ما بعد الهجوم على معسكر البرج 22

شورش درويش

كشف الهجوم بطائرة من دون طيّار على معسكر الإمداد اللوجستي الأميركي في الأردن، المعروف بالبرج 22 في 28 يناير/كانون الثاني الماضي عن إمكانية تطوّر سير المواجهة الإيرانية الأميركية أبعد من العراق وسوريا. فالقاعدة المستهدفة المحاذية لقاعدة التنف على الضفة السورية لم يكن في الوارد أن يتم إقحامها في سير المواجهات المتبادلة، ما قد يعني إمكانية أن تصبح القوات الأميركية في كامل منطقة الشرق الأوسط مداراً للاستهدافات الإيرانية.
تتأرجح السياسة الأميركية بين احتواء إيران إلى حين اتضاح الصورة في الصراع الدائر في غزة، وبين تصعيد المواجهات معها. لكن في كلا الحالتين، تحاول الولايات المتحدة التكيّف مع الهجمات الإيرانية بالشكل الذي يقلل من كلفة بقائها في منطقةٍ باتت يد إيران فيها الطولى بفعل المسيّرات وتعدد المليشيات واتساع رقعة السيطرة الإيرانية الممتدة من تحالفها في اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان.
ورغم الرسائل الأميركية الواضحة بعدم استهداف إيران، ومزاعم طهران بعدم وقوفها وراء الضربات التي يشنّها وكلاؤها في المنطقة ورسائلها بأنها سترد بقوة في حال تم استهداف بلادها أو قوّاتها، إلّا أن الاطمئنان لهذا «الستاتيكو» قد يبقى رهين تطوّر أنشطة المجموعات المرتبطة بإيران المعادية لواشنطن.

مواجهة في الأرض والسماء والبحر

ساهم طول أمد الحرب الإسرائيلية على غزة في تعزيز فكرة إمكانية إنقاذ حركة حماس. فبعد أن كانت طهران تسعى لحماية تواجدها في لبنان وسوريا والعراق والحفاظ على عضلتها النامية في اليمن (حركة أنصار الله الحوثية)، انطلقت مجدداً لقلب المشهد مستفيدة من المساعي الأميركية البطيئة لوقف الحرب الإسرائيلية. لذلك، فإن طبيعة الهجمات قد تكون رسالة إيرانية لإدارة الرئيس جو بايدن بأن عليها الاختيار بين الضغط على حكومة بنيامين نتانياهو لوقف الصراع في غزة، أو تنشيط حرب الوكلاء المكلفة على التواجد الأميركي في المنطقة.
رفعت مشاركة الحوثيين من درجة الصراع إلى مستوىً متقدّم وساهمت في اتخاذه طابعاً عالمياً من خلال تهديده الملاحة التجارية الدولية، فيما مثلت هجمات كتائب حزب الله و«المقاومة الإسلامية في العراق» الوجه الإقليمي للصراع، إلّا أن هذا المستوى المتقدّم من الصراع قد يأتي بنتائج عكسية لا تسعى إليها إيران التي تشنّ هجمات في الأرض والسماء والبحر، وتختبر فيها أدوات إيذاء واشنطن في وقت واحد. من شأن تحويل الصراع في غزة إلى بؤرة صراع إقليمي أن يتوافق مع سعي حكومة نتانياهو في تجيير الوجود الأميركي لصالح نقل الحرب إلى المستوى الذي يدخل إيران مباشرة في مدارها بدل خوض الحرب على وكلائها. ولعل انضمام بريطانيا إلى جوار الولايات المتحدة في مسعى تأديب الحوثيين في اليمن رفع من إمكانية تشكيل تحالف أميركي- بريطاني- غربي، وربما عربي، لمواجهة التهديدات الإيرانية.
إن تكثيف الهجمات وتعدد الجهات التي تقوم بتنفيذها لا يعني أن واشنطن ستتجاوز حدود الرد المتراوح حالياً بين ردٍ مدمّر لبعض الوكلاء الإيرانيين وآخر اعتيادي كالذي كانت تعتمده واشنطن قبل أحداث البرج 22، لكنه سيزيد من مخاوف انزلاق الوكلاء إلى ارتكاب أخطاء حسابية تتسبب بمقتل جنود أميركيين بأعداد أكبر. وحينها، سيتعيّن على واشنطن الرد بقوّة قد تتجاوز ما فعلته في الثالث من الشهر الجاري حين ردّت في البوكمال والميادين ودير الزور السورية ومدن القائم والمناطق الحدودية العراقية، خاصّة أن احتمالات الانسحاب الأميركي تبدو صعبة بالنظر إلى حاجة الإدارة الأميركية الحفاظ على نفوذها وتنفيذ واجباتها بحماية أمن إسرائيل وعدم إفساح المجال للقوى الدولية والإقليمية الساعية لملء الفراغ الأميركي، وهو ما أكّدته التصريحات الرسمية الأميركية التي تحدّثت عن عدم نية واشنطن الانسحاب من سوريا.

العراق: المهمة المستحيلة لحكومة السوداني

شنت «المقاومة الإسلامية في العراق» أكثر من 165 هجوماً على الأصول الأميركية وعلى إقليم كردستان العراق وشمال شرقي سوريا وقاعدة التنف منذ بدء الصراع في غزة. ورغم محاولة حكومة محمد شياع السوداني وقف نزيف الاستهدافات المتبادلة للوصول إلى صيغة سريعة تعجّل إنهاء مهمة التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في العراق، إلّا أن تصاعد الصراع واتساع نطاقه وتنامي دور المليشيات الموالية لإيران وإعادة تنسيق عملها تحت مسمّى «المقاومة الإسلامية في العراق»، يبدد جهود السوداني في تقريب موعد إنهاء مهمة الأميركيين.
قد يكون من المجازفة القول إن الهجمات الصاروخية على أربيل منتصف يناير/كانون الثاني تؤمّن موجبات جديدة لبقاء القوات الأميركية وحماية حلفائها المحليين، وهو ما دفع حكومة السوداني إلى إبداء الحرص على سلامة الإقليم من الهجمات الإيرانية على عكس الهجمات السابقة التي استهدفت الإقليم. كما أن اتهام واشنطن لكتائب حزب الله العراقية، التي تصنّفها منظمة إرهابية، بتنفيذ عملية البرج 22، عجّل مساعي السوداني لدفع الكتائب تعليق عملياتها العسكرية ضد القوات الأميركية في المنطقة.
مهمة السوداني، الذي كان عضواً بارزاً في حزب الدعوة الإسلامية وقاتل مع إيران ضد صدام حسين خلال حرب الخليج الأولى (1980-1988)، المعلنة والمتمثلة بتجنيب العراق رياح الصراع الأميركي-الإيراني والقيام بدور وساطة بين البلدين، تبدو مستحيلة بالنظر إلى العائدية الإيديولوجية والسياسية واللوجستية للفصائل المؤتلفة تحت عباءة النظام الإيراني. فوق أنّ الأهداف المعلنة للحكومات العراقية السابقة والحالية بحصر السلاح في يد الدولة والتخلّص من السلاح المنفلّت، باتت أقرب لشعار يتناوب رؤساء الوزراء على ترديده دون جدوى، ذلك أن السلاح خارج إطار مؤسسات الدولة هو في الواقع سلاح منضبط يخضع للمشيئة الإيرانية.

شرق سوريا: أرض المواجهة المفضّلة

تظهر القواعد الأميركية في سوريا كأحد الأهداف المثالية للحرس الثوري الإيراني والفصائل العراقية والسورية الملتحقة بها. فعلى عكس حكومة السوداني، لا تحرج الهجمات الإيرانية النظام السوري. كما أنها تحظى بتأييد روسيا. إضافة إلى أن الضغط العسكري الإيراني يريح تركيا التي تتحين خروج القوات الأميركية وتسعى لفصم عرى تحالف محاربة تنظيم داعش بين واشنطن وقوات سوريا الديمقراطية «قسد».
عززت طهران من تواجدها شرقي سوريا بالاستفادة من خطوط الإمداد المفتوحة على العراق وبالاعتماد على العناصر المحلية. ففي محافظة دير الزور وحدها، تحتكم إيران على نحو 12 ألف مقاتل منضوين في مليشيات طائفية متنوعة معظمها من أبناء القبائل العربية، إضافة لنحو 35 مركز تجنيد. وتنوّع المليشيات الإيرانية من سبل مهاجمتها للقواعد الأميركية باعتماد الهجمات الصاروخية أو الطيران المسيّر. ففي قاعدتي كونيكو وحقل العمر، يوفّر ضيق مساحة المواجهة للمليشيات الإيرانية فرصة توجيه الضربات الصاروخية، في حين تعتمد على الطيران الانتحاري المسيّر لضرب القواعد البعيدة كالقواعد الأميركية في الحسكة. إلّا أن تنويع المليشيات لوسائل الهجوم ليس أمراً ثابتاً. ففي الخامس من الشهر الجاري، تسببت مسيّرة بفقدان ستة من مقاتلي «قسد» حياتهم بهجوم استهدف مركز تدريب بحقل العمر شرقي دير الزور.
وتؤثر «قسد» عدم المواجهة المفتوحة مع المليشيات الإيرانية، رغم تصديها المتكرر لمحاولات التسلل نحو مناطق سيطرتها وضبطها لخطوط التماس، إذ تفضل «قسد» صيغة التركيز على محاربة خلايا تنظيم داعش وتجنّب الصدام مع إيران في غير حالة الدفاع عن النفس، في ظل إعلاناتها الرسمية برفض تحوّل شرقي سوريا لساحة حرب بين القوى النافذة في سوريا.
في مقابل ذلك، تبدو الأهداف الإيرانية في دير الزور والبوكمال والميادين مثالية أيضاً لتوجه لها الولايات المتحدة ضرباتها الانتقامية، وهو ما تحقق يوم الجمعة الماضي مع الضربات الجوية الأميركية التي شملت 85 هدفاً في سبعة مواقع بالعراق وسوريا، كانت حصة الأخيرة الأعلى منها. وفيما أثارت الضربات موجة انتقادات عراقية رسمية قد تؤثر على سير العلاقات الأميركية-العراقية، فإن تنديد وزارة الدفاع السورية بالضربات لا يمثّل أدنى تحدٍ للسياسة الأميركية في المنطقة. بهذا المعنى، تصبح سوريا بنك أهداف ملائماً لمعاقبة المليشيات الإيرانية ومن ضمنها كتائب حزب الله العراقية، وهو ما قد يعني أيضاً تزايد دائرة التهديف الإيراني على القواعد الأميركية وقواعد ونقاط قوات سوريا الديمقراطية.

اختبار الصبر الأميركي

يبدو أن إعلان المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي «نجاح الضربات التي تم اختيارها بعناية»، لم يحل دون انقسام المشرّعين الديمقراطيين والجمهوريين في واشنطن حول جدوى الضربات والإخطار المتعمّد. ووصف المشرعون الجمهوريين ضربات الرد على استهداف البرج 22 بأنها «قليلة جداً ومتأخرة جداً».
وقبل قليل من تنفيذ هجوم الأردن، كان البيت الأبيض أعلن عدم نية واشنطن الانسحاب من سوريا على ما أثارته تكهّنات وتقارير صحافية غير مستندة إلى تصريحات رسمية تحدّثت عن انسحاب وشيك. ولعل الهجوم الأخير أعاد القيمة الفعلية لفكرة التواجد على الأرض بمحاذاة انتشار فيلق القدس والحرس الثوري في سوريا والإبقاء على العين الأميركية مفتوحة لمراقبة الأنشطة الإيرانية. يظهر أن صبر واشنطن على التجاوزات الإيرانية لم ينفذ بعد، وأن بإمكانها الاستمرار في تعقّب إيران ووكلائها في عموم الشرق الأوسط، بما في ذلك سوريا والعراق المرشّحتين على الدوام لحدوث انسحابات أميركية منهما.
تدرك طهران أن الاستعداد لانتخابات الرئاسة الأميركية يثبّط جهود واشنطن في الخوض في ردود انتقامية تتجاوز سوريا والعراق بالشكل الذي يهدد العمق الإيراني نفسه. ولعل استباق إيران الحدث الانتخابي الأميركي لتنفيذ سلسلة من الهجمات بغية دفع إدارة بايدن للضغط على تل أبيب لوقف الصراع في غزة، يشي باحتمال انقلاب واشنطن لاحقاً على الستاتيكو القائم على سياسة ضربة مقابل ضربة المتبع حتى الآن، وتوجيه ضربات أشد كلفة على النظام الإيراني في مرحلة ما بعد الانتخابات الأميركية أيّاً كانت هويّة الفائز فيها.
قد يتعيّن على معسكر المتفائلين القائلين بإمكانية أن تضاعف الهجمات الدامية على القواعد الأميركية من فرص اندلاع حرب مباشرة بين واشنطن وطهران، التوقّف عن انتظار ما لن يحدث في هذه الغضون. ولكن في المقابل، يتعين على المتفائلين بأن تسفر الهجمات الإيرانية عن تبدّل عميق في سياسة واشنطن إزاء تل أبيب أو أن تتسبب في حركة انسحابات من سوريا والعراق العدول عن هذا التصوّر أيضاً. وعليه، فإن تصاعد الهجمات والردود المقابلة لن يخرج شكل المواجهة الإيرانية الأميركية عن مدارها الحالي حتى وإن مرّت بمنعطفات دامية كهجوم البرج 22.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد