تركيا وحماس.. الأيديولوجيا لوحدها لا تكفي للهيمنة!
سارة شريف
قبل هجوم حركة حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول، كانت تركيا في خضم عملية مصالحة سياسية مع إسرائيل، وكان الحديث يدور عن إمكانية تطوير العلاقات، خاصة بعد زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ إلى تركيا في عام 2022، في أول زيارة رفيعة المستوى لمسؤول إسرائيلي منذ عام 2008. ثم التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في الأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر/أيلول 2023. وفي حينه، كانت التقديرات أن الجانبين ربما يتمكنان من فتح صفحة جديدة.
تغيرت الأمور عندما اندلعت الحرب في غزة، وظهرت حيرة تركية بين الروابط القوية مع حماس والمصالحة الحديثة والمهمة مع إسرائيل. ووسط التقلبات السياسية، لم يعد سهلاً فهم الموقف التركي من الحركة وإسرائيل.
عندما اندلعت الحرب قبل نحو سنة، كانت نبرة تركيا محسوبة تماماً. وبدا في حينه أن أردوغان لا يريد الإضرار بعلاقته المتطورة مع إسرائيل وهو ما قد يعرض مصالحه للخطر في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك علاقاته مع الغرب.
والأهم من ذلك، أن أردوغان أراد التوسط في الحرب، كرغبة منه في أن يلعب دوراً إقليمياً، مستغلاً بذلك مصالحته مع إسرائيل وعلاقته مع حركة حماس، مثلما أراد أن يفعل في الحرب بين روسيا وأوكرانيا. لكن سرعان ما اتضح أنه غير قادر على لعب هذا الدور، ما دفعه إلى تغيير نبرته والبدء في التعبير عن انتقاداته لإسرائيل، فأصبحت خطاباته أكثر حدّة، حيث وصف عناصر «حماس» بـ«المقاتلين من أجل الحرية» وأفعال إسرائيل بـ«الإبادة الجماعية»، والتي وصلت إلى حد دعوة الدول الإسلامية مؤخراً إلى تشكيل تحالف ضد إسرائيل.
لا يعتبر موقف أردوغان من الفلسطينيين تغييراً درامياً. فمنذ توليه السلطة لأول مرة قبل أكثر من عشرين عاماً، ظل أردوغان داعماً قوياً للفلسطينيين، بما في ذلك حركة حماس. ولكن حتى وفقاً لخطابات أردوغان، فإن الموقف ضد إسرائيل كان متطرفاً، إذ قال إن ما يفعله رئيس الوزراء الإسرائيلي في غزة «لا يقل بأي حال عن ما فعله هتلر». ورد نتانياهو قائلاً إن «أردوغان الذي يرتكب إبادة جماعية ضد الكرد، والذي يحمل رقماً قياسياً عالمياً في سجن الصحافيين المعارضين لحكمه، هو آخر شخص يستطيع أن يبشرنا بالأخلاق».
التوتر بين إسرائيل وتركيا
قبل عقود، كانت هناك شراكة قوية بين تركيا وإسرائيل، حيث كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف بدولة إسرائيل في عام 1949. وحافظت الحكومات التركية المتعاقبة على علاقات قوية مع إسرائيل. وفي حينه، نضج التعاون الأمني والدفاعي. ففي عامي 1996 و1998، منحت تركيا إسرائيل عقوداً لتحديث أسطولها من الطائرات المقاتلة. كما منحت أنقرة إسرائيل عقداً بقيمة 700 مليون دولار في عام 2002 لتحديث الدبابات التركية. كما أجرى البلدان تدريبات عسكرية مشتركة وتبادلا المعلومات الاستخباراتية مع بعضهما البعض حتى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
لكن لم يمض وقت طويل بعد تولي أردوغان منصبه عام 2002 حتى تدهورت العلاقات مع إسرائيل، فيما نشبت أول أزمة دبلوماسية بين إسرائيل وتركيا أمام العالم عندما انسحب أردوغان في عام 2009 من اجتماع خلال المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بعد اشتباك لفظي مع الرئيس الإسرائيلي آنذاك شمعون بيريز بشأن الغارات الجوية الإسرائيلية على غزة. وتعهد الزعيم التركي بعدم العودة إلى دافوس، ولم يعد منذ ذلك الحين.
بعد عام واحد فقط، وصلت التوترات إلى نقطة الانهيار عندما أبحرت السفينة «مافي مرمرة» من إسطنبول إلى غزة على رأس أسطول من القوارب التي تحمل متطوعين ومساعدات إنسانية لتحدي الحصار البحري الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة، ثم هاجمتها قوات الكوماندوز الإسرائيلية في المياه الدولية وقُتل عشرة مواطنين أتراك كانوا على متنها. دفعت هذه الحادثة تركيا إلى تعليق العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل لعدة سنوات.
ولم تستأنف العلاقات التركية الإسرائيلية إلا في العام الماضي، ثم اندلعت الحرب بعد أشهر من إعادة تعيين كل من البلدين سفيره لدى إسرائيل. واستدعت تركيا سفيرها، وعاد السفير الإسرائيلي لأسباب أمنية.
تقارب أيدولوجي
لا يمكن فصل التوتر بين إسرائيل وتركيا طوال السنوات الماضية عن نمو وتعزيز التقارب بين أردوغان وحركة حماس. فيمكن قراءة التقارب التركي مع الحركة بالتوازي مع التباعد عن إسرائيل.
وكما يبدو أن التقارب مع «حماس» ليس فقط محكوماً بالمصالح التركية، لكن هناك تماهٍ إيديولوجي لا يمكن إغفاله بين الرئيس التركي والحركة. وليس هذا مرتبطاً فقط بأن أردوغان لا ينظر إلى «حماس» كحركة إرهابية، فهناك العديد من الزعماء العرب لا يعتبرونها علناً حركة إرهابية، لكنهم في الوقت نفسه لا يتبنون أيديولوجيتها. في عام 2017، استشهد أردوغان مباشرة باقتباسات من ميثاق «حماس» التأسيسي تدعو إلى تدمير إسرائيل. وفي العام التالي، اتهم إسرائيل علناً بارتكاب «إبادة جماعية ثقافية»، وزعم أن السياسة الإسرائيلية «لا تقل خطورة عن القمع الذي تعرض له اليهود خلال الحرب العالمية الثانية».
انعكس التقارب الأيديولوجي أيضاً على توفير الدعم التركي للحركة. فلا يخفى أن لها وجوداً في تركيا منذ عام 2011 بدعوة من الحكومة التركية. والحقيقة أن هذه الخطوة كانت جزءاً من صفقة شاليط بوساطة مصرية والتي أفرجت فيها إسرائيل عن أكثر من ألف سجين فلسطيني، بما في ذلك شخصيات بارزة من الحركة، في مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط. منذ ذلك الحين، وفرت تركيا ملاذاً آمناً لكبار قادة «حماس»، حيث انتقل صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي حينذاك، مؤقتاً من دمشق إلى تركيا في أعقاب اندلاع الحرب السورية لإنشاء فرع للحركة هناك.
ولا يخفى على أحد أيضاً أن لدى «حماس» مكاتب في تركيا. وعلى الرغم أن أماكنها غير معروفة، إلا أن تحركات «حماس» في تركيا مُعلنة ورسمية إلى حد أنه في عام 2015 أصبح جهاد يغمور، أحد عناصر «حماس» الذي لعب دوراً في اختطاف الجندي الإسرائيلي نحشون واكسمان، ممثلاً لحركة «حماس» لدى الحكومة التركية. ووفقاً لمركز مائير أميت لمعلومات الاستخبارات والإرهاب، فإن يغمور «يعمل كحلقة وصل بين حماس والحكومة التركية والاستخبارات الوطنية التركية». كما يعقد أردوغان اجتماعات علنية مع كبار قادة «حماس» كان آخرها في يوليو/تموز 2023. كما أن تركيا منحت رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية، الذي اغتالته إسرائيل الشهر الماضي، الجنسية التركية في عام 2020. كما حصل نائبه صالح العاروري، الذي اغتالته إسرائيل أيضاً، على جواز سفر تركي أيضاً.
مصالح التقارب
لا يمكن فهم التقارب بين أردوغان و«حماس» من المنظور الأيديولوجي فقط فهناك جانب آخر شعبوي. ففي عهد أردوغان، اختلفت السياسة التركية بشكل واضح حيال إسرائيل، وهو ما اختلف كلياً عن فترة ما قبل أردوغان لسبيين، الأول هو اعتقاد أردوغان بشرعية «حماس» كفاعل فلسطيني قابل للاستمرار، وهو نتيجة طبيعية لتقاربه الأيديولوجي مع جماعة الإخوان المسلمين. والثاني هو أن القضية الفلسطينية منحت أردوغان ما كان يتطلع إليه من حيث الزعامة الإقليمية ــ واستخدامه للعثمانية الجديدة لبيع هذه الفكرة للناخبين الأتراك.
فقد بنى الرئيس التركي برنامجه السياسي على موضوع تركيا الصاعدة ــ مع المسؤولية التاريخية عن حماية السكان المسلمين المحرومين في المنطقة، بما في ذلك بالطبع الفلسطينيين، وهو يشكل جوهر برنامجه «قرن تركيا». كما يعمل هذا المفهوم بشكل جيد على الصعيد المحلي بالنسبة للناخبين. وهي الفكرة التي كانت وراء توجيه انتقادات لأردوغان بسبب التجارة مع إسرائيل، وفي 17 أبريل/نيسان، اتهم أردوغان، خلال اجتماع الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية الحاكم، منتقدي تعامله مع حرب إسرائيل على غزة بتشويه سمعته وسمعة حزبه وحكومته والجمهورية التركية.
وفي هذا السياق، قال الخبير في شؤون الشرق الأوسط المقيم في إسطنبول إرهان كيليس أوغلو لـ«صوت أميركا»: «لقد أصبح حزب العدالة والتنمية وأردوغان منهكين للغاية في الآونة الأخيرة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية بعد الكشف عن وجود تجارة مع إسرائيل».
وأضاف كيليش أوغلو أن «اللقاء مع قادة حماس يمنح الرئيس (أردوغان) فرصة لتجديد صورته أمام الرأي العام، ويظهر أنه يقف وراء القضية الفلسطينية وحماس».
وفي أبريل/نيسان 2024، استقبل الرئيس التركي رئيس المكتب السياسي لحركة حماس حينذاك إسماعيل هنية في إسطنبول، حيث تحدث أردوغان وزعيم «حماس» عن «الهجمات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، وخاصة غزة، وما يجب القيام به لضمان وصول المساعدات الإنسانية الكافية والمتواصلة إلى غزة، وعملية سلام عادلة ودائمة في المنطقة». وأكد أردوغان أيضاً على أهمية أن يتحرك الفلسطينيون بوحدة، وهو ما وصفه بأنه «الرد الأقوى على إسرائيل، والطريق إلى النصر يمر عبر الوحدة والنزاهة».
وجاء ذلك اللقاء بعد أن أعلنت وزارة التجارة التركية في 9 أبريل/نيسان فرض قيود على تصدير العديد من مجموعات المنتجات إلى إسرائيل رداً على الدعوات المتزايدة في تركيا لمقاطعة المنتجات. وكان واضحاً أنها خطوة موجهة للداخل التركي.
ينظر أردوغان إلى «حماس» كورقة ليس فقط موجهة للداخل التركي، ولكن أيضاً للعب دور إقليمي. ففي تحليل نشره موقع معهد الشرق الأوسط في واشنطن، كتب إيفرين بالتا: «تعتزم تركيا إعادة تأكيد نفوذها في المنطقة من خلال لعب دور الوسيط، خاصة أن قدرة قطر على الوساطة وصلت إلى حدودها. كما برزت تركيا مؤخراً كواحدة من الدول الوسيطة في العلاقات مع إيران، ولكن لم توافق إسرائيل أو الولايات المتحدة على الدور الذي ترغب تركيا في لعبه أو اعتبار حل الجناح العسكري لحماس خطوة كافية للتعامل مع المنظمة، حيث أدى دعم تركيا لحماس إلى إبعادها عن العمليات الدبلوماسية وزاد من توتر علاقاتها مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن قرارها الأخير بالموافقة على عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي قد يكون فرصة للدبلوماسيين الغربيين لإصلاح الأمور».
ويرى البعض أنه لو كان الرئيس التركي أكثر تحفظاً في تأييده العلني لحماس وأكثر دبلوماسية في لهجته وأقل استعدادا لتأييد حماس بكل إخلاص بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لربما وجدت أنقرة نفسها في قلب الدبلوماسية الدولية بشأن غزة. وعلى نفس النحو الذي فعل به في صفقة الحبوب في البحر الأسود وتبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، كان أردوغان ليقود الدبلوماسية حول مفاوضات الرهائن وخفض التصعيد الإقليمي.
يقلل الإصرار المستمر على الوقوف إلى جانب «حماس» مع إظهار العداء الصريح لإسرائيل من فرص تركيا في أن تكون لاعباً نشطاً في أي مفاوضات. إن التهميش يجعل تركيا أكثر عدوانية وبالتالي يعزز صورتها كلاعب غير جدير بالثقة.
السنوار.. هل هو رجل إيران؟
التغييرات الأخيرة في حركة حماس، ستنعكس بشكل واضح على أردوغان. فخلال السنوات الأخيرة، كان هناك اتجاهان داخل حركة حماس: اتجاه موال لتركيا وآخر موال لإيران.
أعطت العلاقات الودية التي تربط هنية بالرئيس التركي وعلاقاته الجيدة مع إيران، خاصة مع المرشد الأعلى علي خامنئي، الانطباع بأن هنية ينتهج سياسة متوازنة بين تركيا وإيران.
بعد اغتيال هنية نهاية شهر يوليو/تموز الماضي وتنصيب يحي السنوار رئيساً للحركة، ظهرت عدة تساؤلات حول شكل علاقة الحركة بتركيا، خاصة أن السنوار يرجح أنه مقرب من إيران، بينما حاولت تركيا الدفع برجلها خالد مشعل.
كان تعيين السنوار رئيساً للحركة بمثابة مفاجأة كبيرة لأن كثيرين لم يأخذوا في الاعتبار عامل إيران، بحسب محللين. ومن جانبه، قال يوحنان تزوريف، الباحث البارز في معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب والمتخصص في العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية: «لم يفكر أي منا الخبراء في الشؤون الفلسطينية – وخاصة هنا في إسرائيل – في السنوار باعتباره الشخص الذي سيحل محل هنية». وأضاف أن «أحد الأسباب الرئيسية لكون السنوار هو الزعيم هو إيران».
كانت أنقرة والدوحة تفضلان مشعل لقيادة «حماس» بسبب مهاراته وخبرته الدبلوماسية. ومع ذلك، فإن تعيين السنوار يثير المخاوف بشأن الديناميكيات المستقبلية بين الحركة وتركيا وقطر وإيران، ما قد يؤثر على التحالفات والنفوذ الإقليميين.
كيف يؤثر هذا على تركيا؟
احتفت وسائل الإعلام التركية الرسمية بالخطاب الذي ألقاه الرئيس الفلسطيني محمود عباس في البرلمان التركي بحضور أردوغان. ولكن هذا لا يغير من حقيقة أنه منذ اغتيال هنية يبدو أن تركيا أصبحت واحدة من أكبر الخاسرين في لعبة القوة في الشرق الأوسط.
طوال السنوات الأخيرة، رغم استثمار تركيا، بالتعاون مع قطر، في «حماس»، دأب الأتراك والقطريون على تمويل الحركة لكنهم لم يصلوا إلى حد تزويدها بالأسلحة. فقدت تركيا نفوذها وهي تحاول إعادة بناء العلاقات مع سوريا وإسرائيل، ولم تتمكن من لعب دور الوسيط في حرب غزة للأسباب السابق ذكرها. والنفوذ التركي أصبح أكثر تضاؤلاً، بينما أصبحت إيران في موقع جديد على الطاولة بين أولئك الذين لديهم رأي في تقرير مصير المنطقة.
* باحثة سياسية مصرية