الرؤساء الإيرانيون في عهد خامنئي
محمد سيد رصاص
عند وفاة الخميني في يونيو/حزيران 1989، كان الرئيس علي خامنئي أضعف في خريطة السلطة الإيرانية من رئيس مجلس الشورى هاشمي رفسنجاني ورئيس الوزراء مير حسين موسوي. في تلك اللحظة السياسية، لجأ رفسنجاني، الذي كان يسمى صانع الملوك، إلى ترشيح خامنئي ليكون المرشد. وكان تفكيره، مثل تفكير الكثير من القادة البلاشفة عند انتقاء ستالين خليفة للينين أو في حالة مصر عند انتقاء السادات خليفة لعبدالناصر من قبل المقربين من الرئيس الراحل، أن يحكم من وراء ستار شخص ضعيف في الواجهة. واشترط لإتمام الصفقة مع خامنئي إجراء تعديل دستوري يلغى فيه منصب رئيس الوزراء ليكون هو الرئيس المقبل للجمهورية والحكومة معاً مثلما هو معمول به في النظام الرئاسي الأميركي، وهو ما وافق عليه خامنئي الذي ظل لثماني سنوات خلت على احتكاك دائم مع موسوي المدعوم في سياساته الاقتصادية زمن الحرب مع العراق من الخميني. وعندما أبعد موسوي في صفقته مع رفسنجاني كان خامنئي يريد تحقيق انتقام مؤجل من شخص فرض عليه كرئيس للجمهورية من مجلس الشورى بعد أن أسقط هذا الأخير مرشحه لرئاسة الوزراء علي أكبر ولايتي.
ولكن رئيس الجمهورية رفسنجاني 1989-1997 فوجىء بأن المرشد خامنئي غير رئيس الجمهورية خامنئي. فخامنئي امتلك من خلال التحالف مع الحرس الثوري، المتمدد في مفاصل الاقتصاد والأمن والإدارة والثقافة والممتد إلى عمليات في الخارج مع منظمات حليفة لإيران، اليد العليا في السلطة الايرانية. واستطاع من خلال ذلك تهميش رئيس الجمهورية ومجلس الشورى، واتجه نحو الاعتماد على مؤسسات تتبع له مثل «مجمع تشخيص مصلحة النظام» و«مجلس صيانة الدستور» والكثير من الوزراء الايرانيين الذين أتوا منذ التسعينيات من مؤسسة الحرس الثوري، خاصة في المناصب الحساسة مثل وزارتي الداخلية والخارجية.
وحتى عندما فوجىء خامنئي بفوز الإصلاحي محمد خاتمي في الانتخابات الرئاسية عام 1997، وهو الذي احتك مع التيار الأصولي حينما كان وزيراً للثقافة، فإنه جعله مثل سلفه رفسنجاني، أي رئيس للجمهورية بدون سلطة فعلية طوال ثماني سنوات لاحقة. وفي الاختبار الصعب لخامنئي عندما حصلت التظاهرات الطلابية في المدن الكبرى الثلاث: طهران، أصفهان، تبريز في صيف 1999، وهي أول هزة اجتماعية كبرى ضد سلطة الجمهورية الإسلامية منذ 1979، كان تفكيره قريباً من تفكير الزعيم الصيني دينغ سياو بينغ أثناء اعتصام الطلاب في ساحة تيان آن مين عام 1989. فطبق مقولة فريدريك إنجلز: «الخسارة هي مصير أية حكومة تسمح لحركة معادية تتطلع إلى إسقاطها بالعمل في إطار القوانين أو في أن تكون قوة أمر واقع». وأنزل الدبابات للعاصمة الصينية وقمع الطلاب وأطاح بعد أسابيع بأمين عام الحزب الشيوعي زهاو زيانغ المؤيد للطلاب. وكان دينغ يومها يفكر بميخائيل غورباتشوف الذي تنطبق عليه مقولة إنجلز وكان يظن بأن زهاو هو غورباتشوف صيني وبأن الحركة الطلابية هي نقطة انطلاق لحراك شبيه بالبيريسترويكا السوفياتية، بينما كان خامنئي على الأرجح يريد تكرار تجربة دينغ ضد «زهاو زيانغ الإيراني». ولكنه بعد أن قمع الطلاب بعنف، لم يعزل خاتمي بل تركه حبيساً في منصبه بدون سلطة حتى أتى برئيس للجمهورية على قياسه في عام 2005 هو أحمدي نجاد، من الأصوليين- المحافظين، مع سجل إداري ناجح في بلدية طهران، في ظرف أحس فيه خامنئي بأن مكاسبه في عراق ما بعد صدام حسين تتيح له رفع السقف مع واشنطن من خلال استئناف البرنامج الايراني النووي في تخصيب اليورانيوم وهو ما أعلنته إيران في أغسطس/آب 2005 بالترافق مع تولي نجاد مهام منصبه الجديد. في الانتخابات الرئاسية في يونيو/حزيران 2009، ترشح خصم خامنئي القديم، أي ميرحسين موسوي. وعندما أعلن فوز نجاد، انطلقت تظاهرات بمئات الآلاف في شوارع طهران ضد ما قال المتظاهرون إنه تزوير للنتائج، في اضطراب اجتماعي هو الأكبر الذي واجهته سلطة الجمهورية الاسلامية الإيرانية منذ سقوط الشاه عام 1979. اهتزت مفاصل السلطة الايرانية لأيام. ولكن عندما وقف خامنئي خطيباً في صلاة الجمعة الأولى بعد خمسة أيام من بدء التظاهرات، كان واضحاً أنه من
معدن لا يلين وأنه لا يقبل الحلول الوسط وقادر على الوقوف بوجه العواصف القوية. وكان خطابه ذاك إشارة الانطلاق إلى قمع عنيف للمتظاهرين وإلى تسكين بالقوة القاهرة لقوة اجتماعية تشمل غالبية المدن الكبرى الثلاث: طهران وأصفهان وتبريز، أتت عبر التظاهرات وصناديق الاقتراع في تلك المدن من خلال فئات الشباب من الجنسين والأكثر تعليماً، فيما اقترع غالبية الريف والبلدات الصغيرة لنجاد. في أيام «الثورة الخضراء»، ظهر خامنئي حامياً لنجاد. وهو كان أول رئيس جمهورية قريب منه في عهده كمرشد. ولكن خامنئي وقف بوجه نجاد مع بداية 2011 عندما أظهر الأخير ميولاً قومية فارسية أراد مزجها بالهوية الإسلامية، بينما الأول من أصول أذربيجانية، في وعي منه بأن الجمهورية الإسلامية الإيرانية بشعوبها الخمسة وحيث الفرس هم الأقلية الكبرى، لا تعيش على القومية الفارسية بل ستكون ناراً تحرقها. كما أن ذلك يفقد طهران السلاح الأيديولوجي سواء في شكله الإسلامي الشيعي أو شكله الإسلامي العام الذي يجعل حركات إسلامية سنية لا تجد عائقاً من أن تكون في خط التلاقي مع إيران.
هنا، يجب التفكير في تعايش خامنئي السلس مع الرئيس الإيراني الاصلاحي حسن روحاني 2013-2021 من خلال مفتاح اسمه الاتفاق النووي بين واشنطن وطهران عام 2015، والذي لم يكن فقط مدخلاً إلى رفع العقوبات الدولية عن طهران في معظمها بل كان أيضاً بمثابة اعتراف أميركي بمكاسب إيران الإقليمية مقابل تقييد طهران برنامجها في تخصيب اليورانيوم.
كان انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي عام 2018 بمثابة صدمة لخامنئي. وكان تشدده في العقوبات الاقتصادية وفي سياسة الصدام مع طهران، التي وصلت حد قتل اللواء قاسم سليماني عام 2020، مؤدياً إلى وضع ظهر طهران في الحائط . بالتأكيد، أن هزيمة ترامب في الانتخابات في 2020 ومجيء جو بايدن، الذي أعلن خلال حملته الانتخابية أنه سيعيد إحياء الاتفاق النووي، أراحت خامنئي. ولكن سلوكه في مفاوضات إحياء الاتفاق النووي في فيينا بين أبريل/نيسان 2021 وأغسطس/آب 2022، أوحى بأنه لا يريد العودة إلى ذلك الاتفاق بل الوصول إلى العتبة النووية وربما القنبلة. ويبدو أن ما أقدم عليه ترامب، دفعه إلى عدم الثقة بأي اتفاق مستقبلي مع واشنطن. أو لربما أن إفشالة المفاوضات كان جراء قراءة لديه بأن هناك ضعفاً أميركياً في ظرف تحالف صيني- روسي بعد الحرب الأوكرانية في 2022، وأن مكان طهران، التي بدأت إرسال المسيّرات والصواريخ لروسيا بعد فشل مفاوضات فيينا، هو أن تكون ثالث ذلك التحالف الصيني- الروسي الذي يقول بأنه يريد عالماً متعدد الأقطاب بعيداً عن الأحادية الأميركية.
كان هناك مؤشر آخر على تفكير جديد عند خامنئي عندما كان القوة الدافعة وراء مجيء رئيس جمهورية هو الأكثر تشدداً في عهده من الناحية الأيديولوجية هو إبراهيم رئيسي في عام 2021، والذي كان انتخابه في الشهر الثاني لبدء مفاوضات فيينا لإحياء الاتفاق النووي مؤشراً على تشدد إيراني بعيد عن مزاج ما بعد روحاني ووزير خارجيته جواد ظريف الذي أفضى لاتفاق 2015 النووي، خاصة أنه أرسل علي باقري ليترأس الوفد المفاوض في فيينا وهو الذي كان صوّت في مجلس الشورى الإيراني ضد التصديق على اتفاق 2015.
ولكن الأبعد من ذلك أن دفع خامنئي لرئيسي إلى الرئاسة كان من أجل تكرار سيناريو عام 1989 عندما أتى المرشد من منصب رئيس الجمهورية. وعلى الأرجح أن خامنئي يقدر بأن وضعه يشبه وضع ليونيد بريجنيف 1964-1982، الذي كان الاتحاد السوفياتي يعيش في ظله نجاحات في السياسة الخارجية ولكن بالترافق مع اقتصاد ضعيف ونقمة اجتماعية كامنة. ولكن عندما مات وأتى رئيس إصلاحي مثل غورباتشوف 1985-1991، انهار الوضع الداخلي بعد انكشاف الهوة بين غالبية المجتمع والسلطة. وأراد خامنئي من خلال رئيسي أن لا يكون هناك غورباتشوف إيراني، بل متشدد أصولي- محافظ من بعده يمسك المكابح وله تجربة في القمع العنيف تجاه مجتمع تدل كافة المؤشرات على أن غالبيته تريد مساراً آخر غير الذي انطلق في إيران في فبراير/شباط 1979.
السؤال الآن: كيف ستكون إيران في فترة ما بعد موت المرشح الأقوى لخلافة خامنئي؟