تركيا والقضية الفلسطينية: أكذوبة الدعم الكبرى
د.محمد نورالدين
أكثر من مئتي يوم مرت على عملية «طوفان الأقصى» التي نفذتها حركة حماس ضد إسرائيل وما تلاها مباشرة من عدوان إسرائيلي واسع جرف الحجر والبشر والنساء والأطفال وأودى حتى الآن بأكثر من 35 ألف ضحية وعشرات آلاف الجرحى وتهديم 80 في المئة من بيوت قطاع غزة.
كان «طوفان الأقصى» مفاجأة غير سارة لتركيا. فهي كانت لا تزال خارجة من إتمام مصالحات «مالية» مع كل من السعودية والإمارات وإسرائيل، وفي صدد محاولة استكمال المصالحة مع مصر، فيما العلاقة مع الولايات المتحدة تتداخل فيها عوامل الاقتصاد بالأسلحة والشراكة في حلف الناتو.
لم يتردد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ البداية في اتخاذ موقف «محايد» بين إسرائيل و«حماس». الطرفان برأيه يقتلان المدنيين، وعلى الطرفين أن يتحليا بالهدوء وعدم تصعيد الأمور. كانت رسالة أردوغان واضحة: نحن لا نريد ان نخرّب المصالحات التي تمت ودفعنا من أجلها تنازلات كثيرة، منها اعتبار عمليات المقاومة في الضفة الغربية ضد الإسرائيليين «إرهابية وشنيعة» (2 أبريل/نيسان 2022). كانت رسالة أردوغان أن أي تخريب لهذه المصالحات يعني المزيد من الانهيار الاقتصادي وبالتالي تآكل شعبيته.
يعرف أردوغان جيداً ان المشكلة الفلسطينية لم تكن نتيجة «طوفان الأقصى». منذ العام 1967، لم تلتزم إسرائيل بتنفيذ أي قرار من الأمم المتحدة يفرض عليها الانسحاب رغم أن جامعة الدول العربية عرضت عليها في قمة بيروت عام 2002 الانسحاب من الضفة الغربية وغزة وإقامة دولة فلسطينية فيهما على أن تكون القدس الشرقية عاصمة لها، مقابل اعتراف كل العرب بإسرائيل والتطبيع الكامل للعلاقات معها. لكن إسرائيل رفضت العرض الخيالي هذا لأنها لم تكن تريد منح الفلسطينيين أيا من حقوقهم وتريد أن تكون الضفة وغزة جزءاً من اسرائيل الكبرى وخالية حتى من الفلسطينيين. وهذا كان أحد أهداف العدوان على غزة، أي تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء قبل أن تنتقل إسرائيل في مرحلة لاحقة الى محاولة تهجير سكان الضفة الى الأردن.
تجاوزت ردة الفعل الاسرائيلية على العملية الحد الأقصى من الدم واقتلاع الأخر ومحاولة إلغائه من الوجود.
مع ذلك، كان بإمكان الرئيس التركي أن يواصل حياده على امتداد الحرب. بعد أسبوعين على انطلاقها، غادر أردوغان حياده النظري ليوجه إلى رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو نعوتاً على غرار أنه تجاوز هتلر في إجرامه وتعهد بالتشهير بإسرائيل كمجرمة حرب في المحافل الدولية.
معروف عن الشعب التركي أنه مؤيد للقضية الفلسطينية عموماً، بل يحمّل اليهود وتيودور هرتزل المسؤولية على إسقاط الدولة العثمانية حتى يتسنى لبريطانيا، بناء على وعد بلفور عام 1917، إقامة دولة يهودية لهم في فلسطين، وهو الأمر الذي حصل في العام 1948.
لم يكن الدعم الشعبي للفلسطينيين خلال الحرب بالمستوى المتوقع. غابت احتجاجات غالبية القاعدة المتدينة لحزبي العدالة والتنمية والحركة القومية. هم يثقون بالزعيم ولا يريدون أن يذهب ضحية لـ «مؤامرات» العلمانيين الذين يريدون العودة للسلطة ويعيدوا الإسلاميين إلى دائرة التعسف. كان أردوغان يثق بأن أي شيء يفعله سيجد قبولاً لدى قاعدته حتى لو كان السكوت عن إسرائيل وحربها. تجسّد السكوت الأردوغاني هذا في أكثر من خطوة.
أولاً، كان يسمح للشركات التركية، ومعظمها مقرب منه، بمواصلة التجارة مع إسرائيل. تحولت التجارة مع إسرائيل، داخل تركيا، إلى العنوان الأكبر للاحتجاجات ضد أردوغان.
على امتداد مئتي يوم، كانت ثماني سفن تركية على الأقل تغادر يومياً الموانئء التركية إلى الموانىء الاسرائيلية، محملة بكافة المنتجات. البيانات التي كانت تنشرها الوزارات والمجالس المختصة كشفت تصدير مئات المنتجات وفي مقدمتها الفولاذ والنحاس والحديد والاسمنت والأسلاك والبارود والنسيج والخضار والفاكهة والمياه، فضلا عن استمرار توريد النفط الأذري عبر تركيا إلى إسرائيل.
وأصبح وزير التجارة عمر بولات مادة للسخرية عندما حاول تبرير كل ذلك أمام الرأي العام. أولاً عندما قال بأن التجارة مع إسرائيل منذ بدء الحرب تراجعت بنسبة 35 في المئة. وتبين في الأرقام الرسمية أنها تراجعت فقط 16 في المئة. بل إنها عادت في مارس/آذار الماضي الى المستوى الذي كانت عليه تقريباً عشية الحرب. في سبتمبر/أيلول 2023، بلغت صادرات تركيا إلى إسرائيل 499 مليون دولار وتراجعت في أكتوبر/تشرين الأول إلى 348 مليون دولار، ثم عادت إلى الارتفاع تدريجياً وبلغت في مارس/آذار 2024 مبلغ 437 مليون دولار. فكيف نقول انها تراجعت؟. وثانياً عندما قال إن الصادرات التركية تذهب الى غزة ولكن عبر إسرائيل. ليتبين أن المنتجات المصدّرة خصيصاً إلى غزة لا تتعدى أربعة في المئة. مسرحية غزة استمرت في تركيا مع قرار تقليص المنتجات التي تصدّرها إلى إسرائيل. والقرار اتخذ في 8 أبريل/نيسان على أن ينفذ فوراً. بلغ عدد المنتجات المقلّصة 54 نوعاً من الحديد والفولاذ الى الاسمنت والكابلات. ولكن هذا أيضاً لم يكن قراراً جدياً. استمرت السفن بالابحار الى موانئ إسرائيل واستمرت المنتجات بالتدفق على إسرائيل مباشرة أو عبر حيل اخرى من طريق دولة ثالثة. عدا ذلك، ماذا عن المنتجات الأخرى غير تلك الـ54 والتي تقدر بالمئات؟ هل إذا توقفت تركيا عن تصدير الكابلات مثلاً تتحلل من مسؤوليتها؟ وهل إذا واصلت تصدير منتجات أخرى مثل الخضار والفاكهة على سبيل المثال لا تكون شريكة في دعم الحرب؟
أكثر من ذلك، أغرقت صحيفة «يني عقد» الإسلامية الموالية لأردوغان الرأي العام في أكذوبة مكشوفة حينما تكتب في مانشيتها الرئيسي بتاريخ 8 أبريل/نيسان أن «التجارة مع إسرائيل كذبة كبيرة»، معتقدة أن الرأي العام التركي أو العربي أو الإسلامي غبي إلى هذه الدرجة. وبعد كل ذلك، يخرج مراد قوروم وزير البيئة السابق ومرشح أردوغان لرئاسة بلدية اسطنبول ليقول عشية الانتخابات البلدية في 31 مارس/آذار الماضي، وفي استغلال واضح ومقيت للقضية الفلسطينية: «إذا صوتم لنا فسيفرح أطفال غزة». نعم سيفرح أطفال غزة عندما تمتنع تركيا عن تزويد الإسرائيليين بالماء ووقود الطائرات وسيفرحون عندما يتلقون زجاجة ماء ورغيف خبز من تركيا. لكن الواقع ان أطفال غزة فرحوا بالتأكيد حينما تلقوا أنباء هزيمة قوروم أحد أبناء ماكينة كذب حزب العدالة والتنمية.
إن هذه الأمور واضحة وضوح الشمس في كبد السماء. لكن «بش تبه» (قصر الرئاسة في أنقرة) لم يكن يرى سوى المال الذي سوف توفره المصالحات وعمليات التطبيع مع إسرائيل كما المصالحات مع السعودية والإمارات، والتي تتيح لأردوغان البقاء في السلطة والفوز في الانتخابات. وقف أردوغان على الحياد السلبي ولم يكن يريد إغضاب أحد.
كان «الحياد» ضرورياً لتركيا إلى درجة أن نائب رئيس حزب العدالة والتنمية نهاد زيبقتشي صرح أن إدانة إسرائيل شيء والتجارة شيء آخر. بل خرج نائب آخر هو ناجي شانلي تورك، من حزب الحركة القومية الحليف لإردوغان، يقول: «داخلنا يبكي دماً. والله لو كان بإمكاننا لتدخلنا ضد إسرائيل. والله كنا تدخلنا. لكننا لا نملك القوة ولا نملك سوى الإدانة. ورئيس جمهوريتنا كما رئيس حزبنا (دولت باهتشلي) يقولان أشياء جميلة وهو أن إسرائيل ستغرق قبل حلول يوم القيامة»!
كان شانلي تورك يريد أن يقول إن تركيا قوية بما فيه الكفاية لكي ترتكب أولى إبادات القرن العشرين بقتل مليون ونصف المليون أرمني عام 1915، وقوية بما فيه الكفاية لكي ترتكب المجازر العرقية بحق الأكراد في تركيا أعوام 1925 و1931 و1936، وقوية بما فيه الكفاية لكي تواصل إنكار الهوية الكردية وأن تصنف مع الولايات المتحدة حزب العمال الكردستاني “منظمة إرهابية” وهو الذي يختصر تطلعات الشعب الكردي في تركيا وخارجها. وأيضاً، قوية بما فيه الكفاية لكي تحتل أجزاء واسعة من شمال سوريا وكردستان العراق وأن تمارس التطهير العرقي ضد الكرد في تلك المناطق منعاً لإقامة «ممر كردي». لكن تركيا هذه بقضها وقضيضها، برأي ناجي شانلي تورك وغيره، عاجزة وأضعف من أن تتدخل في غزة.
في الواقع، لم يكن أحد يريد من تركيا أن تتدخل في غزة، وهي أصلاً لا تريد ذلك. كان المطلوب فقط بعضاً من حفظ ماء الوجه تجاه ما يتعرض إليه الفلسطينيون. لكن للأسف، سقط أردوغان في امتحان التاريخ ونصرة الضعفاء والحق والعدل والأخلاق. لم يكن المطلوب إعلان الحرب على إسرائيل ولا إرسال قوات لحماية الفلسطينيين. كان المطلوب حد أدنى من تخفيض العلاقات أو وقف التجارة وبعض الإجراءات الأخرى التي تدخل في باب «الضحك على اللحى». لكن حتى هذه الخطوات، تلكأ إردوغان عن القيام بها.
دائماً ما كان أردوغان، ومعه أحمد داود اوغلو وعبدالله غول، يتحدثون عن انحيازهم إلى جانب الشعوب المظلومة على حساب العلاقات مع الأنظمة. هكذا فعلوا مع سوريا والعراق ومصر وتونس وغيرها، وفق تصوراتهم. لكن امتحان غزة كان قاسياً جداً على إسلاميي حزب العدالة والتنمية، وكان جديراً بأن يحصل. ومقولة وزير الدعاية النازية جوزف غوبلز لم تعد تسري على غزة. فتكرار الحجج والأكاذيب لم تنطل على أحد. الصورة واضحة: هناك شعب فلسطيني يتعرض إلى القصف وهناك نظام تركي لا يتفرج فقط بل يوفر أدوات القصف. انتظرته جنوب أفريقيا طويلاً ليتقدم بالدعوى أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي. وعندما أدركت أنه لن يجرؤ على تقديم الشكوى، تولت بنفسها هذا الدور، ليطرح كثيرون تساؤلات عما إذا كانت جنوب أفريقيا دولة مسلمة، على الرغم أن في هذا التساؤل مغالطة شنيعة وهي أن حماة الإنسانية والمقهورين لا دين لهم، فهم موجودون في شوارع أوروبا وجامعات الولايات المتحدة، وأن خذلة الحق والعدالة لا دين لهم أيضاً وهم كذلك موجودون بكثرة في شوارع «الأمة العربية الواحدة» ومعظم دول «الأخوة والتعاون الإسلامي».
المصيبة لا تقف هنا. فإذا كان حزب العدالة والتنمية، لا سيما بشخص رئيسه، نموذجاً لازدواجية المعايير تجاه غزة، فإن المعارضة لا تقل سلبية من الموقف من القضية الفلسطينية.
فزعيم حزب الشعب الجمهوري الجديد أوزغور أوزيل اعتبر أكثر من مرة بعد انتخابه في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أن حركة حماس منظمة ارهابية وما فعلته كان عملاً إرهابياً. وحاول في الوقت نفسه تمرير هذا الموقف بقوله إن إسرائيل أيضاً دولة إرهابية. وحذا حذوه أكرم إمام اوغلو، رئيس بلدية إسطنبول المنتمي لحزبه، بحديث لشبكة «سي إن إن» الأميركية في 28 أبريل/نيسان قال فيه إن هجوم «حماس» على إسرائيل «أحزننا جميعاً. ونعتبر أن أي هيئة تمارس القتل الجماعي بعملية إرهابية ضد الناس هي منظمة إرهابية. وللأسف، فإن اسرائيل تطبق الشيء نفسه على الفلسطينيين