين خلال عودته من زيارة ألبانيا وصربيا: «إسرائيل ستأتي إلى الشمال السوري لحظة احتلالها دمشق، وهذا يعني وصول الجنود الإسرائيليين إلى حدود تركيا، وهو ما سيؤدي إلى تمزيق خريطة سوريا بالكامل»، مفترضاً، في تحريض واضح، دعماً عسكرياً إسرائيلياً لما أسماه «الأنشطة الانفصالية».

تسارع تركيا الخطى لكي تمنع أي تطور في المشهد السوري قد يربك خططها في التدخل والاحتلال والتغيير الديمغرافي وتمكين الفصائل الموالية لها. وكل ذلك، بغية إضعاف إقليم شمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية. ومن ذلك، إرسال أنقرة لقائد القوات البرية في الجيش التركي الجنرال سلجوق بيرقدار أوغلو، برفقة قادة كبار في تشكيلات الجيش، إلى عفرين المحتلة للاطلاع على التطورات عن كثب «في ضوء الاعتداءات الإسرائيلية المتزايدة على لبنان وسوريا»، بحسب ناطق باسم الجيش التركي. وبعد التطورات الأخيرة في المنطقة والاقتدار العسكري الإسرائيلي الذي أضعف إيران وحلفائها والحديث في تل أبيب عن «تغيير وترتيب المنطقة من جديد»، بدت أنقرة تحس وكأن البساط يُسحب من تحتها. فهي لم تعد في قلب المشهد كقوة إقليمية لها اليد الطولى في التغييرات والترتيبات في المنطقة. لقد ظهرت قوة كبيرة بدت تحقق نتائج على الأرض وتغير المعادلات وتتحدث عن خرائط جديدة، فيما غابت أنقرة ولم يعد أحد يتحدث عن مشروع «العثمانية الجديدة» بعد حديث نتانياهو عن «الشرق الأوسط الجديد» المقترن بانتصارات ومكاسب عسكرية على الأرض. قوة لديها ترسانة نووية ويد طولى في الجانب التقني العسكري الأحدث عالمياً والاختراق الاستخباراتي الواضح. ظهر أن هناك من هو أقوى من تركيا في المنطقة، ولديه خرائطه، في حين بات العالم يتحدث عن مشاريعه هو وليس مشاريع تركيا أروغان.

تشعر تركيا بالغيرة والخوف معاً. فهناك قوة في الشرق الأوسط تحارب الآن على سبع جبهات. تمهد لعملياتها باختراقات تقنية واستخباراتية وتضرب من الأرض والجو. تقصف إيران في عقر دارها وتهدد بدخول بيروت ودمشق. هذا الواقع جعل من تركيا لاعباً هامشياً. وهنا، لا ينسى أردوغان الاستنجاد بروسيا وإيران مرة أخرى بل ويطالبهم بالتحرك لمنع أي تغيير في خارطة القوة في سوريا، مع مواصلة منحه حق الاحتلال والقصف والتخريب في مناطق الإدارة الذاتية.

وفي خضم هذه الأحداث، ولكي توحي بأنها تذهب في اتجاه «ترتيب البيت الداخلي»، وبالتالي لديها رغبة في السلام والمصالحة، عمدت الحكومة التركية إلى فتح «الملف الكردي» مرة أخرى. ومن هنا، جاءت حادثة مصافحة دولت بهجلي للبرلمانيين في كتلة حزب المساواة والديمقراطية للشعوب وحديثه عن «السلام الداخلي والعلاقة التاريخية التي تمتد لألف عام». وبغض النظر عن اختصار قضية كبيرة بحجم القضية الكردية في مصافحة وبضع كلمات، ورغم ذكر بعض المصادر حدوث اتصالات بين الحكومة التركية والقائد الكردي عبد الله أوجلان (المحتجز في سجن جزيرة إيمرالي منذ عام 1999، والذي تمنع الحكومة التركية محاميه وذويه من لقاءه منذ حوالي 40 شهراً)، بهدف العودة للحوار ولطاولة المفاوضات، إلا أنّ هناك حقيقة ما تزال ثابتة، وهي استمرار الجيش التركي في عملياته العسكرية ضد قوات حزب العمال الكردستاني في إقليم كردستان الجنوبية (كردستان العراق) والقصف اليومي عبر المسيرات والمدفعية لقوات سوريا الديمقراطية وأهداف مدنية وعسكرية في شمال وشرق سوريا، عدا عن استمرار التضييق على كوادر حزب المساواة والديمقراطية للشعوب في داخل ولايات كردستان الشمالية وتركيا نفسها.

تحدث المسؤول الكبير في حزب العمال الكردستاني مراد قره يلان عن مثل هذه الأخبار، داعياً إلى عدم أخذها على محمل الجد، ومشيراً إلى أن تحركات الحكومة التركية تأتي بغية صرف الأنظار عن الأوضاع المزرية في داخل تركيا وإلهاء المواطنين بمواضيع أخرى، بخلاف المسائل الحيوية مثل الأوضاع الاقتصادية المتردية وتراجع مستوى معيشة المواطن وتزايد الإنفاق العسكري بسبب الحرب على الشعب الكردي وحركته، بالإضافة إلى الأزمات الاجتماعية والسياسية الأخرى الخانقة. ولفت قره يلان إلى استمرار الدولة التركية في شن العمليات العسكرية على الحركة الكردية داخل وخارج تركيا ومواصلة عزل القائد أوجلان والتنكيل بالسياسيين الكرد والتضييق على حزب المساواة والديمقراطية للشعوب وعلى كل مظاهر الثقافة والهوية الكردية في تركيا. وقال قره يلان إن تحالف حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية منذ أكثر من عشرة أعوام أسس جيشاً قوامه 100 ألف مقاتل مرتزق ممول بشكل جيد لمحاربة حزب العمال الكردستاني، فضلاً عن الجيش النظامي وأنشطة الاستخبارات والتجسس التي تكلف خزينة الدولة مليارات الدولارات. وأوضح قره يلان أنه في الأشهر التسعة الماضية، شن الجيش التركي ما مجموعه 3318 هجوماً جوياً باستخدام الطائرات الحربية والحوامات وأكثر من 71 ألف عملية قصف بالدبابات والمدافع والهاون طالت كلها مناطق جبلية في إقليم كردستان، في إطار العمليات العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني. وتابع قره يلان أن انفاق الحكومة التركية على العمليات العسكرية التي تستهدف الشعب الكردي يكلف الدولة عشرات مليارات الدولارات، وهو السبب في تراجع الاقتصاد وتردي مستوى معيشة المواطن والإهمال الواضح في الخدمات المقدمة له، مشيراً إلى أن وزير المالية محمد شيمشك يعي هذه الحقيقة ولكنه لا يجرؤ على ذكرها لأردوغان وبهجلي.

الواضح أن لا نوايا ولا خطة لدى الحكومة التركية في إطلاق حوار حقيقي وجاد مع أوجلان وحزب العمال الكردستاني. وما التطورات الأخيرة بشأن تصريح بهجلي هنا والاتصال مع أوجلان هناك سوى إجراءات مدروسة ضمن «خطة الطوارئ» التركية التي جاءت على عجل على خلفية الأحداث الأخيرة في المنطقة. يريد أردوغان وبهجلي مواصلة الحكم وإلهاء المعارضة وصرف أنظار المواطنين عن واقع حياتهم إلى ما يسمونه «التهديد الوجودي» الذي قد يطال تركيا إذا ما تقدمت إسرائيل نحو بيروت ودمشق وأضعفت إيران وأذرعها. إنها قضية جديدة يحاول أردوغان وشريكه التسويق لها وتصديرها لتجميد التقدم السياسي للمعارضة وتشتيت الانتباه عن واقع التردي الاقتصادي والتلويح مجدداً بـ«الخطر الكردي»، الذي سيتعزز في المخيال التركي هذه المرة، جراء تقليم أظافر ميليشيات طهران، وتقدم آلة الحرب الإسرائيلية!.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد