هل أسعفت براغماتية “الساعة 23” دمشق؟ 

شورش درويش

لم تشهد شوارع دمشق واللاذقية وحمص يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول أي مظاهر احتفال كالتي شهدتها شوارع بغداد وطهران وصنعاء والضاحية الجنوبية ببيروت. يومذاك، شاب الحذر العميق سلوك النظام السوري وإعلامه الرسميّ، وبدا أن دمشق قدّرت الأكلاف الباهظة لمغامرة يحيى السنوار وجماعته، ما دفعها إلى انتهاج براغماتية «الساعة الأخيرة» قبل حلول منتصف ليل الانتقام الإسرائيلي الطويل، رغم أنها تركت مهمّة الإسناد لحليفها الإيراني وأذرعه داخل سوريا دون أن تنخرط بنفسها في هذا الجهد العسكري الشاق.

لم تشاطر دمشق، التي لم تبتهج يوم 7 أكتوبر، عواصم محور المقاومة المنتحِبة على اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله يوم 27 سبتمبر/أيلول الحزن والعزاء، واكتفت ببرقية تعزية تكثّفت فيها عبارات الإنشاء الجنائزية كما تجنّبت فيها الإشارة إلى قتلة الأمين العام. ولعل إصرار دمشق على البقاء في مدار “الساعة 23” حتى بعد اغتيال نصر الله عنى أنها ستسعى لصيغة نأي صعبة عن مدار الحرب الإسرائيلية المفتوحة التي بدأت تطاول دمشق على نحو غير مسبوق.

بدا واضحاً أن النظام السوريّ لم يكن مقتنعاً منذ أكتوبر/تشرين الأول الفائت بجدوى وفاعلية شعار «وحدة الساحات» وبالرطانة الخطابية المصاحبة له، حتى وإن كانت الساحة متروكة في الجولان ودير الزور لإيران فعلياً مع مشاركة قليلة الأثر لقوات الجيش أو المليشيات العشائرية، كما في حالة الإغارات الفاشلة والهجمات الصاروخية على قواعد التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية بدير الزور.

يعرف النظام بخبرته الطويلة معاني الانخراط في حرب موسّعة تسعى إليها حكومة بنيامين نتانياهو بكل ثقلها وتلقى دعم واشنطن غير المقيّد، وكيف يمكن لحرب كهذه أن تبدّد ما تحقّق مع برود جبهات القتال الداخلية والانفتاح العربي/الخليجي على دمشق. لذلك، تصبح حرب «الإسناد» جزءاً من عملية ردّ الدين عنوة للجمهورية الإسلامية وحزب الله، وظلّاً ثقيلاً يتهدد حياة ضباط الارتباط السوريين ربما غير المقتنعين بفتح جبهة إشغال فرعية وقليلة الأثر مهمّتها الأساسية إبعاد الحرب عن إيران جهد المستطاع. فوق أن دمشق بدأت تتوق إلى زمن سادت فيه صيغة عدم تدخل كل من إيران وسوريا في شؤون بعضهما الداخلية وفق «التعاقد الشفهي» بين حافظ الأسد وروح الله الخميني الذي كان مداره التصدي لطموحات صدام حسين ووعيده بإسقاط الحكم البعثي في دمشق بعد أسبوع من إسقاط النظام الإيراني الجديد.

في الأصل، كانت سياسة الأسد الأب تميل على الدوام إلى تأييد ودعم حركة أمل ونبيه برّي حين لم يكن لإيران أي دور يذكر في الملف اللبناني سوى أن عام 1982 أدخل لاعباً جديداً إلى قلب المعادلة السياسية اللبنانية، حيث برز حزب الله خصماً لحركة أمل ودخل في دورة عنف في مواجهة الحركة. وقتذاك، أبدى الأسد تعاطفه مع الحزب الوليد وأعطى «التوجيهات لقيادة الجيش والأجهزة الأمنية في مساعدته، وبنى موقفه على أن الحزب أصبح قوة المقاومة الرئيسية بعد تراجع حركة أمل والأحزاب الوطنية» وفق ما ذكره عبدالحليم خدام في كتابه «التحالف السوري الإيراني والمنطقة». غير أن العلاقة الناشئة تلك لم تحظَ بميل الضباط السوريين في لبنان الذين كانوا يتعاطفون مع «أمل»، ذلك أن حزب الله كان حزباً إسلامياً، فيما كان الضبّاط السوريون لا يزالون «تحت وطأة الحوادث الدامية التي وقعت في سورية بين الدولة وبين الإخوان المسلمين».  أبعد من ذلك، وافقت سوريا على إرسال إيران لواء للحرس الثوري إلى لبنان خلال الأيام الأولى للقتال والذي توجّه إلى منطقة البقاع الهرمل.

ربما شكّل هذا التحالف الغرائبي بين نظامين لا ينتميان إلى جذر عقائديّ واحد أوّل صدمة للضبّاط السوريين الذين ما كانوا ليتوقعوا التحالف مع جمهورية وحزبٍ إسلامييَن. فرغم ميل الأسد غير المتخوّف من تنامي النفوذ الإيراني في لبنان، فإن بداية العلاقة شهدت اضطراباً حين وضعت القوات السورية خطة أمنية لضبط الفوضى في بيروت، فكان من نتائجها التوجه إلى ثكنة لحزب الله في منطقة فتح الله ومطالبتها أعضاء الحزب تسليم أسلحتهم فانتهت العملية بجولة إطلاق نار ومقتل بعض الجنود و22 شخصاً واستيلاء القوة السورية على الثكنة. هذه الذكرى الدامية لم تتكرّر لاحقاً بعد أن تفحّصت دمشق أوراق اللعب الإيرانية في لبنان. فالحزب اختصّ في ملف واحد مطلع عهده: مقاومة إسرائيل، وهو ما حجبه عن مسارات المنافسة السياسية والفصائلية الداخلية في لبنان. هكذا صار للحزب زاوية أثيرة داخل المشهد اللبناني راكم فيها تجارب عسكرية ونسقاً جبهوياً جديداً أسفر في نهاية المطاف إلى خوض حرب عام 2000 وتحقيقه انتصار تحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة منذ عام 1976، وهنا، سيبرز اسم سوريا في الانتصار كشريك مساهم، وليحل الحزب لاحقاً مكان الجيش السوري في خارطة توزّع القوى والنفوذ اللبنانيين مع انسحاب الجيش السوري عام 2005.

امتدت جماهيرية الحزب «المحرِّر» إلى داخل سوريا، فصارت صور أمينه العام واحدة من الصور المنتشرة في المدن والبلدات داخل بلد لا تقبل زعامته القسمة على اثنين بأي حال. هذا التقدّم في مسار العلاقة بين معظم المجتمع السوري والحزب قطّعته الحرب الأهلية السورية مع دخول الأخير بكل ثقله في معترك الحرب وترجيح كفّة النظام العسكرية في غير موقع. لكن، رغم هذا المسار المتعرّج، أثبتت الوقائع رجاحة رأي حافظ الأسد في مقابل ضبّاطه «الغاضبين» لحظة تأسيس العلاقة بين النظام والحزب الناشئ.

ولئن كان انتصار الحزب عام 2000 ألزم لبنان كلّه على دفع تكاليفه في يوليو/تموز 2006 ومايو/أيار 2008، فإن «انتصاراته» في سوريا ألزمت دمشق على دفع تكاليف مشاركته الفاعلة إلى جانبه. ولعل المقصود بالتكاليف هنا هو تحويل دمشق إلى مستقرّ ومركز ارتباط للقيادات الإيرانية واللبنانية الواقعين تحت دائرة الاغتيالات الإسرائيلية كما في حالة الاغتيال الأخيرة لحسن جعفر قصير، صهر نصر الله، وتحمّل تكثيف إسرائيل غاراتها الجويّة على دمشق وتحديداً منطقة المزّة التي أحالتها كثافة الضربات إلى نموذج مصغّر للضاحية الجنوبية. فهل سيعني ذلك احتمالية التخلي عن مسار العلاقة التاريخي والطويل، وهل ثمّة «غاضبون» جدد داخل المؤسسة العسكرية والأمنية؟

خلال الأعوام القليلة الماضية، وتحديداً العام الماضي، كانت عمليات الاستهداف لقيادات الحرس الثوري وحزب الله في سوريا بلغت أشدّها. إلا أن كثافتها منذ اغتيال نصر الله تشي بإمكانية أن تصبح دمشق في دائرة الخطر الفعلي الذي قد يمتد إلى أعمدة النظام العسكرية والأمنية، بمعنى إمكانية تهتّك النسيج الضام للنظام، فيما قد تستوجب فرصة التخفّف من عبئ المشي في طريق الحرب الإسرائيلية الإيرانية إقدام دمشق على تشكيل مقاربات جديدة وتطوير صيغة لفك الارتباط بالمشاريع الإيرانية العبثية.

من الصعب التحقّق ما إذا كانت دمشق قادرة على الخروج الآمن من محور المقاومة في ظل ميل كفّة الحرب لصالح إسرائيل وتمكّن الحرس الثوري من الاحتفاظ بنفوذه داخل المؤسسة العسكرية للنظام، لكن داخل هذه الأوضاع يبدو أن دمشق أميل إلى وقوفها عند حدود الساعة 23.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد