هل حقّاً هي «صفحة جديدة» بين طهران وأربيل؟ 

شورش درويش 
باتت إيران تتعامل مع كردستان العراق كصندوق بريديّ في أفضل الأحوال. فهي عندما تشتبك مع السياسة الأميركية، فإنها سرعان ما ترسل مسيّراتها وصواريخها لضرب المنطقة الكردية، وإلى شنّ هجمات على قوات سوريا الديمقراطية في الجانب السوري. وفي حالة تحسّن علاقاتها أو اتجاهها نحو التهدئة مع واشنطن، تقوم بزيارة الإقليم أو تستضيف ممثليه وتتوقف عن استخدام لغة المسيّرات والصواريخ.
خلا مسألة «الصندوق البريديّ»، تحتكم السياسة الإيرانية، مثل مثيلتها التركية، على إمكانية الفصل بين الاعتراف بالكيانية السياسية والدستورية لكرد العراق من جهة، وتنامي عمليات قمع أكرادها داخلياً. ففي جوهرها، لا تنطلق السياسة الإيرانية من فكرة الاحترام المتبادل أو التفكير بالعوائد الاقتصادية جرّاء العلاقة بالإقليم بقدر ما تهتم بمشاكسة- أو العكس تماماً- التفاهم مع الأمريكيين عبر أحد مختبرات العلاقة بين الدولتين، والذي هو إقليم كردستان في هذا الوقت. ويغلّف الرسميون الإيرانيون لمطالبهم بمسائل أمنيّة من قُبيل إبعاد الأحزاب الكردستانية «الإيرانية» المناوئة لها عن الحدود العراقية الإيرانية، وهو ما تحقّق بالفعل قبل زيارة رئيس إقليم كردستان نيجرفان بارزاني. أو من خلال طرح مسائل ضبط الحدود والتهريب والهجرة غير الشرعيّة، وهي بمجملها مسائل ذات طابع فنّي لا تحتاج إلى إجراء مباحثات رسمية.
العلاقة المتوترة مع الإقليم، التي دخلت صفحتها الجديدة، انعكست مباشرةً على الداخل العراقي مع تراجع المحكمة الاتحادية عن بعض قراراتها، الأمر الذي أبرز ثقل إيران داخل العراق. فعربون الصداقة أو الهدية الإيرانية جاء عبر تراجع المحكمة الاتحادية العراقية العليا عن بعض قراراتها التي أضرّت بتموضع الحزب الديمقراطي الكردستاني وأربكته في بغداد والإقليم على حدّ سواء، إذ تزامنت «الهدية» مع زيارة رئيس الإقليم طهران الأسبوع الفائت، حيث أصدرت الاتحادية أمراً ولائيّاً بإيقاف آلية توزيع مقاعد برلمان الإقليم والتراجع تالياً عن قرار إلغاء «كوتا» الأقليات الإثنية وتقليل عدد النواب إلى 100 نائب. واستصحب الأمر رد فعل من غريم الحزب الديمقراطي، الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي يجري زعيمه بافل الطالباني زيارة إلى واشنطن، في ظل حالة استقطاب كردية فرضت على اللاعبين الرئيسين تغيير قواعد اللعبة بعض الشيء أو التعديل عليها من خلال الزيارات المتسارعة للدول النافذة في الملف العراقي.
من شأن إعادة المحكمة الاتحادية النظر في قراراتها، منح الديمقراطي الكردستاني فرصة قويّة لتأجيل موعد الانتخابات المزمع إجراؤها في العاشر من الشهر المقبل، وهو ما دفع بالغريم التقليدي، الاتحاد الوطني إلى تقديم شكوى للمحكمة الاتحادية تضمّنت اعتراضاً على رغبة رئيس وزراء الإقليم مسرور بارزاني تأجيل موعد الانتخابات. لكن رغم الشكاوى والاعتراضات الكردية المتبادلة، فإن ما يدركه الأفرقاء الكرد هو أن ساعة المحكمة الاتحادية ما تزال معقودة على معصم طهران، فهي وحدها القادرة على التأثير على مجمل القرارات العراقية التي تخصّ الإقليم، إذ سبق لمراقبين كرد أن وصفوا قرارات المحكمة بأنها «مسيّسة». ولئن كان تسييس القرارات لا يخلو من بصمة إيرانية، فإن الطريق الأقصر لإبطال مفعول هذا التسييس بات يكمن في التفاهم مع إيران، دون البحث عن مبررات قانونية مع بغداد لا تقدّم ولا تؤخّر في ظل حالة الاستلاب السياسي المشهودة للعراق.
قد يكون الاتحاد الوطني الكردستاني أبرز الخاسرين من حالة الوئام بين طهران وأربيل إذا لم تؤخذ مصالح السليمانية بعين الاعتبار. كما أن تراجع المحكمة الاتحادية سيعيد تقوية مركز الديمقراطي الكردستاني ويدفع به للواجهة. لذلك، قد يأتي إرضاء طهران للاتحاد الوطني على شكل ما عجزت عن تحقيقه واشنطن وهو إعادة رسم العلاقة بين الحزبين الكرديين وتصويب العلاقة المختلّة منذ تهدم «الشراكة الاستراتيجية» بينهما. وإلّا، ستُلحق سياسة انفتاح طهران على الحزب الديمقراطي وتجاهل مصالح الاتحاد الوطني طعنة نجلاء للسليمانية التي كانت تتطلّع إلى مرحلة جني ثمار قرارات المحكمة الاتحادية والعودة إلى داخل المشهد السياسيّ الكردستاني بقوّة.
ولعل زيارة بافل الطالباني لواشنطن وإصراره على إجراء الانتخابات البرلمانية في موعدها، يعكس عمق الهوّة بين الحزبين الكرديين وجعل تحديد موعد الانتخابات سقف التحدي الراهن. فيما جاءت تصريحات الطالباني فيما خص تكرار رفضه أن يتحول الاتحاد الوطني إلى أداة في قهر الكرد الآخرين، في إشارة لرفض مدّ يد العون لتركيا في حربها على حزب العمال الكردستاني، تأكيداً على رفض فكرة تخفيض المشكلات مع أنقرة على حساب التورّط في حرب كردية وجعل السليمانية تالياً مخفراً تركيّاً متقدّماً.
يمنح ابتعاد الأحزاب الكردستانية عن الخوض في نقاش داخلي معمّق فيما خص إعادة رسم الشراكة وإحياء نهج التوافق السياسي، كلّاً من بغداد وطهران نفوذاً أعمق داخل الإقليم والاستفادة من التناقض الداخلي الكردستاني بالشكل الذي يؤجج الخلافات دون محاولة حلّها، ويفقد الأطراف الكردية هامش استقلال القرار الكردي، حتى وإن دفعت واشنطن باتجاه تجسير الهوّة بين الحزبين الرئيسيين.
من المبكّر الحديث عن عدول إيران عن سلوكها بلا أي مبرر يخصّ مصلحة نظامها، وأن «صفحة جديدة» فتحت بين طهران وأربيل، ذلك أن الموقف الإيراني قائم على أساس اعتماد التهدئة مع الولايات المتحدة، وهو ما يُلاحظ من خلال كفّ المليشيات التابعة لها عن وقف هجماتها على الأصول الأميركية في المنطقة، واتخاذ إدارة جو بايدن مواقف رافضة لسياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو فيما خص إطالة أمد الحرب في غزة واتساع نطاقها، وداخل هذا الوئام الإيراني- الأميركي في الشرق الأوسط، قد يصبح دور واشنطن أقرب لأدوارها في عراق ما بعد صدام حسين حين منحت طهران حرية الحركة في رسم المشهد السياسي داخل بغداد. لكن هذه المرّة، سيكون لطهران دور حسّاس داخل الإقليم، وبموافقة أميركية، على أن يكون هذا الدور بالغ الدقة بحيث لا يستجلب غضب حزب كرديّ إزاء تقريب حزب آخر. هذا فضلاً عن إمكانية إنحدار العلاقة الإيرانية مع الإقليم إلى حيث تعيد طهران سياسة تهديد أمن الإقليم مجدداً. وهذه المسألة، رهينة بصمود حالة الوئام الإيرانية الأميركية التي تتجاوز سلوك اللاعبين الكرد في الإقليم.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد