النزعة القومية الكردية والعربية المبكّرة: تماثلاً واختلافاً

شورش درويش

تبنّت النخب الكردية والعربية الأفكار القومية في وقت سابق على ترسيمات اتفاقية سايكس بيكو، فيما سعت النخب القومية التركية (بعض أفراد تلك النخب كان كردي الأصل) لتحويل الدولة العثمانية، أو ما تبقّى منها، إلى كيانٍ قوميّ. شبّه عالم الاجتماع العراقي فالح عبد الجبار القوميتين الكردية والعربية بأنهما شبيهتان بالنموذجين الإيطالي والألماني لكونهما «حركة قَبْلية، أي سابقة لنشوء الدولة القومية». هذا التماثل بين الاثنيتين تفارق عن النموذج التركي الذي انطلق من موقع احتكامه/امتلاكه لكيان دولة وإن لم تكن قوميّة.
خلال أقل من عقدين، نجحت القومية التركية في التحوّل من مجرّد أطروحات مشوّشة، خاصة مع مقولات «تركيا الفتاة» (الشبان الأتراك) الداعية للجامعة أو الرابطة التركية Pan-Turkism، إلى أحد تعبيرات الدولة – الأمّة خلال مخاض حرب الاستقلال وما تبعها من مسارات حادّة مع إعلان الجمهورية عام 1923. بل أصبحت القومية التركية مهيمنة تسعى لابتلاع كل ما يقع تحت سلطتها من إثنيات مغايرة، فوق أن شكلها العرقي بدا مضطرباً لجهة اعتبار التركيّة «حركة تبشيرية». فيحسب الكرديّ أو العربيّ أو الشركسي أن يصبح تركياً بمجرد إعلانه ذلك. ستجد هذه المفارقة صداها في الكتابات المبكّرة لدى قوميين عرب مثل رائد التربية العثمانية ساطع الحصري، أو كما كان يحلو للأتراك تسميته مصطفى ساطع بيه، قبل أن ينتقل من كونه طورانياً متعصّباً لقوميّ عروبيّ. إذ اعتبر الحصري في كتاباته أن كل من يسكن الأرض العربية ويتكلّم العربية عربيٌ بالضرورة، وهو ما يقابل النزعة القومية التركية التي صيّرت بقية القوميات تركيّةً لمجرد كونها تسكن «أراضٍ تركية» أو لأنها تتكلّم التركية. وحتى أولئك غير الناطقين بالتركية سيصار إلى إدماجهم قسراً داخل هذه الهويّة التبشيرية عبر تعليمهم اللغة التركية وحظر لغاتهم القومية.
على العكس من ذلك، لم يُنظّر الكرد لقوميتهم. إذ خلا محاولات التأريخ وكتب سير الإمارات والأعلام ودواوين الشعر وإحياء الثقافة الكردية والانشغال بتحديث اللغة، لا نكاد نعثر على ما يمكن أن يسمّى بأبي القومية الكردية، أو على كتابٍ يضع إطاراً إيديولوجياً شارحاً لماهية هذه القومية وتخومها. أدت هذه المسألة إلى أن يفهم الكرد قوميتهم بشكل مبسّط لا يحتاج إلى وسيط إيديولوجيّ يرفع القومية لمصافي الهوية المقدّسة. وقد يكون تخلّف الكرد عن صناعة دولتهم في عشرينيات القرن الماضي سبباً في عدم تشكل نصوص قومية كانت ستتبناها سلطاتهم الحاكمة. أي أنه لو منح الكرد دولتهم، أو بعضاً منها، لكان بالإمكان أن تظهر القومية الكردية استيعابيةً وساعية لتذويب العناصر القومية الأخرى في إهابها. وبمعزل عن هذا الافتراض الذي يحاكي عقلية مطلع القرن العشرين، فإن القومية الكردية حاولت تدريجياً التكيّف مع أفكار الدولة الوطنية وتطوير خطابها السياسية وطرح بدائل لـ«القومية البدائية» كحلول الاعتراف الدستوري والإقرار بالتنوّع الثقافي أو الفدرالية أو الكونفدرالية الديمقراطية أو الإدارة الذاتية، بالشكل الذي يحافظ على الترسيمات الكولونيالية المتعسّفة، لكن بشرط إلغاء سياسات الهيمنة ونموذج الدولة – الأمة.
دخل العرب عصر الدولة – الأمة غير أنهم ورثوا عن الانتدابين الفرنسي والبريطاني بلاداً مقسّمة. ولئن كان الكرد لم يتحصّلوا على دولتهم، عكس العرب، فإن حالة التقسيم وضعتهم في مكانٍ مماثل للكرد الذين كابدوا جراء التقسيم الكولونيالي لنطاقهم الديمغرافي التاريخي. ويمكن كذلك ملاحظة أن الاتجاهات القومية العربية، حتى الأشد شوفينية منها، لم تبلغ مستوى التركية فيما خص جعل النظرية القومية ذات طابعٍ عرقيّ. فالقوميين الأتراك بلغوا مستوى مريعاً في هذا المضمار وابتدعوا نظريات علموية الطابع، كفحص جماجم السكان والأباطيل المورفولوجية لتحديد ملامح الأتراك الأصليين بما في ذلك الكرد والعرب وسواهم من قوميات للتدليل على أصولهم التركية الموغلة في القدم. واستند الأتراك في ذلك على مهرطقين أوروبيين حاولوا إيجاد نظريات حول اللغة التركية والعرق التركي وخصائصهما، وهو الذي سيظهر كنزعة علموية مبتذلة في أوروبا مع وصول هتلر لسدّة حكم ألمانيا.
صحيح أن الكرد أُخضعوا خلال بعض الكتابات العربية لهرطقات تتحدث عن أصولهم العربية واحتسابهم جماعة انحدرت من بطون عشائر عربية صحيحة، إلّا أن هذه الاتجاهات الثقافوية لم تتحوّل لإيديولوجية رسمية لنظامي سوريا والعراق. فقد بقيت هذه التجارب محاولات للالتفاف على فكرة الاعتراف بوجود شعب آخر يعيش مع العرب. وبطبيعة الحال كانت الرواية الرسمية التركية، بخلاف العربية، تضع الكرد في خانة الشعب الذي نسي أصوله الحقيقية، حيث الكرد هم «أتراك الجبل»، وأن العرب ما هم سوى شعب صحراويّ زحف إلى تخوم بلاد التر،ك والذين سيعرّفون على مستوى السرديات الشعبية بأنهم «الملّة الخائنة».
ولئن كان النصّ القومي عصياً على التحديث في تركيا، أي أنه لم يفارق الهوى العرقيّ، فإن العروبة انتابتها حركات تحديثية، مثل عروبة جمال عبد الناصر المتعاطفة، بل المؤيدة، للمطالب الكردية في كردستان العراق في خمسينيات القرن الماضي. كما أن عروبة ناصر كانت بحثاً عن مجال حيوي عربيّ يتجاوز مصر لمواجهة الاستعمار أو ما تبقّى منه، ولحماية المناطق الشمالية المتاخمة لتركيا بوصفها ماسّة بالأمن القومي العربيّ، بالمعنى الذي تتجاوز معه العروبة عند ناصر ما هو عرقيّ إلى ما هو ثقافيّ وسياسيّ. ورغم أن عبد الناصر تأثر بتعاليم الحصري وبشخصيته، إلّا أنه لم ينزح إلى الدعوات التي سعت لتذويب الكرد في الهوية العربية على ما قالته تجربة الوساطة بين الكرد وبعثيي العراق في القاهرة، وهو ما سنلحظ أثره الواضح في الاعترافات البعثية الأولى بوجود حقوق للشعب الكردي في العراق، قبل أن يتبنّى بعث حسن البكر – صدام حسين لسياسات «الحل الأخير» وتنفيذ الإبادات وتصنيع بدائل هشّة وكاريكاتورية لتثميل الكرد في مخاطبة بغداد، انطلاقاً من السبعينيات وليس انتهاءً بفترة حرب الخليج الثانية.
لم تجد النخب الكردية ذلك الخطر الذي يتهدد هويتها من الكيانات العربية الناشئة. ففي ربيع 1927، دعت جمعية «خويبون» في قراراتها المسطّرة في بحمدون اللبنانية إلى «تأسيس علاقات طيبة ودائمة مع حكومتي العراق وسوريا اكتفاءً بالحقوق التي خوّلتها صكوك الانتداب وغيرها من المعاهدات الدولية لكرد هذين القطرين وعدم مطالبة حكومتيهما بأي حق سياسي آخر سوى ما تقدم». وكان العرب في المقابل لا يستشعرون خطراً كردياً، ذلك أن مكمن الخطر كان يتأتى من إيران وتركيا. ونجحت الأخيرة في جرّ العراق لتأسيس حلف سعد آباد عام 1937 بإرادة وإدارة بريطانية، حيث دعت وثيقة الحلف إلى تطويق الحركات الكردية المسلّحة وجمعياتهم السياسية في الدول الموقّعة على المعاهدة، فيما لم تنجح تركيا في جرّ سوريا لهذا الحلف. بل إن صحيفة «العمل القومي» السورية نددت بسياسة الحلف التي تستهدف الكرد، وانضمت صحيفة «الأخبار» السورية لزميلتها في الإشادة بثورة ديرسم ونقل أخبارها. على أن تأييد السوريين لحقوق الكرد في كردستان الشمالية إنما كان ينبع من خشية عربية من تمادي تركيا في إلغاء الوضع الخاص بلواء الاسكندرونة، أو الإقدام على عملية تغيير لحدودها الشمالية بالاتفاق مع فرنسا. وبهذا المعنى، يمكن القول إن شرط المصلحة العربية – الكردية في مواجهة الأطماع التركية شكّل صمغ العلاقة بين القوميتين اللتين لم تحاولا لاحقاً تطوير علاقاتهما.
ربما كانت الستينيات هي الفترة التي تعاظمت فيها السياسات الشوفينية العربية، وبرزت فيها العروبة المتطرّفة بحكم تولي نظامي البعث الحكم في سوريا والعراق. إلّا أن هذه النزعة لم تتحول إلى هوىً شعبيّ رغم الدور الصارم لمؤسسات التلقين الإيديولوجية (حزب البعث والإعلام والجيش) التي سعت إلى التحذير من «الخطر الكردي». لكن في السنوات التي تلت سقوط نظام صدام وتحوّل الاحتجاجات الشعبية السورية عام 2011 لحرب أهلية، ذوت العروبة كخطاب رسميّ لصالح الخطاب الديني والطائفيّ. وبذلك، فقد الكرد الجهة التي ستتوجه إليها بالمخاطبة، ذلك أنه من الصعب أن يتعاطى القوميون الكرد مع اتجاهات طائفية أو دينية راديكالية. فالمنطقي أن يحاور الكرد، كجماعة قومية، نظيرتها العربيّة. لذا، سنجد نزعةً فاشية ظهرت في سوريا تدمج الديني بالقومي على الطريقة التركية وتضع الكرد في مصاف العدو. وإذا كانت الفاشية التركية منتظمة في أحزاب واتجاهات سياسية واضحة، فإن «الفاشية المبعثرة» في سوريا، أي غير المنتظمة في حزب أيديولوجي، والتي تقاد من قبل المعارضين المتعاونين مع تركيا، باتت متحكمة بشكل العلاقة الكردية – العربية وإخراجها على الدوام من دائرة التفاهم إلى حيث الخصام والعداء غير المبرر.
في سوريا، تبرز إلى السطح أيضاً اتجاهات «وطنية» قليلة التأثير ترى في إمكانية إدماج الكرد في الهوية السورية المستقبلية والمتخيلة شكلاً مثالياً للحل. غير أن هذا الاتجاه لا يراعي الحساسية والمخاوف الكردية، ذلك أن إقامة رابطة «المواطنة» لا يجب أن يتعامى عن الحقوق الجماعية للكرد. إذ لا تعني المواطنة شطب الحقوق الثقافية والسياسية للجماعات القومية وقصرها على الحقوق الفردية، وبالتالي فإن القول بأفول عصر القومية يبدو أقرب لرواية مشتهاة لواقع مغاير. فسؤال الهوية القومية يبدو ضاغطاً على الهويات الفرعية التي تسعى إلى نيل حقوقها الثقافية وحقّها في إدارة شؤونها، وأن يتم الكف عن معاملتها بأنها محض هويات فرعية ملحقة بهوية رئيسية. فالقومية الكردية هي رئيسية في المناطق التي يشكل الكرد أغلبية سكانها، أو هكذا يشعر الكرد. وفي هذا الخصوص، ترك بندكت أندرسن ملاحظة في كتابه «الجماعات المتخيّلة» بأن القوميات الفرعية تسعى إلى خلع «هذه الفرعية في يوم سعيدٍ من الأيام». فالواقع بحسبه واضحٌ تماماً: إن نهاية عصر القومية التي طالما جرى التبشير بها لا تلوح في الأفق ولو من بعيد. بل إن الانتماء إلى أمة هو تلك القيمة التي تحظى بأكبر قدر من الشرعية الشاملة في حياة عصرنا السياسية.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد