تصريحات لافروف وصفة مجرّبة لشد العصب التركي

شورش درويش

لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وصفة مجرّبة للتعامل مع الأتراك فيما خصّ الملف السوري، إذ يكفي أن يحرّك المخاوف التركية المَرضيّة تجاه الكرد ويصرّح بمخاطر انفصال الإدارة الذاتية وإنشاء كيان كردي حتى تجفل أنقرة وتهرع للتباحث مع موسكو بحثاً عن حلّ لهذا الكابوس المزمن. ولعل الحل الروسي القائم على وجوب الوصول إلى مصالحة بين بشار الأسد ورجب طيب أردوغان يأتي على خلفية هذا التفصيل الذي تجيد روسيا تضخيمه واستخدامه على الدوام.
لطالما نهل وزير الخارجية من قاموس المفردات التي تشي بوجود رغبة كردية في «الانفصال عن سوريا» وإقامة «دويلة» أو «شبه دولة» أو حتى «دولة». ففي تصريحه الأخير مطلع هذا الشهر، أعاد لافروف مزاعم بلاده بأن واشنطن تسعى لإقامة «كيان شبه دولة». وسبق له أن قال أيضاً في يناير/كانون الثاني 2023 بأن قوات سوريا الديمقراطية «تقود مشروعاً انفصالياً». وقبل ذلك بعام أيضاً، حذّر من الأمر ذاته. وكل ذلك رغم معرفة لافروف عن كثب بأن كرد سوريا لا يسعون للانفصال وأن الإدارة الذاتية سبق لها أن طلبت من الخارجية الروسية نفسها بأن تدفع باتجاه إيجاد حل سياسيّ ينطلق من إعادة شكل إدارة الدولة وفق نظام لامركزيّ يحدد الصلاحيات بين المركز والأطراف. بكلمات أخرى: يسعى كرد سوريا إلى حكمٍ إداري يشابه نظام الأوبلاستات (المقاطعات) الروسي. كان ثمّة تطلعات كردية بأن تدعم موسكو، قبل غيرها، مطالب كرد سوريا في الحكم الذاتي بالنظر إلى تاريخٍ روسيّ طويل في تشكيل مقاطعات الحكم الذاتي وتفهّم مطالب المجتمعات الإثنية وتطلّعاتها الثقافية سواء في الحكم السوفياتي المديد أو في مرحلة ما بعد تشكيل جمهورية روسيا الفيدرالية الحالية.
تبدو نصائح روسيا العلنيّة للإدارة الذاتية الداعية للتفاوض مع دمشق مخاتلة بعض الشيء، إذ سعت الإدارة بالفعل للتفاوض دون جدوى، وحاولت إلى ذلك إدخال موسكو على خطّ الوساطة. رغم ذلك، بدت روسيا مشدودةً أكثر لمصالحة دمشق وأنقرة، حتى وإن جاءت المصالحة على حساب كرد سوريا. بل أبعد من ذلك، عملت روسيا إلى دفع الحكومة التركية لإبداء المزيد من العداء لكرد سوريا بدل محاولتها التخفيف من حالة الهوس التركية بما يسمى «الأمن القومي». ويأتي كلّ ذلك عبر التهويمات الرسمية الروسية التي تتحدّث عن مشاريع انفصال تُعدّها واشنطن لشمال شرقي سوريا دون أن تقدّم دليلاً واحداً حول مساعي الولايات المتحدة تشكيل هذه «الدويلة» المزعومة، رغم أن الجزء المكشوف والعلنيّ في قصة شمال شرقي سوريا والولايات المتحدة قائمة على البعد الأمني والمصلحة المشتركة في القضاء على تنظيم داعش ومنعه من الظهور مجدداً، فوق أن واشنطن تبدو غير مكترثة بإقامة شكل من أشكال الكيانيّة السياسية أو الإدارية للسكان المحليين، والكرد ضمناً، إذ لا وعود أميركية فيما خصّ ذلك.
خارج موضوعة تهييج تركيا، يسلّط وزير الخارجية الروسي سهامه نحو السياسة الأميركية في سوريا والتقليل من أثر نجاحها، إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية «قسد»، في محاربة «داعش»، مجافياً الأرقام والوقائع على الأرض، ذلك أن واشنطن فشلت بحسبه في مهمّتها، إذ «لم يحقق الأميركيون أي أهداف في مكافحة الإرهاب». ولعل مثل هذا القول المكرّر إنما هو موجّه للاتجاهات التي ترى في وجود القوات الأميركية في شمال شرقي سوريا وفي معسكر التنف بأنه عمل عبثي وبلا جدول زمنيّ محدد. فلافروف يُلمح بقوله هذا إلى أن مهمّة تعقّب خلايا «داعش» النشطة والذي يحتاج إلى صبر ومراقبة عن كثب إنما هو تعبير عن «فشل» أميركي.
واقعياً، لا يمكن الحديث حتى اللحظة عن إتمام التحالف الدولي لمهمّته بعد، بالنظر إلى مخاطر عودة التنظيم الإرهابي ونشاطية مقاتليه المتنامية في باديتي سوريا والعراق، رغم عمليات الدهم والاعتقال المستمرّة التي تنفّذها «قسد» رفقة قوات التحالف الدولي. كما أن التعقّب المستمر لخلايا التنظيم لا يعني بأي حال فشلاً أميركياً بقدر ما يمكن للمتابع أن يعكس كلمات لافروف والقول بأن ما قاله يمثّل تعبيراً عن إخفاق موسكو في رعاية حلول سياسيّة واقعية تدفع باتجاه تسلّم السوريين أنفسهم مهمّة محاربة «داعش» بدلاً من قوات التحالف الدولي، ذلك أن الحل السياسيّ يعني في بابٍ ما خروج كافة القوات الأجنبية وقوات التحالف الدولي.
ثمة حالة شدّ وجذب لافتة في تصريحات الخارجية الروسية تجاه كرد سوريا، ولا يمكن النظر إليها بمعزل عن توجيهها أساساً لتركيا، سواء جاءت على شكل استفزاز صريح للأتراك أم محاولةً لاستمالتهم. خلال السنوات السابقة، شهدنا حالة تبدّلات في مستوى التصريحات الروسية. ففي عام 2015، كانت روسيا أعدّت مسوّدة دستور يأخذ بعين الاعتبار فكرة «الحكم الذاتي الثقافي» وتوسيع حقل النظام اللامركزي، قبل أن تتنصل من المسودة فور صدورها. ويمكن أيضاً التذكير بتصريح وزير الخارجية الحالي حين تحدّث عن إمكانية استنساخ تجربة كردستان العراق لتكون حلّاً لقضية كرد سوريا، بمعنى إقامة نظام فدرالي، قبل أن تبدأ روسيا رحلة التشنيع بمشروع الإدارة الذاتية وربط الصيغة الراهنة للحكم الذاتي المخففة بأنها مقدّمة لتشكيل دويلة!
كان من المتوقع أن يتبنّى لافروف وجهة النظر المشكّكة بصلاحية التحالف بين واشنطن و«قسد» إلى ما لا نهاية، فاختار عقد مقارنة قاسية حول مصير مشابه لـ«مصير القيادة الأفغانية» عقب تخلّي الولايات المتحدة عنها وتنفيذ انسحابها العاجل عام 2021، ليطالب بوجوب التعلّم من التجربة الأفغانية والتحوّط من مصير مماثل. لكن بطبيعة الحال، يمكن أيضاً التذكير في السياق ذاته بانسحاب روسيا من أفغانستان عام 1989 وتركها لحليفها نجيب الله يواجه مصيره في مواجهة ضربات «المجاهدين». قد يكون اختيار التجربة الأفغانية مثالاً سيّئاً عن سياسات تخلّي الدول العظمى عن حلفائها في حالات معيّنة، وهو ما ينطبق على موسكو بالمقدار الذي ينطبق فيه على واشنطن، كما أن المثال الأفغاني لا يصلح مادّة للمعايرة أو القياس على أي حال.
في المحصلة، تبدو تصريحات لافروف موجّهة لتركيا بالدرجة الأساس شدّاً لعصبها، وليس للإدارة الذاتية أو حتى دمشق، ذلك أن كل ما دعا إليه من عودة كرد سوريا إلى «مسار الحوار الوطني، والاتفاق على شروط حياتهم ضمن الدولة السورية الموحدة مع دمشق» هو في الأساس جزء من المطالب الكردية التي لا تدعمها روسيا بالجدّية المطلوبة رغم الالتماسات الكردية المقدّمة لوزارة الخارجية بوصفها الجهة الأكثر اطلاعاً على تفصيلات الوضع الكردي وطبيعة مطالب الكرد ورؤيتهم لحل الأزمة السورية.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد