ما سيفعله دونالد ترامب أصبح معروفاً في حال فاز. لكن، ماذا لو فازت كامالا هاريس وهو ما ترجحه الاستطلاعات؟ من السهل القول إن هاريس ستواصل السياسة الخارجية لإدارة جو بايدن، وهو ليس افتراضاً خاطئاً. سيبقى منع روسيا من الانتصار في حرب أوكرانيا أولوية لإدارتها، وكذلك مواجهة الصين في معارك تجارية وأمنية «جزئية» وفقاً لكل حالة وملف على حدة.
لكن، لا يمكن تحقيق مطابقة تامة في التفاصيل بين إدارة بايدن وإدارة هاريس – في حال فازت. فعلى صعيد الشرق الأوسط، فإن إدارة بايدن هي أقل الإدارات الأميركية التي تضم «أصدقاء تركيا». ولا يبدو ان هذا هو الحال مع إدارة هاريس التي لا تمتلك خبرة مستقلة في إدارة الملفات الخارجية أساساً، وسيتوجب عليها الطلب من مستشاريها صياغة ما هو أنسب لمصالح الولايات المتحدة. ومن المعروف أن قطاعاً غير قليل من الدبلوماسيين الأميركيين لم يتحرروا من خريطة الحرب الباردة. وسيكون من مصلحة دولة مثل تركيا دعم وجهات النظر الأميركية القائمة على قواعد الحرب الباردة حيث يصطف العالم خلف الولايات المتحدة أو روسيا. فهذا الوضع يمنح أنقرة موقعاً رابحاً في ابتزاز الجانب الأميركي وكذلك الروسي عبر إيهام كليهما أنها يمكن أن تنضم إلى أي من الفريقين في حال عدم تحقيق مطالبها، مثل احتلال أجزاء جديدة من سوريا وإقليم كردستان العراق أو دعم أذربيجان في الحرب مع أرمينيا وفتح الباب أمام تدخلاتها في القارة الأفريقية. وكما ضمّت إدارة ترامب شخصية مثل جيمس جيفري، المبعوث السابق إلى سوريا، ودوره الكبير في تقديم التنازلات لتركيا على حساب تهجير الكرد في سوريا من بلداتهم ومدنهم، فإن لدى هاريس مستشاراً لا يبتعد كثيراً عن جيفري من حيث عجزه عن قراءة العالم خارج أدوات الحرب الباردة، وهو فيليب غوردون.
كتب الأكاديمي الأميركي من أصل إيراني، آراش أزيزي، مقالاً مطولاً في مجلة «أتلانتيك» عن سياسات هاريس المحتملة في الشرق الأوسط في ظل مساعي الرؤساء الثلاثة السابقين إلى تخليص واشنطن من الشرق الأوسط. لكن كما هي الحال في أغنية «فندق كاليفورنيا»، لا يتيح لك الشرق الأوسط المغادرة حتى بعد تسجيل الخروج، على حد تعبير آراش. إذ أبرم باراك أوباما وترامب صفقات تاريخية يُفترض أنها لزيادة الاستقرار في المنطقة والسماح للولايات المتحدة بالتحول إلى أماكن أخرى. لكن أحداثاً غير متوقعة ظهرت لكل منهما، وكذلك بايدن، ما أجبرهم على العودة إلى المنطقة.
يمكن لهاريس أن تتوقع نفس الشيء إذا فازت في الانتخابات الرئاسية. لكن النهج الذي من المرجح أن تتبعه تجاه المنطقة ليس واضحاً. إرثها وتجربتها لا يساعدان في تكوين خريطة سياسية. لذا، يميل أولئك الذين يسعون لفهم سياسة هاريس الخارجية إلى النظر لرؤية فيليب غوردون، المستشار الأقرب لهاريس لشؤون الشرق الأوسط ومستشارها للأمن القومي منذ عام 2022.
شغل غوردون منصباً في إدارة بيل كلينتون وكذلك أوباما وكتب العديد من المقالات والكتب. أشار مارتن إنديك، السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل، العام الماضي إلى أن هاريس «تعتمد بشكل كبير على نصائح فيليب نظراً لخبرته العميقة ومعرفته بجميع اللاعبين» في الشرق الأوسط.
بعد أن ظهرت هاريس كمرشحة ديمقراطية محتملة، استغل بعض أنصار اليسار على الفور كتاب غوردون «خسارة اللعبة الطويلة: الوعد الزائف لتغيير النظام في الشرق الأوسط» كإشارة محتملة لتأييده منهج عدم التدخل في تغيير الأنظمة غير الصديقة بالقوة.
وغوردون مدافع عن الاتفاق النووي مع إيران، وساعد في إبرامه كمنسق الشرق الأوسط لأوباما من 2013 إلى 2015. كتبت مجموعة من الجمهوريين في الكونغرس إلى هاريس تستفسر عن علاقات غوردون مع روبرت مالي، المبعوث السابق لإيران في إدارة بايدن الذي خضع لتحقيق بتهمة تسريبه معلومات سرية لإيران. (غوردون ووزير الخارجية أنتوني بلينكن وروبرت مالي كانوا أصدقاء في أواخر التسعينيات).
يتخصص غوردون في السياسات ويحظى باحترام كبير من العديد من الأوساط ويرتاح له الأوروبيون؛ وترجم مرة إلى الإنجليزية كتاباً للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي. اهتمامات غوردون المبكرة طمأنت بعض الأوروبيين الذين كانوا يخشون في البداية أن تدفع أصول هاريس واشنطن نحو آسيا.
شغل غوردون مناصب فقط في الإدارات الديمقراطية وقضى خلال سنوات جورج بوش وترامب خارج الحكومة، حيث انتقد السياسة الخارجية الجمهورية بشدة. عندما خاضت إسرائيل حرباً مع حزب الله اللبناني في عام 2006، كتب غوردون مقالاً في صحيفة «فاينانشيال تايمز» وصف دعم واشنطن للحرب بأنه «كارثة». بعد عام، نشر كتاب «الفوز في الحرب العادلة»، وهو نقد واسع النطاق لسياسة بوش في الشرق الأوسط التي دعت إلى انسحاب من العراق وأفغانستان والتعامل مع إيران بمزيج من العقوبات والمحادثات وتحقيق السلام العربي الإسرائيلي. كانت الكتابة تنبئ بالأهداف الرئيسية للسياسة الخارجية لكل من أوباما وترامب تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لكن السلام العربي الإسرائيلي الذي اقترحه غوردون كان يتضمن عنصراً فلسطينياً لم تتضمنه «الاتفاقيات الإبراهيمية» لترامب.
إن نظرة فاحصة أكثر لمواقف غوردون تساهم في فهم أوضح لنمط تفكيره في القضايا غير المتصلة بالملف الفلسطيني.
في سبتمبر/أيلول 2016، عقد معهد واشنطن ندوة سياسية مع غوردون ودينيس روس وجيمس جيفري وسياسيين آخرين كانوا عادوا للتو من جولة مشتركة قام بها مسؤولون في الحزبين الجمهوري والديمقراطي إلى المملكة العربية السعودية وتركيا وإسرائيل.
قال غوردون في شهادته عن الجولة شيئاً لافتاً وخطيراً بخصوص تركيا حيث كانت المحاولة الانقلابية الفاشلة تهيمن على أخبار البلاد، إذ حرض الإدارة الأميركية على تحميل مسؤولية الانقلاب للداعية المقيم في الولايات المتحدة فتح الله غولن. وكتب:
«يقلّل الأميركيّون من أهميّة محاولة الانقلاب التي وقعت هذا الصيف في تركيا ومن تأثيرها الصادم. فقد تعرّض البرلمان للقصف واخترق أتباع غولن النظام، فتركوا المحافظين والعلمانيّين/الليبراليّين على حد سواء في حالة خوف من المخاطر التي تسبّب بها ذلك التيّار. ومع هذا، لا تزال الولايات المتّحدة تميل إلى التقليل من أهميّة الانقلاب، مما جعل الكثير من الأتراك يشعرون بالخيانة. وفي الوقت نفسه، يتجاوز الرئيس رجب طيب أردوغان صلاحياته بشكل واضح في ردّه على الانقلاب».
في الجزء التالي من مقترحه، يدعو غوردون إلى تحمل الإدارة الأميركية فضيحة كبرى بحجم تسليم غولن للحكومة التركية! وكذلك تقليل اعتمادها على شركاء الولايات المتحدة في الحرب على تنظيم داعش في سوريا. فكتب:
«على واشنطن أن تتخلص في المرحلة القادمة من الانطباع بأنّها غير مهتمّة بطلب تسليم غولن، وعليها أن تتواصل مع أنقرة حول كيفيّة التعاون ضد تنظيم الدولة الإسلامية مع تقليل اعتمادها على كُرد سوريا».
بعد تسلم ترامب للسلطة، كان مصدر قلق غوردون انتقل من تركيا إلى إيران. ونشر في مارس/آذار 2017 مقالاً في «فورين أفيرز» لم يأت فيه على ذكر تركيا، وصب تركيزه على مواجهة الصين ومخاطر تمزيق الاتفاق النووي مع إيران، ولم يستبعد إمكانية اندلاع حرب بين واشنطن وطهران في ظل الأفكار الجذرية لترامب. وكاد ذلك يحدث بالفعل لاحقاً حين اغتالت إدارته قائد فيلق القدس، قاسم سليماني.
في يناير/كانون الثاني 2020، كتب بالاشتراك مع أماندا سلوت مقالاً في مجلة «فورين أفيرز» بعنوان «الانهيار الخطير للتحالف الأميركي التركي». والتزم فيها الكاتبان بأدوات الحرب الباردة المملة والشبيهة بأحداث فيلم «تحت الأرض» للمخرج الصربي أمير كوستوريتشا حين تعيش مجموعة من المحاربين ضد النازية في قبو واسع تحت الأرض من أجل تلبية حاجات الإنتاج الحربي، ويبقون في القبو يؤدون المهمة ذاتها حتى بعد أعوام طويلة من انتهائها.
كتب غوردون:
«قبل أقل من عقد من الزمن، كانت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما – التي عملنا فيها – تتطلع إلى بناء شراكة نموذجية مع تركيا. فهناك تكاليف باهظة لمعاملة تركيا الآن كخصم، بما في ذلك دفع أنقرة إلى أحضان أعداء الولايات المتحدة مثل إيران وروسيا. ولمنع مثل هذه النتيجة الكارثية، تحتاج كل من إدارة ترامب والكونغرس إلى فهم جذور الصدام بين تركيا والولايات المتحدة بشكل أفضل وتجنب الإجراءات العكسية التي ستؤدي فقط إلى تفريق البلدين».
في 2020، بدا غوردون أقل تسامحاً مع الحكومة التركية مقارنة بمواقفه عام 2016، فلم يحرض الإدارة الأميركية ضد قوات سوريا الديمقراطية وشركائها، ودعا واشنطن إلى تسهيل إطلاق مفاوضات حول القضية الكردية في تركيا بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني.
كتب غوردون هذه المقترحات في ظروف استثنائية للعلاقات بين البلدين. ففي يوليو/تموز 2019، حصلت تركيا على أنظمة «إس 400» الروسية بالرغم من الاعتراضات الأميركية. وفي أكتوبر/تشرين الأول، شنت تركيا عملية عسكرية جديدة احتلت في نهايتها راس العين/سري كانيه وتل أبيض. وصبت الولايات المتحدة جام غضبها على تلكم التطورات وفرضت مجموعة كبيرة من الإجراءات العقابية: رفضت إدارة ترامب تسليم طائرات مقاتلة من طراز «F-35» إلى تركيا، وعاقبت كبار المسؤولين الأتراك، ورفعت الرسوم الجمركية على صادرات الصلب التركية، في حين مرر الكونغرس تشريعاً جاء لفرض عقوبات قوية على صناعة الدفاع التركية، ودعا إلى إجراء تحقيق في الفساد المالي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وأصدر بأغلبية ساحقة قراراً – لأول مرة في مجلسي الكونغرس – يعترف بمذبحة الأرمن في 1915 في عهد الإمبراطورية العثمانية باعتبارها إبادة جماعية.
في ختام مقاله كتب غوردون:
«ستتضرر المصالح الأميركية إذا انهارت العلاقة بين البلدين تماماً أو إذا أصبحت تركيا خصماً حقيقياً للولايات المتحدة. فالأطراف الوحيدون الذين سيستفيدون من شقاق أعمق بين الطرفين هم – إيران وروسيا – الذين يريدون سحب تركيا من المعسكر الغربي. وهذه نتيجة يجب على الولايات المتحدة أن تتجنبها».
إن خلاصة غوردون تأخذنا إلى سؤال طرحه ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية وهو مركز بحثي مرموق. ففي مقال نشره في «فورين أفيرز» أيضاً في 19 أغسطس/آب الجاري، تساءل هاس:
«لماذا يجرؤ الحلفاء على تحدي واشنطن؟ لأن الأخطار عادة ما تكون أكبر بالنسبة إليهم مما هي عليه بالنسبة إلى الولايات المتحدة. وهذا التباين يمنحهم نفوذاً على رغم اعتمادهم على الدعم الأميركي. في كثير من الحالات، تكون مسائل الخلاف الرئيسة متمحورة حول مصالح الحليف الأمنية أو الاقتصادية، في حين أنها بالنسبة إلى الولايات المتحدة مجرد واحدة من أولويات متعددة، ما يجعل واشنطن أقل تصميماً من الحليف على حل النزاع. علاوة على ذلك، إذا ابتعدت واشنطن عن حليف ما، مهما كانت أفعالها مبررة، فسيزعم بعض النقاد أنها لم تعد شريكاً موثوقاً به، ما قد يدفع الحلفاء إلى التصرف من دون مراعاة المصالح الأميركية ويشجع الخصوم على تحديها. ومثل هذه الاعتبارات تقيد الولايات المتحدة».
ما يقترحه مستشار هاريس هو استمرار هذا الحساب الخاطئ الذي شرحه هاس أعلاه، أي أن يزين الدبلوماسيون الأميركيون لإدارتهم أن قضية ما مثل الوجود الأميركي في شمال وشرق سوريا غير مهم وشيء ثانوي ولا تستحق إغضاب تركيا!
في أكتوبر/تشرين الأول 2020، نشر غوردون مقالاً آخر في «فورين أفيرز» قدم فيها مقاربة نقدية لتاريخ التدخلات الأميركية في الشرق الأوسط بدافع تغيير الأنظمة.
إن الرغبة الأميركية العميقة الجذور في حل المشاكل في الشرق الأوسط مشرفة من نواح كثيرة، ولكنها قد تكون خطيرة أيضاً. والحقيقة أن الواقع القاسي ــ الذي أثبتته عقود من الخبرة المؤلمة في المنطقة ــ هو أن هناك بعض المشاكل التي لا يمكن حلها بالكامل، ومحاولة حلها أحياناً تجعل الأمور أسوأ. وجزء من المشكلة هو أن صناع السياسات الأميركيين غالباً ما يفتقرون إلى الفهم العميق للدول المعنية، الأمر الذي يجعلهم عرضة للتلاعب من قِبَل الأطراف ذات المصالح الخاصة.
صحيح أنه لم يقترح حلولاً للمعضلة، إلا أنه يعارض فكرة إسقاط الأنظمة، وحتى فكرة العقوبات على منتهكي حقوق الإنسان. ليس استسلاماً للطغاة إنما لأنها أثبتت عدم جدواها على المدى البعيد من قبل «الفاسدين الإقليميين» الذين لم يسمّهم غوردون بالاسم.
قد تكون عدم وجود رؤية كبيرة لهاريس للشرق الأوسط نعمة. حتى الآن، لا يُعرف الكثير عمن ستجلبهم هاريس لتشكيل سياستها الخارجية أو حتى ما إذا كان من المحتمل أن تجمع فريقاً متنوعاً أو واحداً ينتمي إلى معسكر سياسي واحد. ومع ذلك، وفق خلاصة آرش أزيزي، فإن الخبرة الطويلة لغوردون وإيلان جولدبرغ، المستشار الأميركي- الإسرائيلي لشؤون الشرق الأوسط، يوحي بأن هاريس ستقاوم الإغراء بالابتعاد ببساطة عن منطقة يبدو أنها مزعجة. وربما يكونان بداية لفريق سياسة خارجية يعترف بأن التعامل مع الشرق الأوسط أمر لا مفر منه ويعمل على دمج سياسات الشرق الأوسط مع السياسات التي تركز على مناطق أخرى، مثل الصين، بدلاً من رؤيته كخيارين يتوجب اختيار واحد منهما، وهو ما يكفل إعادة تصويب السياسة الخارجية لتطابق وثيقة الأمن القومي الأميركي لعام 2018 التي حددت تهديدين كبيرين لمستقبل الهيمنة الأميركية هما روسيا والصين. كما يتوافق ذلك مع عقيدة حلف الناتو، وهي المؤسسة العملاقة التي تقاوم تحويل واشنطن اهتمامها إلى الصين حيث لا عمل هناك للحلف، وساعد الغزو الروسي لأوكرانيا في نجاح مسعاها مبدئياً.