«عناد» الأسد يمنح المعارضة السورية وقتاً إضافياً قبل «البازار التركي»

شورش درويش
لا تكاد تعثر بين ثنايا تصريحات المعارضة السورية، عقب الرغبة العارمة والتصريحات التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لأجل مصالحة بشار الأسد، أية صورة واضحة لقبول أو رفض ما جاء في تلك التصريحات، عدا عن أن طائفة من المعارضين يبررون ما يجري وفق تصريف بائس ومكرر، حيث أن الحكومة التركية إنما تنطلق دائماً وفقاً لمصالحها، وكأن حربها على الأسد لم تكن لأجل مصالحها أيضاً.
صحيح أن معارضين تابعين لتركيا منذ عام 2011 أعربوا عن مشاعر الصدمة أو الأسف، لكنهم في الوقت ذاته لم يدلوا بأي تصريح سياسي أو توضيح لما يجري خارج نطاق المشاعر. كما لم تبدر منهم أدنى محاولة لتفسير ما يُعدّ في المطبخ التركي، فيما المفارقة الصارخة تكمن في أن من ينقذهم مِن عملية البازار التي لم تبدأ بعد ويمنحهم قُبلة الحياة هو الأسد نفسه وليس أردوغان، ذلك أن رفض الأسد للمصالحة، وليس اللقاء بأردوغان، المبنيّ على ركيزتي انسحاب القوات التركية والكف عن دعم الفصائل المسلحة، يُدخل الفتور إلى قلب أردوغان.
والحال أنه داخل هذه المفارقة، ولاعتبارات تخصّ دمشق، تنتعش المعارضة لاسيما الترويكا: الائتلاف وتنظيم الإخوان والفصائل المسلّحة، لكن إلى حين. فإذا كان النظام السوري المتمهّل يعوّل على تبدّل الأحوال السياسية داخل تركيا، فإن هذا يعني أن أمام المعارضة الموالية لأردوغان حدوداً زمنية قد لا تتجاوز ثلاث سنوات وهو موعد الانتخابات التركية المقبلة، خاصة بعد أن رسمت الانتخابات البلدية في مارس/آذار الماضي لوحة جديدة لتموضع المعارضة وبداية خسارة التحالف الحاكم لأصوات كتل انتخابية وازنة وخروج أهم الولايات من يد حزب العدالة والتنمية.
بيد أن المُهل والحدود الزمنية غير قادرة على إخراج المعارضة السورية من مأزقها المتمثّل بضعفها الذاتي وانعدام استقلاليتها وعدم امتلاكها مروحة خيارات خارج سياق الرضوخ للمشيئة التركية. إذ إن المعارضة السورية في شقّها الائتلافي لم تطوّر أي علاقة، كانت ممكنة مع الغرب أو العرب، خارج إطار التبعية لأنقرة. كذلك، فإن إحجامها عن التواصل مع بقية «المعارضات» قلّص من هامش مناورتها مع الأتراك.
لعل السيناريو الأقرب للتحقّق فيما خصّ الفصائل المسلحة الموالية لتركيا وتشابه أوضاعها الراهنة هو ما كان عليه «جيش لبنان الجنوبي» قبيل اندثاره حين وضع الجيش الشقيّ كل ما يملك في سلّة إسرائيل. وكانوا حين أزفت ساعتهم مجرّد ذكرى بائسة لفكرة الاستعمال لمرة واحدة. وإذا كان عناصر وضبّاط «جيش لبنان الجنوبي» أحالتهم الظروف إلى مجرّد فئة مقيمة في شروط إنسانية صعبة داخل إسرائيل، فإن ما ينتظر فصائل المعارضة المسلّحة قد يكون مصيراً أشدّ قتامةً، إذ أمامهم ثلاثة احتمالات: الاستسلام لقوات النظام على ما ينطوي عليه الأمر من تراجيديا تليق بهم؛ أو أن تقوم تركيا بتسليم قسم منهم للنظام تحت بند «المصالحات» على ما يعتري المشهد من كوميديا سوداء تليق بهم أيضاً؛ أو أن تعيد تركيا تدويرهم في حروبها الخاصة كمرتزقة يعملون بالإعارة ضمن شروط أصعب من تلك التي يحظى بها موظفو الشركات الأمنيّة/العسكرية.
خلال مدّة وجيزة، تخلّت تركيا عن دعم «قضية» مسلمي الإيغور إرضاءً للصين وتجنّباً لغضبها على ما كان يعنيه دعمهم من تضامن قوميّ مع «أبناء العمومة» بعد أن عجّت الدعاية التركية بوجوب التضامن معهم وفضح انتهاكات بكين. وبالمثل، بدأت المصالحة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بسحب جنسيات القيادات الإخوانية وإغلاق منصات الجماعة الإعلامية وترحيل المؤثّرين منهم إلى أوروبا والولايات المتحدة. وتزامناً، جرى تحجيم الظهور الإعلامي لمطلوبين سياسيين سنّة عراقيين للقضاء العراقيّ. وقتذاك، بدأت ملامح انهيار المتروبول الاسطنبولي السنّي الذي شيّده أردوغان بغية جمع أشتات المعارضات المنبوذة في المنطقة لتكون عناصر ضغط وابتزاز للدول والأنظمة. ومعها، بدأت مشاعر الخوف تتسرّب للمعارضة «السياسية» السورية التي بقيت تكّذب تراجع تركيا عن مشاريعها. وحتى في ظل إصرار أردوغان على فتح صفحة جديدة مع الأسد، ما يزال القسم الأكبر ينوس بين الرجاء من أن يتراجع أردوغان عن مشروع المصالحة أو أن يواظب الأسد على عناده ويحول دون مصالحةٍ وفق شروط تركيا. وفي الحالتين، سيبقى الائتلاف، الجسم السياسيّ الأكثر ولاءً لتركيا، غير قادرٍ على الاعتراض على ما يقوله الأتراك. بل أبعد من ذلك، دخل الائتلاف والمجلس الإسلامي في دائرة صدّ حالة الرفض للمصالحة التي انطلقت على شكل احتجاجات شعبيّة داخل مناطق سيطرة الأتراك في شمال غربي سوريا، وهو ما يشكّل أشدّ صور الولاء ابتذالاً حيث جرى تصوير ما يجري بأنه «فتنة»! وكل ذلك في ضوء تلويح أردوغان بقمع الأصوات السورية المعترضة التي سيتم تصنيفها بأنها مؤيدة لـ«الإرهاب».
من المفارقة أن تَخلُّص تركيا من هذه المعارضة المثقلة بالهزائم والكسل والمرتهنة لها يدخل على المدى البعيد في مصلحة السوريين. ذلك أن الانتهاء من أكذوبة ممثلي «قوى الثورة السورية» والجماعة المهيمنة على «هيئة المفاوضات» وسوى ذلك من مظاهر الاستلاب للقرار السوري المعارض الذي جرى بدفعٍ تركيّ، يساعد في استعادة المعارضة السورية المتعقّلة والوطنية، على قلتها وتشتتها، لزمام المشهد المعارض. إذ إن سوريا بحاجة لبروز معارضة تعترف بالهزيمة السياسية والاجتماعية وتتحمل مسؤولياتها وفقاً لمصلحة السوريين، فوق أن مسألة الارتهان للخارج وما صاحبها من تحطيم للبنى الاجتماعية الوطنية أصبحت الدرس الأثير الذي يجب أن تتعلّم منه التيارات والقوى المعارضة والعودة تالياً إلى زمنٍ كان بمقدور معارضين سوريين قول «لا للتدخل الخارجي» ضمن حلقة من «اللاءات» الرشيدة التي أحالتها تركيا ومن تبعها من سوريين إلى مجرّد ذكرى، ربما آن لها أن تُستعاد.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد