عشرون عاماً على انتفاضة 12 آذار: دور فضائية “روج تيفي” في افشال رهان النظام على الصراع الاهلي

نواف خليل وطارق حمو*
لم يكن قد مضى على انطلاقة الفضائية الكردية (روج تي في) سوى 12 يوماً. بدأت الفضائية البث في الأول من شهر مارس/آذار 2004، وكان القسم العربي يشمل نشرة خبرية يومية لاتزيد عن نصف ساعة، وبرنامجاً حوارياً أسبوعياً. في الثاني عشر من مارس/ آذار، تلقى القسم العربي اتصالات من القامشلي حول مواجهات تجري بين جمهور فريق الفتوة القادم من مدينة دير الزور، وجمهور نادي الجهاد في القامشلي. كان الخبر مفاجئاً. وتوالت الاتصالات، لتبدأ ملابسات ووقائع الحدث تتضح شيئاً فشيء. جمهور الفتوة جاء مسلحاً بالعصي والحجارة وهو يشتم القادة والرموز الكرد ويتهمهم بالخيانة، ويحيي النظام العراقي ورأسه صدام حسين الذي أسقطه الأميركان قبل ذلك بعام.
الهجوم الفعلي العنيف بدأ في مدرجات ملعب القامشلي الرياضي، حينما تعرض جمهور الجهاد إلى الضرب بالعصي والرشق بالحجارة. وتدخلت قوات الشرطة والاستخبارات السورية، لتستخدم العنف المفرط باطلاق النار مباشرة على الأهالي المتظاهرين الذين تجمعوا خارج ملعب كرة القدم، حال سماعهم بالمصادمات و”حوادث شغب سقط فيها ثلاثة قتلى” من برنامج رياضي مباشر كان يبٌث في الإذاعة السورية الرسمية. على الفور ألغت (روج تي في) البث الاعتيادي وتحولت إلى البث المباشر لمواكبة الحدث وتغطية ما يجري في القامشلي من اعتداءات على المواطنين الكرد العزل. وأوكل إلى القسم العربي متابعة الحدث وترجمة المواقف وردود الأفعال، والتغطية ضمن هدف رئيسي حددته إدارة الفضائية فوراً وهو: فضح جرائم النظام السوري، والحيلولة دون تحول الحدث إلى صدام كردي ـ عربي. كل اقسام الفضائية ( التركية والكردية والعربية والسريانية) بدأت تضع الحدث في أول سلم نشرات الأخبار، وتحوله مادة لبرامجها.
ومع سقوط ضحايا برصاص قوات الاستخبارات السورية، وانتشار المظاهرات في أغلب المناطق الكردية، وفي تجمعات الكرد في دمشق وحلب، شكل رهان النظام السوري وأدواته القمعية تحدياً جديداً للفضائية والقسم العربي فيها. كانت المهمة هي نقل جرائم قتل وقنص المواطنين الكرد، والانتهاكات الحاصلة بحق المتظاهرين السلميين، والمشاركين في تشييع جنازات الضحايا، بالاضافة إلى إشراك أكبر عدد ممكن من المعارضين والحقوقيين والكتاب السوريين العرب، بغية التنديد بقمع النظام السوري المنقطع النظير بحق المتظاهرين الكرد، ودعوة المكون العربي للتهدئة وعدم الانجرار وراء الدعاية المغرضة للنظام وأنصاره حيال الكرد، والتي لم تكن تتعدى السياقات المعهودة بـ”الانفصال” و”التعاون مع الخارج”. كانت أبواب فضائية (روج تي في) مفتوحة لكل صوت ينادي بالتهدئة والحوار، ويندد بقمع قوات استخبارات النظام ويفضح اتهاماته الكاذبة تلك. في أول أسبوعين شارك عشرات الكتاب والمفكرين والحقوقيين السوريين والعرب من غير السوريين، في نشرة الأخبار اليومية، التي كان موضوعها الأوحد: انتفاضة 12 آذار وقتل النظام السوري للكرد. وكان لصوت هؤلاء أبرز الأثر في فضح الممارسات الأمنية وتبيان زيف ادعاءاته، ودعوة المواطنين السوريين العرب إلى عدم تصديق سرديات النظام، ورفض الانجرار وراء دعوات الصدام الأهلي حسب الأوامر السرية والعلنية القادمة من ردهات استخبارات النظام.
كان التركيز في القسم العربي في (روج تي في) على شرح ملابسات وحقيقة الحدث، وإشراك الأصوات العربية، السورية منها خاصة، لفضح رهان النظام السوري على القمع ومحاولته لوي الحقائق، وتفسيره الحدث وتحميله أكثر مما يحتمل، في ظل هلعه من التغيير الذي تم في المنطقة جراء دخول الولايات المتحدة الأميركية إلى العراق وقضائها على نظام البعث هناك. كان المطلوب هو وضع الحدث في سياقه الطبيعي: وهو تهجم بعض المكلفين أمنياً من قبل النظام قادمين إلى القامشلي على المواطنين الكرد السوريين الآمنين بشكل عشوائي وبدافع عنصري. كان المطلوب كذلك هو فضح لجوء النظام إلى استخدام القوة والعنف إزاء المدنيين المتظاهرين، مما أدى لسقوط عشرات القتلى والجرحى. وفي ظل الصمت الذي لف وسائل الإعلام المرئية، الكردية منها والعربية، في أول أيام الانتفاضة، كانت فضائية (روج تي في) هي صوت الجماهير والمصدر الأول للخبر والمتابعة. كانت المشاهد التي تبثها (روج تي في)، تظهر الضحايا والجرحى وآثار الرصاص والدماء. كان المشاهد يسمع أصوات الرصاص الحي خلال مداخلات مباشرة لناشطين كرد يغطون مراسيم تشييع الجنازات.
لم يكن النظام السوري وأدواته وعقوله الاستخباراتية هو فقط من عادى (روج تي في)، ولكن أيضاً فعل ذلك البعض في المعارضة. وهنا القصد المعارضة آنذلك، وليس الجزء من النظام السوري الذي تحول لاحقاً بعد 2011 إلى “معارضة”. كان هؤلاء يطعنون في المظاهرات السلمية الكردية داخل وخارج سوريا، وينددون بدفاع الشباب الكردي عن أنفسهم أمام مقار الاستخبارات ورموز النظام. البعض اندهش من فعل منبر إعلامي انطلق فقط قبل أسبوعين، وفعل كل هذا الفعل في نقل الحدث بالصوت والصورة. البعض من مروجي نظرية المؤامرة، تحدث عن أن “كل شيء كان محضراً”، وإن “سوريا هي التالية بعد العراق”. أما الجزء من النظام إلى الذي تحول إلى “معارضة”، (وهو بالمناسبة تشكيلة واسعة من المثقفين والسياسيين والكتاب، إضافة إلى ضباط استخبارات وشرطة وجيش انشقوا!) فقد ندد وقتها بلجوء المتظاهرين الغاضبين إلى حرق مقار الاستخبارات والشرطة، بوصفها “ملكاً للشعب السوري”، ولاحقاً ندد هؤلاء بعدم حرق الكرد لمؤسسات ومنشآت الدولة، بوصفه “عملاً ثورياً” يسرع في القضاء على نظام الأسد!.
الآن وبعد مرور عشرين عاماً على انتفاضة 12 آذار 2004، يمكن القول بأن تلك الانتفاضة وتلك الاحتجاجات كانت الصرخة الأقوى في وجه النظام السوري، التي دفع المئات من الشباب الكردي حياته وحريته ثمناً لها. كانت الانتفاضة (لا) كبيرة لسنين طويلة من القمع والديكتاتورية وهضم الحقوق وسحق الحريات. ولأن هذه الصرخة جاءت من الكرد، وفي زمن كان النظام في دمشق يتحسس رأسه ويخشى من الانهيار بعد زوال نظام العراق، فقد كان هدف سلطة دمشق هو كتم الصرخة الكردية في مهدها، عبر اتهامها بـ”التبعية للخارج” و”السعي للانفصال”، لكي لا تتحول إلى صرخة سورية عامة وجارفة، تطالب بالحريات، والتحول الديمقراطي، ودولة القانون والعدالة.
كان النظام يريد عزل الكرد والاستفراد بهم، عبر تخوينهم والطعن في وطنيتهم. وكانت رسالتنا في (روج تي في) هي فضح جرائم النظام والاشارة إلى قمعه، بالإضافة إلى شرح الحقيقة للسوريين واستقطاب الأصوات الوطنية التي تشرح الحدث على حقيقته، وتعلم الشعب السوري بكذب وافتراء النظام، وتفهمه بأن التغيير الدموي سيحدث ما لم يقم النظام بالإصلاح ووضع حد لسياسته الديكتاتورية والقمعية. كان الهدف هو جعل الكرد وحقوقهم في قلب مطالب الديمقراطية والحرية لعموم سوريا والسوريين، وجعل قبول مطالبهم كبداية وإنطلاثة لإنهاء دولة القمع والظلم وانتهاك الحقوق وسحق قيم المواطنة.
حقيقة هدف (روج تي في)، وهدفنا الشخصي كذلك، كان إفشال خطط النظام السوري العنصرية والشوفينية في استهداف الكرد السوريين، مجرد كونهم كرداً فقط. وإفشال مساعي ماكينة النظام الأمنية والإعلامية في تخوين الكرد وربطهم بالخارج، وتصويرهم كطابور خامس. كان خطابنا الإعلامي يركز على تصوير الكرد بوصفهم وطنيين ورأس حربة الشعب السوري للمطالبة بالديمقراطية والحرية، وافهام الرأي العام أن الحراك الذي قام بعد قتل الشباب الكردي في 12 آذار، هو حراك سوري من أجل كل سوريا، ويهدف لإنهاء عقلية القمع والاستبداد وسلب الحقوق. والأصوات العربية التي شاركت في نقل هذه الحقائق، أثرّت كثيراً في المكون العربي، الذي فهم حقيقة نوايا النظام وأدواته القمعية، وعلم بأن رغبة هؤلاء في ضرب العرب بالكرد في محافظات الحسكة وحلب والرقة، لا تخدم سوريا ولا الشعب السوري، ولا مبادئ الجيرة والإخوة والعيش المشترك، بل تخدم فقط النظام المسؤول الأول عما آلت إليه الأمور، وتديم من سلطته القمعية. كان هدفنا هو إفشال خطط النظام وكسب الشارع العربي من خلال الأصوات المثقفة الواعية الوطنية فيه. ولهذا زاد حقد النظام على هذا المنبر الإعلامي، وعلى الفكر الذي مثله، وتضاعف البطش والقمع في السنوات والمناسبات التالية.
*نواف خليل، مدير المركز الكردي للدراسات. عمل مديراً القسم العربي في فضائية “روج تي في” خلال انتفاضة 12 آذار 2004.
*طارق حمو، باحث في المركز الكردي للدراسات. عمل معداً ومقدماً للبرامج في فضائية “روج تي في” خلال انتفاضة 12 آذار 2004.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد