حدود إيران وإسرائيل

طارق حمو

ليس من الشمولية في الاحاطة، ولا من قيمة الحدث من حيث كونه سبقاً، أن يتم وصف الهجوم الإيراني الأخير على إسرائيل ب”ضربة حفظ ماء الوجه”، ناهيك عن وصفه ب”المسرحية” أصلاً. قد يكون من أطلق مثل هذه الأوصاف، كان يريد نتيجة لا تقل عن التدمير والسحق، وهو استسهال واضح وقراءة رغبوية للواقع، أو لعلها تعابير آتية من الفريق الآخر(والذي يضم عرباً، كما يضم غربيين)، ويرى في إيران دولة تمارس نوعاً من “التخادم السياسي” المفضوح مع اللاعبين الدوليين، قائم على تقاسم النفوذ وفق خطط وجداول مرسومة ومتفق عليها، وكل ذلك ضمن مساعي طهران في بناء قوة اقليمية مقر لها بالتمدد في طول المنطقة العربية وعرضها.
ما حدث، رغم كل الكلام والتحليل حوله، هو هجوم ايراني مباشر ولأول مرة، باستخدام مئات المسيّرات والصواريخ، استهدف إسرائيل في العمق. إنه هجوم حقيقي ومباشر بعد عقود من التهديدات والتصريحات النارية، ذروتها كانت “محوإسرائيل من الخريطة”. ورغم تصدي إسرائيل وحلفائها لتلك الصواريخ والمسيّرات واسقاط معظمها وهي في الجو، حتى قبل أن تدخل مجال جو الدولة العبرية، وتتعامل “القبة الحديدية” مع البقية الباقية، إلا أن الرسالة وصلت، وحملت معها قدرة النظام الإيراني على الاستهداف المباشر، وبمئات الأجسام الطائرة ( القادرة على حمل رؤوس متفجرة فتاكة).لم تدع طهران الاستهداف الإسرائيلي لقادة من الحرس الثوري في مقر القنصلية الإيرانية في دمشق، يمر دون رد يشكل سابقة في طريقته. إيران تريد النديّة هنا، وترغب في توطيد مكانتها كقائدة لمحور يضم دول وميليشيات تفعل فعل الجيوش النظامية وتتحكم بقدرات وساحات كبيرة. والنديّة هذه المرة اكتسبت طعماً آخراً، في ظل الحرب القائمة في قطاع غزة الفلسطيني، وعجز الدول العربية والإسلامية عن التدخل. في الحسابات الإيرانية، فإن الضربة المباشرة هذه، رسالة إلى “الأطراف” بأن “المركز” قوي وقادر بنفسه على التدخل واظهار المقدرة العسكرية التي تطوي مئات الكيلومترات لتصل إلى عمق الخصم. ورغم أن إسرائيل ضربت سابقاً في العمق الإيراني، عبر سلسلة من التفجيرات والاغتيالات التي طالت مراكز أبحاث وعلماء في البرنامج النووي الإيراني، إلا أن المناخ السائد والحرب المشتعلة في غزة، والمزاج الدولي المنتقد للتجاوزات الحاصلة بحق المدنيين، والرغبة الإيرانية في تصوير إسرائيل منهكة، كما تسوق وسائل إعلام طهران، وتلك المقربة منها، هو ما دفع إيران للتدخل وإطلاق كل أسراب المسيّرات والصواريخ البعيدة المدى هذه، وعدم الإكتفاء بالمقولة/اللازمة المعروفة “سيأتي رد الجمهورية الإسلامية في الزمان والمكان المحددين”!.
في الحسابات الإسرائيلية، تبدو الضربة الإيرانية إعلان حرب لا يغتفر. فالهجوم العسكري يهدد أمن الدولة العبرية ويلغي مقولة إنها دولة آمنة للشعب اليهودي، الذي بات يعاني خارج إسرائيل من تصاعد واضح لمظاهر العداء للسامية. الهجوم الإيراني، رغم كل ما يقال عنه وحوله (لم يستهدف الحواضر المدنية ولا المراكز الحساسة، وأبلغت طهران أميركا بمداه وحجمه، حسب تصريحات أخيرة لوزير الخارجية الإيراني أمير عبد اللهيان)، كان مرحلة جديدة من مراحل الصراع بين إيران، التي تقود محوراً معادياً لإسرائيل ولوجودها في المنطقة، وبين الدولة العبرية، التي تضع هاجس الأمن لمواطنيها على رأس أولى أولوياتها، وتعلم بأن الميليشيات المسلحة الممولة من إيران، باتت هي الخطر الاستراتيجي الأكبر عليها، وليس الجيوش العربية التي نسبت لها سابقاً شعارات مثل “رمي إسرائيل في البحر”!.
الأرجح أنّ الضربة العسكرية الإيرانية لن تمر دون رد إسرائيلي وفي العمق الإيراني. وبغض النظر عن رغبة الحكومة الإسرائيلية في تثبيت هاجس الأمن لدى المواطن الإسرائيلي عموماً واليهودي خاصة، وبالتالي جني مكاسب سياسية من وراء ذلك، فإن الاختراق الإيراني والهجوم التاريخي المباشر الأول، لن يمر بدون رد يؤكد ويوطد تفوق واقتدار الدولة العبرية على تهديدات القوى التي تعاديها. وبالمقارنة مع الهجوم الإيراني المباشر الذي حدث، والذي لم يسفر عن أي خسائر تذكر في الجانب الإٍسرائيلي، فإن رد تل أبيب قد يكون أكثر دقة ونوعيّة وفي الجانب العسكري حصراً. ويمكن استخلاص ذلك من جردة بسيطة للأهداف التي ضربتها الدولة العبرية داخل وخارج إيران.
لاشك أن الولايات المتحدة الأميركية وأطراف غربية وعربية عديدة لا ترغب في حدوث مواجهات شاملة في المنطقة، قد تنزلق إلى حرب كبيرة مفتوحة وغير منضبطة، إلا أن ما حدث كان هجوماً شكل أكثر من “رد بالمثل” في منطقة تراهن كل وحداتها السياسية على القوة والردع كأساس لضمان الأمن والاستقرار الهش. ما حدث كان خروجاً عن “قواعد الاشتباك”، ولا يبدو أن تطويقه وضبطه سينجح بالشكل الذي تريده الدول المعنية بالصراع، ناهيك أن تنجح محاولة حصره في حدود المحتمل الذي لا يشكل حدوثه مفاجأة أوحدثاً تاريخياً كبيراً…

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد