محمد سيد رصاص
جاءت الحربان العالميتان جرّاء صعود النزعة القومية عند الألمان واليابانيين. ويمكن تشبيه ما جرى من قبل الأخيرين ضد الزعامة البريطانية للعالم البادئة في عام 1588بمعركة الأرمادا بين الانكليز والاسبان بأنه متابعة لما بدأه نابليون بونابرت ضد لندن، حيث كانت المحاولات الثلاث إما بحث عن مكان متقدم تحت الشمس، كما يمكن تلمسه عند هتلر والعسكر اليابانيين وأيضاً موسوليني، أو أنها رد على هزيمة، كما يمكن تلمسه عند نابليون بعد هزيمة الفرنسيين أمام البريطانيين في حرب السنوات السبع 1756-1763 عندما خسرت باريس مستعمراتها في أميركا الشمالية والهند، وهو شيء يتشارك فيه هتلر ونابليون بعد هزيمة الألمان في الحرب العالمية الأولى وشروط معاهدة فرساي التي فرضت على الألمان. قاد هذا الصعود للنزعة القومية إلى اضطراب عالمي كبير كان مسرحه النصف الأول من القرن العشرين. ولم يكن هناك مثيل لاضطرابه منذ غزوات المغول لمنطقة الشرق الأوسط 1254- 1402. بالمقابل، كان تفكك الدولة العثمانية 1908-1923 مؤدياً إلى صعود نزعة قومية تركية عند «جمعية الاتحاد والترقي» ثم عند مصطفى كمال تشبه النازية والفاشية، قادت آلامها وصدماتها وردود الأفعال عليها إلى ولادة وصعود النزعتين القوميتين عند العرب والكرد. وفي إيران آل بهلوي 1925-1979، كان صعود النزعة القومية الفارسية رأى مضاده الداخلي في نزعة قومية كردية وأخرى أذربيجانية ولدتا جمهوريتين مستقلتين في كردستان وأذربيجان أواسط الأربعينيات ثم ماتتا بسرعة. ومن ثم، تمظهرت في آلام نتجت من الاضطهاد القومي عاناها العرب والبلوش في إيران. أيضاً وعند تفكك الاتحاد اليوغسلافي في تسعينيات القرن العشرين، قاد صعود النزعة القومية عند الصرب، بزعامة مسؤول رابطة الشيوعيين في جمهورية صربيا سلوبودان ميلوسيفتش، المتحالف مع القوميين الصرب ومع الكنيسة الأرثودكسية الصربية، إلى مذابح وتهجير للملايين وتطهير عرقي وأعمال قتل واغتصاب لمئات الآلاف في كرواتيا والبوسنة وكوسوفو. كذلك، يمكن القول بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، المتحالف مع الشيوعيين والكنيسة الأرثودكسية، يمثل حالة قومية روسية نتجت عن آثار موت التجربة السوفيتية الأممية- المافوق قومية، إذ أن البوتينية رد فعل على تقلص مكانة روسيا العالمية في القرن الواحد والعشرون إلى حدود أقل من مكانتها العالمية التي كانت فيها زمن السوفيت والقياصرة، ومحاولة لاستعادة هذه المكانة ترجمت في أزمة القرم عام 2014 ثم في الحرب الأوكرانية الحالية الجارية منذ عام 2022.
لم تنجح البونابرتية ولا النزعة العسكرية اليابانية ولا هتلر ولا موسوليني. كما فشل ميلوسيفتش وانتهى ميتاً في زنزانة حبسه في لاهاي، فيما ترك مصطفى كمال وآل بهلوي تركيا وإيران في اضطراب كامن كبير لم ينجح إسلاميون مثل أردوغان والخميني والخامنئي (والأخير من أصل أذربيجاني) في تسكينه. وهناك كذلك مآزق البوتينية التي تظهر في وحول الحرب الأوكرانية التي يريدها الغرب الأميركي- الأوروبي مصيدة للزعيم الروسي.
في حالات مختلفة، كان الاستئثار والتمييز القوميين مؤديان إلى اضطراب كبير، كما رأينا في حكم الأكثرية السنهالية التي تعتنق البوذية في سيريلانكا، منذ الاستقلال عن البريطانيين عام 1948، لأقلية التاميلية، وهي تعتنق الهندوسية. وكان التاميل، الذين جلبهم البريطانيون من الهند للعمل في مزارع الشاي في شمال جزيرة سيلان (لاحقاً سيريلانكا) حظوا بأفضلية التعليم والمناصب في الإدارة، وهو ما ولد كرّد فعل على اضطهاد طويل الزمن حملة إقصاء سينهالية للتاميل في فترة ما بعد الاستقلال. وقاد هذا التهميش والحرمان إلى تمرد عنيف للتاميل بقيادة «نمور التاميل» بين عامي 1983و2009 قتل فيه مئات الآلاف وتم تهجير الملايين من موطنهم. يمكن للسودان أن يكون قريباً من الحالة السيريلانكية، حيث سلمت بريطانيا الحكم للأقلية العربية في السودان المستقل عام 1956 (39%من السكان وفق احصاء 1953)، وبالذات عرب منطقة الشمال الواقعة بين الخرطوم والحدود المصرية، وهو ما أنتج تمردات عند أفارقة جنوب السودان وإقليم دارفور وأخيراً عند عرب دارفور في «قوات الدعم السريع». وفي سوريا والعراق، ما بعد استلام العروبيين السلطة في عام 1963و1968، كان التمييز ضد الكرد مؤدياً إلى اضطراب رأينا ترجماته في عراق 1974-1975و1988و1991و2003-2024. وفي سوريا 2004 ومنذ 2011. وكان أحد ترجماته اضمحلال قوة الحزبين الشيوعيين في العراق وسوريا في الوسط الكردي منذ عقد السبعينيات وصعود قوة الأحزاب الكردية في البلدين منذ ذلك الحين. والآن، هناك حالة تنذر باضطراب كبير في الهند، حيث يمارس حزب «بهاراتيا جاناتا» الحاكم منذ انتخابات برلمان 2014 التمييز ضد المسلمين عبر أشكال من الاضطهاد السياسي والثقافي والإداري، شبيه بما حصل في سيلان- سيريلانكا 1948-1983، وهو ما ينذر بانفجار هندي قادم.
يشي كل ما سبق بأن الحل القومي هو مدخل وطريق إلى الاضطراب الداخلي، وأحياناً العالمي والاقليمي. وفي هذا الصدد، يمكن القول بأن أنجح نماذج الاندماج المجتمعي للقوميات والأعراق والثقافات وجدت في بلدان دول المهاجرين، مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا ومعظم دول أميركا اللاتينية، ولو أن التمييز العرقي واستئثار البيض بالسلطة بمعزل عن السود والخلاسيين في دولة مثل البرازيل يخلق اضطراباً داخلياً عاش اليسار البرازيلي على محركات حله في صعوده الأخير. حاول فلاديمير لينين في بلد مثل روسيا القيصرية، كانت بيتاً للقوميات المختلفة ولكن تحت هيمنة وسلطة قومية روسية مسيطرة حتى أسميت بـ«سجن الشعوب»، أن يحل المسألة عبر الحل السوفيتي الأممي، ولكن فشل، كما أظهر الاضطراب القومي في الاتحاد السوفيتي السابق قبيل وبعد انهيار الماركسية السوفيتية. وكان تيتو في يوغسلافيا تكراراً لفشل لينين. وتظهر التجربة الباكستانية منذ عام 1947 فشل الحل الأممي الإسلامي لبلد متعدد القوميات تسيطر عليه القومية البنجابية. بدورها وبعد انهيار التجربة القومية لدولة آل بهلوي، لم تنجح التجربة الإسلامية الإيرانية في إخماد المشكلة القومية في إيران، حيث ما زال هناك تمييز قومي ضد غير الفرس، مثل الأذربيجانيين والعرب، وهما من الشيعة، وأيضاً تمييز قومي- طائفي فئوي ضد قوميات تعتنق مذهباً غير الشيعة بغالبيتها، مثل الكرد والبلوش. ويمثّل رئيس الوزراء الهندي نارندرا مودي من «بهاراتيا جاناتا» النقيض لأول رئيس وزراء هندي بعد الاستقلال، إذ يرى أن الديانة الهندوسية التي تشكّل 85 في المئة من السكان هي الوعاء الثقافي- الهوياتي للقومية الهندية، بينما عارض جواهر لال نهرو تقسيم الهند، وكان يرى إمكانية إقامة وطن- بيت مشترك لكافة الهنود، هندوس ومسلمون وسيخ ومسيحيون، وهو ما جعله يعارض رغبة لندن ومؤسس باكستان محمد علي جناح في إنشاء باكستان كوطن لمسلمي الهند. كان جون غارانغ، الذي قتل في حادث طائرة عام 2005، مؤسساً لنزعة وحدوية سودانية في سودان ما بعد استقلال 1956 من خلال طرحه فكرة «السودان الجديد» الذي يقام كبيت مشترك للعرب والأفارقة والمسلمين والإحيائيين والمسيحيين وكافة الإثنيات، وضد انفصالية قوى جنوبية، تمظهرت في الحركة الشعبية لتحرير السودان، مثل الرئيس الحالي لجمهورية جنوب السودان سيلفا كير. ولربما لم تكن وصفته ضد اضطراب الدولة الجنوبية الجديدة ما بعد انفصال 2011 ما بين قبيلتي الدينكا والنوير، بل وأيضاً وأساساً ضد سيطرة الأقلية العربية الشمالية على السودان، والتي كانت وصفة لاضطراب سودان 1956-2005، ثم للاضطراب الحالي بين عرب المركز وعرب الأطراف الذي يترجم عسكرياً في الصراع بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع».
عبدالله أوجلان هو نقيض مصطفى كمال. ووصفته في حل «الأمة الديمقراطية» هي الترياق ضد سم الأتاتوركية الذي سمم حياة الجمهورية التركية منذ ولادتها في 1923. ولكن حل «الأمة الديمقراطية» يقوم على تساوي المواطنين في بيت مشترك بغض النظر عن قوميتهم ودينهم وطائفتهم وجنسهم واتجاههم السياسي، وليس بيتاً مشتركاً يقوم على فكرة «المكوِنات»كما نرى في التجربة اللبنانية وفي عراق ما بعد عام 2003.