المكابرة “الليبرالية – اليسارية” تمنح المزيد من الفرص لأحزاب اليمين الأوروبي
المركز الكردي للدراسات
تصدرت الأحزاب اليمينية بقوة في عدد من البلدان الأوروبية، وأصبح لها حضور في مجالس الولايات والبرلمانات الوطنية وفي البرلمان الأوروبي، حيث اتحدت ضمن كتلة برلمانية واحدة. وأصبح لأحزاب اليمين التي يتشابه خطابها والمواضيع التي تهتم بها وتجعلها في مركز حملاتها الانتخابية، موقعاً متصدراً في العديد من الدول الأوروبية المؤثرة. ففي فرنسا، حقق الحزب الوطني نتائج كبيرة، وكذلك الحال مع حزب الحرية في هولندا وحزب إخوة إيطاليا وحزب البديل في ألمانيا، ومؤخراً حزب الحرية في النمسا، والذي حصل على 29.2% في الانتخابات الأخيرة، وهو يخوض الآن في إمكانية إقامة تحالفات لتشكيل الحكومة الائتلافية والبدء بتطبيق برنامجه الانتخابي ووعوده التي قطعها على ناخبيه.
وتعود أسباب انتخاب أحزاب اليمين إلى التغيرات الكبيرة في أوروبا، جراء زيادة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية وتراجع مستوى معيشة المواطنين من أبناء الطبقة الوسطى، بالإضافة إلى زيادة أعداد المهاجرين والمشاكل التي نتجت عن إيواء وادماج هؤلاء في المجتمعات الأوروبية وأزمة الهوية الوطنية والمخاوف من إهمال الهويات والثقافات المحلية لصالح الأقليات المهاجرة. هذا عدا عن الأزمة الاقتصادية الناتجة عن وباء كورونا والانتقادات الموجهة للحكومات في التعامل معها، وكذلك الحرب في أوكرانيا، حيث فشلت الحكومات الأوروبية في إيجاد حل دبلوماسي لها، كما قدمت مليارات الدولارات لكييف لشراء الأسلحة، ناهيك عن التوتر مع روسيا وتوسيع حلف الناتو بضم كل من السويد وفنلندا وإعادة بناء وتأهيل الجيوش وزيادة الانفاق العسكري.
حزب الحرية في النمسا
حقق حزب الحرية نسبة 29.2% في الانتخابات التي جرت في 29 سبتمبر/أيلول الماضي، قافزاً 13 نقطة مقارنة بالانتخابات التي جرت عام 2019. ورفع الحزب شعارات تماثل الشعارات التي رفعتها الأحزاب اليمينية الأخرى في البلدان الأوروبية، مثل مكافحة الهجرة غير الشرعية والترحيل الجماعي للمهاجرين غير الشرعيين وبناء مراكز لإيواء اللاجئين خارج القارة الأوروبية والدفاع عن الهوية الوطنية النمساوية وثقافة الشعب النمساوي في وجه «الثقافات والقناعات الدخيلة». كما يعارض الحزب العقوبات الأوروبية على روسيا، ويؤيد فتح خطوط استيراد الطاقة من موسكو، ويطالب بالتوقف عن تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا والبحث عن حلول سياسية للحرب بين روسيا وأوكرانيا.
وينظر رئيس الحزب هربرت كيكل إلى كل من النموذجين المجري والسلوفاكي في التعامل مع المهاجرين غير الشرعيين ومع الحرب في أوكرانيا، من زاوية رفض إيواء اللاجئين وتقديم المساعدة لهم والكف عن تمويل كييف بالأسلحة والأموال لمواصلة مقاومة الهجوم الروسي. ويتعهد كيكل ببناء تحالف بين كل من النمسا والمجر وسلوفاكيا فيما يخص منع المهاجرين من دخول الاتحاد الأوروبي، وعرقلة كل القرارات الأوروبية في مواصلة تقديم الدعم العسكري والمالي للحكومة الأوكرانية، وزيادة الضغوط باتجاه البحث عن حل سياسي، واستئناف استيراد الغاز الروسي الرخيص لحل أزمة الطاقة في النمسا وأوروبا وإنقاذ قطاع كبير من الصناعات.
ويبحث حزب الحرية احتمالات تشكيل حكومة ائتلافية مع حزب الشعب المحافظ الذي حاز على نسبة 26.3% (متراجعاً 11.2% عن انتخابات 2019). لكن كارل نهامر رئيس هذا الأخير يرفض التحالف مع حزب الحرية طالما كان كيكل رئيساً له ومرشحه لمنصب المستشار. ويتمسك حزب الحرية بشخص رئيسه كيكل ويرفض التخلي عن رمزيته للحزب مخافة أن تتراجع شعبية الحزب، مستشهداً بحادثة تخلي الرئيس التاريخي لحزب الحرية يورغ هايدر عن منصب المستشار بعد انتخابات عام 1999 التي فاز فيها حزب الحرية، وهو ما أدى إلى تراجع شعبية الحزب وانفضاض نسبة كبيرة من جمهوره وناخبيه عنه.
وتتركز التحليلات بشأن أسباب تقدم حزب الحرية بـ13% عن انتخابات عام 2019 وتراجع حزب الشعب المحافظ الحاكم بـ11.2% نقطة على تنكر حزب الشعب المحافظ للوعود التي قطعها على الناخبين بتحسين الأوضاع الاقتصادية ومنع المهاجرين غير الشرعيين من دخول البلاد والتمسك بخطابه المحافظ وعدم التنازل للأحزاب الاشتراكية التي دخل معها في ائتلاف حكومي. بينما واصل حزب الحرية اليميني التمسك ببرنامجه مستعيناً بوسائل التواصل الاجتماعي، عبر الإشارة الدائمة إلى الأوضاع الاقتصادية المتردية وتراجع مستوى معيشة المواطن النمساوي، في حين تغدق الحكومة على المهاجرين، كما يقول. كذلك، ركزّ الحزب على الهوية الثقافية للشعب النمساوي وضرورة الحفاظ عليها والتمسك بالتقاليد والأعياد والمهرجانات الوطنية ورفض المجتمع المتعدد والتنوع الذي تسوق له أحزاب الاشتراكيين والخضر واليسار، بوصفه «مشروعاً خطراً يهدف لتمكين ثقافات وافدة واحلالها مكان الثقافة والهوية الوطنية النمساوية». كما لعبت الحرب في أوكرانيا دوراً كبيراً في تراجع الحزب الحاكم، مقابل تصدر حزب الحرية، الذي استمر في رفض تقديم السلاح والأموال للحكومة الأوكرانية، والمطالبة بحل سياسي للأزمة واستئناف العلاقات مع روسيا، والحصول على الطاقة الرخيصة من موسكو.
حزب البديل في ألمانيا
أسفرت الانتخابات المحلية في ولاية براندبورغ الألمانية، والتي جرت في 22 سبتمبر/أيلول الماضي عن النتائج التالية:
حزب البديل: 29.2%
الحزب الاشتراكي الديمقراطي 30.9%
تحالف سارا فاغنكنيشت 13.5%
الإتحاد المسيحي الديمقراطي 12.1%
حزب اليسار 3%
حزب الخضر 4.1%
وبهذه النتيجة، استكمل حزب البديل اليميني الاستحواذ على الأغلبية في ولايات شرق ألمانيا الخمس. وكان حزب البديل حصل على النتائج التالية في الانتخابات المحلية التي جرت في 9 يونيو/حزيران الماضي: في ولاية مكلنبورغ ـ فوربومن 25.6%، وفي ولاية ساكسونياـ أنهالك 28.1%. وفي الانتخابات التي جرت في 1 سبتمبر/أيلول الماضي في ولاية ساكسن حصل على 30.6%، وفي ولاية تورينغن على 32.8%. والآن، يستعد حزب البديل للانتخابات العامة للبرلمان الألماني التي ستجري في نهاية سبتمبر/أيلول 2025، حيث يستمر في الاعتماد على مواقع التوصل الاجتماعي في بث خطابه التقليدي المطالب بعدم استقبال المهاجرين غير الشرعيين وترحيل اللاجئين الذين رفضت طلبات لجوئهم والحفاظ على الهوية الألمانية والتحرر من القيود الأوروبية، أو ما يسميه بـ«ديكتاتورية بروكسل»، فضلاً عن رفع العقوبات المفروضة على روسيا والتوقف عن تصدير السلاح لأوكرانيا، وغير ذلك من مطالب استفاد منها الحزب اليميني في حصد أصوات الناخبين وخصوصاً الشباب منهم (انظر: حزب البديل وتغيير قواعد الديمقراطية في شرق ألمانيا. المركز الكردي للدراسات 20 سبتمبر/أيلول 2024).
ورغم النتائج الجيدة التي حصل عليها حزب البديل في ولايات شرق ألمانيا الخمس، إلاّ أن تكاتف الأحزاب التقليدية ضده سيحرمه من المشاركة في الحكومة المحلية وتولي منصب حاكم الولاية. ويحاول الحزب أن يجعل من هذه السياسة المعادية له نقطة في صالحه وتقديم نفسه «ضحية» عبر الإشارة إلى «معاداة الأحزاب التقليدية» للديمقراطية واستهتارها بإرادة الناخبين الذين اختاروا التصويت له، فضلاً عن تخلي الأحزاب التقليدية عن برامجها ووعودها لناخبيها ولجوئها إلى التحالف معاً، رغم الاختلافات العميقة بينها، رغبة منها في منع حزب البديل من التمدد والحكم، ورغبة أيضاً في الحفاظ على السلطة حتى لو كان ذلك يعني خداع ناخبيها الذين صوتوا لها بسبب وعودها في التغيير وإنهاء التحالف مع خصومها السياسيين (خاصة الاتحاد المسيحي الديمقراطي). وتعج وسائل التواصل الاجتماعي بالتعليقات التي يكتبها ناخبوا الأحزاب التقليدية من الذين ينتقدون سياسة «التحالف بأي ثمن» فقط لمنع حزب البديل من الحكم والإدارة، ويتهمون أحزابهم بالتخلي عن برامجها ووعودها مقابل البقاء في السلطة والتمتع بالمزايا والمناصب على حساب مصالح الناس.
ورغم بدء بعض الأحزاب التقليدية التي خسرت معظم مقاعدها في شرق ألمانيا بمراجعة سياساتها، وعلى رأس هذه الأحزاب حزب الخضر الذي استقال قيادته ولجنته التنفيذية (وكذلك لجنة شباب الحزب التي استقالت وخرجت من الحزب)، إلا أن الأحزاب التقليدية تواصل التمسك بسياساتها المعتادة في التعامل مع الملفات المهمة، والتي يعتبرها الشارع حيوية ومصيرية، مثل تزايد أعداد المهاجرين، وعمليات الإرهاب والطعن وتدني مستوى المعيشة وتداعيات الحرب في أوكرانيا. ويتهم السياسيين والإعلام الرسمي بالتعتيم عليها لصالح مواضيع أخرى هامشية مثل التغيير المناخي والجندرية والمجتمع المتعدد. ويعتبر جمهور حزب البديل، وقسم كبير من جمهور الأحزاب المحافظة، أن تركيز السياسة والإعلام على المواضيع الهامشية والارتهان لإرادة الاشتراكيين والخضر واليسار هو السبب في تردي الأوضاع الاقتصادية وتزايد أعداد المهاجرين وتصدر حزب البديل اليميني. ويرفض هؤلاء التبريرات التي تقدمها الأحزاب التقليدية وتهربها من المسؤولية، مشيرين إلى أن ناخبي حزب البديل الجدد ما هم سوى جزء من الكتلة الساخطة الغاضبة التي كانت سابقاً تصوت للأحزاب التقليدية وقررت تركها والتصويت لخصمها رغبة منها في معاقبتها على نكثها الدائم لوعودها بمعالجة الملفات المهمة العاجلة.
اتهم المستشار أولاف شولتس في حديث بمناسبة عيد الوحدة الألمانية الذي صادف 3 أكتوبر/تشرين الأول الحالي الناخبين في شرق ألمانيا بتنامي الشعور اليميني غبر المبرر لديهم واللامسؤولية جراء انتخابهم حزب البديل. وهذا التحليل السطحي للواقع المعاش سيجلب المزيد من الحنق والغضب ويساهم في كسب هذا الحزب المزيد من الأصوات وخسارة حزب المستشار، الاشتراكي الديمقراطي، المزيد من الأصوات. وفي حين بدأ 37 نائباً في البرلمان الألماني من مختلف الأحزاب بتقديم طلب مشترك للمحكمة الدستورية الاتحادية لحظر حزب البديل، تشير أوساط إلى استخدام التحالف الحاكم (لا تتجاوز شعبية أحزابه الثلاثة الآن أكثر من 27%) لمؤسسات الدولة، مثل دائرة حماية الدستور وهي الاستخبارات الداخلية، لمراقبة حزب البديل وجمع أدلة حوله بغية اصدار قراره حظره. ويستمر حزب البديل في الإشارة إلى كل هذه التطورات ووضعها في إطار «مؤامرة الأحزاب التقليدية» ضده واستخدام كل إمكانات الدولة في محاربته، مع الإبقاء على السياسة الحالية التي تسببت في تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلاد.
ويبقى الرأي الذي يقول بأن التصدي لحزب البديل يبدأ بمعالجة الملفات التي يستند لها في خطابه الانتخابي التحشيدي، بخفض أعداد اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين القادمين إلى ألمانيا، وإبعاد ما يقارب من 300 ألف لاجئ رفضت طلبات لجوئهم، وممارسة سياسة مرنة مع روسيا، ورفض التصعيد معها، وحماية الثقافة والهوية الوطنية، ومحاربة التطرف الإسلامي وتمظهراته وإدراجهما تحت بند «التهديدات» وليس «التنوع»، والكف عن اعتبار منظمات الإسلام السياسي «شركاء للدولة في عملية إدماج المسلمين»، ومنح مساحة أكبر في الإعلام للمواضيع التي تهم الناس العاديين الذين يخوضون فيها على مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت المتنفس الوحيد لهم، في ظل تحكم الأحزاب التقليدية بالإعلام الرسمي وممارستها نوعاً من التعتميم على قضايا معينة مثل «جرائم المتطرفين»، واتهامها كل من يتحدث عن «الثقافة والهوية الوطنية» بالانتماء إلى اليمين المتطرف!