مسار المصالحة «المستحيلة» بين أنقرة ودمشق

شورش درويش

في ظل النفي والتأكيد لما نشرته صحيفة «آيدنليك» التركية بشأن لقاء جمع الاستخبارات التركية بنظيرتها السورية بقاعدة حميميم الروسية على الساحل السوري، وإطلاقها موجة تكهّنات متصلة باللقاء المزعوم، فإن الأكيد أن اللقاء الذي صوّرته الصحيفة التركية بأنه الأول من نوعه لم يكن كما جرى توصيفه وتضخيمه، ذلك أن اللقاء الأهم، وبمعزل عن التواصل الاستخباراتي بين دمشق وأنقرة، جرى في ديسمبر/كانون الأول 2022 في العاصمة الروسية حين جُمع إلى طاولة اللقاء وزراء الدفاع ومدراء استخبارات سوريا وتركيا وروسيا، ثم اللقاء الذي انطلق في 2023 وجمع وزراء خارجية هذه الدول مضافاً إليهم وزير الخارجية الإيراني. وقتذاك، جرى التفاهم على سلّة من المسائل بعناوين عريضة لم يتحقّق منها شيء على أرض الواقع.
عبّر وزير الخارجية التركي هاكان فيدان عقب عودته من موسكو عن رغبة بلاده بالمصالحة مع دمشق، فيما ردّت دمشق على لسان الرئيس السوري بشار الأسد بعد لقاءٍ جمعه مع المبعوث الخاص للرئيس الروسي ألكسندر لافرنتييف بأن بلاده منفتحة على «جميع المبادرات المرتبطة بالعلاقة بين سوريا وتركيا»، في إشارة للمبادرات الروسية والعراقية.

وقائع أسبق

كانت بعض مخرجات لقاءات آستانا ولقاءات موسكو خلال العامين الماضيين خضعت لتفسيرات كل دولة بشكل مختلف تماماً عن الأخرى، خاصة فيما يتعلق بـ«مكافحة الإرهاب والتنظيمات الانفصالية»، فيما بدى البند الداعي إلى «عدم انتشار القوات الأجنبية على الأراضي السورية» أقرب لنصٍ غرائبيّ سطّرته دول أجنبية تنشر قواتها العسكرية على الأراضي السورية. وإمعاناً في التفاؤل التركي، صرّح وزير الدفاع التركي الأسبق خلوصي آكار عقب اللقاء بأن سوريا وتركيا «ستنشأن مركز تنسيق مشتركاً في الأراضي السورية لمحاربة الإرهاب» وهو ما عنى تحايلاً تركياً للإبقاء على قواتها داخل الأراضي السورية بقبول من دمشق، وهو يذكر بتصريح وزير الدفاع التركي الحالي يشار غولر بأن بلاده والعراق اتخذتا قراراً بإنشاء مركز عمليات مشترك بين البلدين عقب زيارة أجراها الرئيس التركي أردوغان لبغداد رفقة وفد وزاري نهاية أبريل/نيسان الماضي.
قد يكون من المفيد الإشارة إلى أن صحيفة «آيدنليك» عائدة لحزب «الوطن» الذي يقوده دوغو برينجك، حيث يوصف بأنه أحد «الأوراسيين» المقرّبين من النظام، ودائماً بحسب حاجة الأخير إليه. ففي حمأة أزمة إسقاط المقاتلة الروسية «سوخوي 24» في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، برزت صورة الرجل كأحد عرّابي صفقة التقارب الروسية التركية. وقتها، جرى تضخيم صورة الوسيط التركي مع إشادات إعلامية بنفوذ ما يسمّى «الأوراسيين» في مقابل تراجع نفوذ «الأطلسيين» داخل البيت الحكومي التركي. ولأجل ذلك، ستكون صفقة شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية «إس 400» المشؤومة إحدى العلامات الفارقة في انزياح أردوغان تجاه روسيا وأبرز حدث عمّق الخلافات التركية الأميركية. وبطبيعة الحال، لا يمكن للصحيفة أن تسطّر خبراً كهذا دون سياق عام تريده الحكومة التركية. ولعل لقاء وزير الخارجية التركية هاكان فيدان بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين يكشف شيئاً عن ما أرادت الدولة التركية قوله بلسان برينجك مرّة أخرى.

جعبة فيدان

مقال «آيدنليك» نُشر عقب عودة فيدان من زيارته لموسكو ولقائه بالرئيس الروسيّ ونيل بلاده دعم موسكو فيما خص ضمّها لكتلة «البريكس». خلال الزيارة، برزت الحاجة التركية للاقتصاد والغاز والاستثمار الروسي ودعم زملائها الاقتصادي في «البريكس». ويبدو أن تحسين العلاقة مع موسكو قد يتطلّب إعادة النظر في ما يجري على المقلب السوري بوصفه نقطة التماس الفعلية التي دفعت الوزير التركي إلى المبالغة في تطلّعاته لدعوة النظام والمعارضة السوريين للمصالحة لقتال «قسد». كما أن تطلّعات فيدان لتطبيع العلاقة مع دمشق، بحسب ما صرّح به لقناة «خبر تورك»، حملت شيئاً من التعالي في سياق دعوته النظام السوري لأن «يستغل بعقلانية هذه الفترة من حالة عدم الصراع لحل مشاكله الدستورية».
في مقابل تصريح فيدان، يبرز تصريح الرئيس السوري بشار الأسد حول انفتاح بلاده على المبادرات «المستندة إلى سيادة الدولة السورية على كامل أراضيها من جهة، ومحاربة كل أشكال الإرهاب وتنظيماته من جهة أخرى»، على أنه تكرار سابق وإن بلغة أقل حدّة عمّا كان الأسد يصرّح به في وقت سابق.
قد تكون دعوة فيدان لدمج قوات النظام والمليشيات المسلحة السورية البديل النظري عن تحصّل تركيا على إحدى الموافقتين (الروسية أو الأميركية) لشن حربٍ على مناطق سيطرة الإدارة الذاتية. إلّا أن المؤشرات، رغم وعيد الرئيس التركي بأن تشهد منطقة شمال شرقي سوريا «صيفاً ساخناً»، لا تؤيّد أيّ المنحيين. إذ لا مؤشرات عن استصدار موافقة روسية أو أميركية لشن هكذا حرب. ولا إمكانية كذلك في دمج قوتي الصراع في سوريا حتى على الورق. وبالتالي، فإن مؤدّى تصريح فيدان هو لغاية تجديد جوهر الشراكة مع روسيا و طمأنتها على سَرَيان اتفاقاتهما السابقة، خاصة إذا ما نظرنا إلى تصريحه بعيد الزيارة والإشادة بالتفاهم مع روسيا باعتباره أتاح الوصول لتراجع الحرب.
لا يبدو أن في جعبة فيدان ما هو جديد خارج ما سعى وفشل فيه سلفه مولود جاويش أوغلو في آواخر فترة وزارته، حتى وإن أبدت دمشق قبولاً مشروطاً بمبادرات المصالحة، ذلك أن النظام السوري يعوّل بدرجة أكبر على عامل الوقت وحدوث تبدّلات داخل المشهد الداخلي التركي، بدل المراهنة على تغيّر سلوك الحكومة التركية الحالية.

مبادرة السوداني: الوساطة الاستعراضيّة

كشف رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني مطلع يونيو/حزيران الجاري عن قيامه بوساطة بين الأسد وأردوغان. يبحث السوادني، بعد إبرامه سلّة من التفاهمات مع تركيا في إبريل/نيسان الماضي، عن دور فاعل لحكومته في المحيط الإقليمي، رغم ما يستصحبه الاضطلاع بهكذا أدوار من تندر سياسي في بغداد، إذ سبق أن أعلنت حكومة السوداني عزمها تخفيف حدّة التوتر بين طهران وواشنطن دون تحقيق أي شيء يذكر أو حتى تجنيب العراق ارتداد المواجهات بينهما. ما يدركه السوداني أن جوهر مشكلة المصالحة ليست فنيّة، أي جلوس النظامين السوري والتركي على طاولة واحدة، إنما هي في طبيعة مطالب البلدين.
لا يُتوقع من مبادرة السوداني أن تحقق ما عجزت عنه روسيا. إذ تخلو أوراق الوسيط العراقي من المغريات التي يمكن أن تقود لتيسير عملية المصالحة. فإذا استثنينا مشروع «طريق التنمية» الذي يبدو أقرب لمشروع غير جذّاب حتى للأتراك أنفسهم، لا تحتكم حكومة السوداني على أيّ قدرة لاستمرار وساطتها، إلّا إذا كانت تروم من وراء المصالحة تعديل خرائط تنفيذ المشروع وتمرير جزء منه عبر الأراضي السورية لتجنّب المرور بأراضي إقليم كردستان، وهو في هذه الحالة قد يتورّط في استعداء كرد العراق وسوريا على السواء. فضلاً عن أن الشروع بتعديل مسودة خريطة المشروع يحتاج إلى موافقة أميركية. والأهم من كل ذلك، أن مشروع الطريق قد ينضم إلى أخوته من المشاريع التي بقيت حبراً على ورق، والتي سعت الحكومات العراقية منذ عهد نوري المالكي إلى الترويج على أنها مشاريع ذات سمة إقليمية قد تغيّر من واقع العراق، وهو ما يقوله السوداني عن مشروعه.

في مجمل الأحوال، يبدو أنه مهما تعددت اللقاءات أو بذل الوسطاء من جهود للتقريب بين دمشق وأنقرة، فإن ما يتحكّم فعلياً بمسار المصالحة هو الشرط الداخلي لكلا البلدين. فكما أن عدول تركيا عن فكرة الخروج من الأراضي السورية يبدو مستحيلاً بالنظر إلى طبيعة التحالف الحاكم، وهو ما أكّد عليه أردوغان في تصريحه الأخير الذي قال فيه إن تركيا لا يمكن تبقى «حبيسة» حدودها بما يعكسه هذا الرأي الصريح لمشاريع التوسّع التركية، فإن دمشق أيضاً يستحيل أن تتقبل فكرة المصالحة في ظل التواجد العسكري التركي على ما اعتبرته شرطها الأساسي للمصالحة، إلى جوار كف يد تركيا عن دعم جماعات المعارضة المسلحة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد