في مسيرة تتبع بصمات صامويل هنتنغتون!

قسطنطسن ماكنيس

ما زالت الطرق التي خلفها الشيّخان ورائهما تتقاطع حتى يومنا هذا. أحدهما، مضت سبعة أعوام على رحيله عن دنيانا. الآخر هو بسام طيبي، الأستاذ الجامعي وعالم السياسة السوري الذي درّس وبحث في جميع أرجاء المعمورة: في «Göttingen» و«Harvard» و«St.Gallen» و«Standford» و«Jakarta». طيبي هو مبتدع مصطلح «الثقافة السائدة»، وألف 30 كتاباً ونال جائزة الدولة التقديرية من ألمانيا. في الخريف الماضي، بلغ بسام طيبي 70 عاما. لم يحتفل أي شخص أو مؤسسة في ألمانيا بالمناسبة، وهو ما حزّ في نفس طيبي.
تحدّث طيبي عن صديقه القديم صامويل هنتنغتون. حتى اليوم، هناك تماه وخلط بين مشروعي طيبي هنتنغتون. في عام 1982، ساعد أستاذ للعلوم السياسية في جامعة هارفارد، وهو رجل هادئ يضع نظارات سميكة، صديقه بسام طيبي على التدريس هناك، وكان ولمدة 18 عاماً يجلس مع طيبي في نفس المبنى ويتجادلان كثيراً على نفس الطاولة. هذا الرجل كان هنتنغتون. في عام 1995، كتب طيبي أكثر كتبه شهرة وإثارة للجدل وهو كتاب «حرب المدنيات/Krieg der Zvilisationen». بعد عام واحد، أصدر هنتنغتون كتابه «صراع الحضارات». لقد دافع طيبي عن جوانب كثيرة في نظرية هنتنغتون. وبعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، زاد الاهتمام بالكتاب وتعرض مرة أخرى للبحث والدراسة، وكذلك اهتم الناس بكتاب طيبي، والذي تصدّر، هذه المرة، لائحة الكتب الأكثر مبيعاً.
منذ تلك الفترة، يقول طيبي، «تم تصويري في ألمانيا وكأني مساعد لصامويل هنتنغتون، وأضر بي هذا التوصيف والتقدير بشكل كبير». وعندما توفي هنتنغتون في عام 2008 وهو في الحادية والثمانين، كان لا يزال يغطي بشهرته على طيبي ويحشره في الظل. والآن، في أيامنا هذه، وكلما وصل الحديث عن الإسلام، بدا هنتنغتون حاضراً. كذلك، يستدعي النقاش حضوراً ما لطيبي. مثلاً عندما يتم الحديث عن هجمات باريس الأخيرة والدوافع التي وقفت وراءها، يبحث المرء عن طيبي ليسائله عن رأيه في القضية. بسام طيبي الذي يأتي من مدرسة فكرية، طبٌعت بإسم هنتنغتون.
يقول كونراد آدم، وهو نائب رئيس حزب البديل الألماني بأن الإسلام يحمل جوانب دموية، في معرض التعليق على هجوم باريس. ويستشهد آدم ببعض الفقرات من «صراع الحضارات». على النقيض منه، يأتي جون كيري، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، ويقول بأن الفاعلين في باريس ليسوا جزءاَ من صراع الحضارات، بل مجرد قتلة فقط. لكن هل يصح أن نعتمد نظريات أستاذ جامعة هارفارد المتوفي كمقياس لمستجدات وحوادث تحصل الآن؟ هل يصح أن نعتمد نظرية «صراع الحضارات» ونقتبس أفكارها في الحكم على حوادث ومجريات حصلت في 2015؟ هل ستساعدنا هذه الأفكار والشروحات في تفسير حالتنا الراهنة؟ ماذا كان هنتنغتون سيقول عن الهجمات الحالية وعن تنظيم داعش لو كان موجوداً بيننا في هذا الوقت؟ من قرأ كتاب «صراع الحضارات» لن يتردد كثيراً في التكهن بما سيقوله هنتنغتون بشأن كل هذه الأمور.
هنتنغتون، الذي ولد في نيويورك عام 1927 والابن لصحافي، أصبح وهو في سن الثالثة والعشرين أستاذاً للعلوم السياسية في جامعة هارفارد. بدأ منذ انطلاقة عمله في الجامعة في دراسة وبحث السياسة وعلومها وفي الديمقراطية وفي جوانب النظام والتفكير الأميركي. أصدر هنتنغتون 17 كتاباً و90 بحثاً محكمّاً. وتحوّل الرجل بعد كل هذا الجهد إلى أهم علماء السياسة في شمال القارة الأميركية، ولكن أكثرهم إثارة للجدل. في عام 1957، كتب هنتنغتون كتاباً بعنوان «الجندي ورجل الدولة»، مدح فيه تراث الجيش الأميركي وتقاليده، وروّج لنظرة المؤسسة العسكرية الأميركية «المحافظة والواقعية إلى العالم». وفي كتابه اللاحق «النظام السياسي في المجتمعات دائمة التغيير»، شكك هنتنغتون في نظرية أن «التقدم الاجتماعي يصب بالمحصلة في اتجاه الديمقراطية وتفعيلها». وكعضو في لجنة الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر، عمد هنتنغتون، العضو في الحزب الديمقراطي، إلى المساهمة في تطوير استراتيجيات الحزب لما بعد فيتنام وكيفية تحجيم الاتحاد السوفييتي. يتحدث زملاؤه عنه فيؤكدون على استقلاليته ورصانته العلمية. ويقول روبرت كوهين زميله السابق في جامعة هارفارد عنه ما يلي: «سام كان يكتب بحماس وحيوية، ولكنه كان يبالغ في مرات كثيرة. لم يعرف الملل والكلل. وكانت كتاباته تثير دائماً عواصف من النقاش والاهتمام لدى الرأي العام الأميركي».
في المظهر الخارجي ورغم قوة الرجل العلمية والثقافية، إلا انه كان يتمتع بقوة بدنية كذلك. تعرض إلى حادث اعتداء عندما كان يسير في أحد شوارع مدينة بوسطن. وعوض أن ينجح المعتدي في سرقة هنتنغتون، عمد هذا الأخير إلى مواصلة لكمه وصفعه، حتى اضطر المعتدي إلى الهروب. كان هنتنغتون رجلاً عنيداً وصلباً شديد التنظيم، وكان ينتظر أن يكون تلامذته كذلك على نفس السويّة والانضباط التي يتمتع بها هو.
وهنتنغتون في الأصل رجل وطني. وكان من المعروف عنه أنه يقيم كل عام حفلاً صغيراً بمناسبة عيد العلم الأميركي الذي يصادف في 14 يونيو/حزيران. لكن البروفيسور الذي كان يقف في استقبال ضيوفه، كان يرفض الحديث لوسائل الإعلام الحاضرة ويقابل الأسئلة بالصمت. يقول عنه بسام طيبي أنه كان من «النوع الصامت». دعاه إلى بيته حيث هو وزوجته نانسي، «كان في معظم الوقت يبقى صامتاً يصغي إليّ وأنا أتحدث»، يضيف طيبي. كان يحضر الكثير من المحاضرات والندوات ويجلس دون أن ينبس ببنت شفة. يبقى صامتاً لا ينطق أي كلمة، ومن ثم يغادر بعد انتهاء المحاضرة أو الندوة. كان هنتنغتون، كما يقول البروفيسور كوهين، يغادر بصمت ليجلس في مكتبه ويكتب في أوراق، حالما تٌنشر تثير جدالاً ولغطاً وإثارة كبيرة في عموم البلاد.
لم يثر أي مقال نشره هنتنغتون الرأي العام كما أثاره المقال التحليلي الذي نشره عام 1993 في مجلة «فورين أفيرز» الشهيرة المختصة بالسياسة الخارجية. كان فريد زكريا، محرر المجلة، يبحث عن مقال رصين وجديد لكي يقدمه لطبعة الصيف. فأثار محتوى محاضرة قدمها أستاذه السابق هنتنغتون، فطلب منه أن يؤطرها في مقال تحليلي للنشر في المجلة، وحدث هذا فعلاً وحمل المقال اسم (The Clash of Civilizatons) أي «صِدام الحضارات». وكان المزاج العام في الولايات المتحدة يتجه إلى الهدوء وقتها، حيث كان الاتحاد السوفييتي ينهار، ما يعني بالضرورة سيادة التصور والهيمنة الأميركية على العالم وأن «الديمقراطية الغربية» الأميركية هي المنتصر والقطب الأوحد. وجاءت فكرة «نهاية التاريخ» المريحة التي أبدعها فرانسيس فوكوياما، حيث سيكون العالم جميلاً تحت الأعلام الغربية!
أعتبر هنتنغتون هذا التصور في نهاية التاريخ ضرباً من ضروب السذاجة. النظرة المحافظة، في تصوره، هي الأساس في نهوض الحضارات وتطورها. وعمد إلى استنباط نظرية جديدة بالضد من نظرية فوكوياما في نهاية التاريخ نبعت أساساً من تصوره المعرفي وطريقة عيشه وعمله، ذهب فيها بأن التاريخ لن ينتهي بانتصار فكرة ما، ولكنه سيستمر وستظهر الحوادث في إطار الصراعات التي ستهز العالم. ولن تأخذ هذه الصراعات طابعاً إيديولوجياً، كما هو متصور للوهلة الأولى، ولكنها ستأخذ الطابع الثقافي. بدا إذاً أن «التناقضات والاختلافات بين الثقافات هي التي ستحدد محددات وخطوط الصراعات القادمة» كما ذهب هنتنغتون. لقد قسّم أستاذ السياسة الكون إلى ثماني ثقافات أسماها بالحضارات/المدنيات البشرية، وهذه الحضارات هي «الغربية، الإسلامية، الهندوسية، السلافية/الأرثوذوكسية، الصينية/الكونفوسيوشية، اليابانية، الإفريقية، والأميركية اللاتينية». وتنبأ هنتنغتون بأن الغرب سيعاني من تحديات كبيرة في الفترة المقبلة جرّاء هذا الصراع بين الحضارات، وأبرز هذه التحديات مشكلتين كبيرتين: تحدي الحضارة الصينية/الكونفوسيوشية والمتمثل بالسطوة الاقتصادية المتنامية والنزعة الثقافية الآخذة في الترسخ والتوسع. والتحدي الثاني هو النزعة الإسلامية الأخذة في التطور والنهوض واتخاذ الأشكال العنفية الأكثر دموية. في اعتقاد هنتنغتون، فإن الحضارة الإسلامية الميالة إلى المواجهة هي الآن في مرحلة الزحف والتمدد. وفي انتقاده لأوجه الحضارة الإسلامية ونزعة العنف فيها، لا ينسى هنتنغتون انتقاد الحضارة الغربية، والتي يصفها هنا بأنها «تظن في نفسها التوكيل والحق في نشر قيمها الحضارية في كل العالم وفرضها على كل البشرية بحجة أن هذه القيم هي المدنية والأصلح للحياة والإدارة». وينصح هنتنغتون الغرب بالتراجع عن هذا الاعتقاد والتقبّل بالتحول لحضارة إنسانية ما هي، في الحقيقة، إلا واحدة من العديد من الحضارات في العالم وليس بمقدورها ولا من حقها فرض نظرتها على الآخرين.
لقد وضع هنتنغتون علامات استفهام كبيرة على دور الغرب في العالم. وكانت تساؤلاته هي بداية لسياسة جديدة فكر بها الغرب، بدت متناقضة كثيرة مع سياسة التدخل في الشؤون الداخلية للأمم الأخرى. وكل هذا كان في مقال عام 1993 نشرته «فورين أفيرز». ذلك المقال الذي أثار كل هذه الضجة من النقاش والردود. وكان آخر ضجة من هذا النوع أثيرت بعيد نقال نٌشر في نفس المجلة عام 1947 عندما كتب الدبلوماسي الأميركي جورج كانان مقالا حول كيفية احتواء الاتحاد السوفييتي.
في شهر أغسطس/آب من العام 1993 ترجمت أسبوعية «داي زايت» الألمانية أجزاء طويلة من مقال هنتنغتون، حيث انطلق في ألمانيا أيضاً النقاش وتوالت ردود الفعل على النظرية الجديدة في «صراع الحضارات». وفي ذلك الوقت، كان رومان هرتسوغ رئيس ألمانيا. في كل زيارته حول العالم، من الصين إلى باكستان وغيرهما، كان هرتسوغ يحذر من آراء هنتنغتون ويفندها. بل وصل به الأمر إلى أن يصفها بـ«الآراء الشريرة»، معارضاً بشكل قاطع فكرة صراع الحضارات. بعد ذلك بزمن، ألف هرتسوغ كتاباً لمناقشة أفكار هنتنغتون والرد عليها أسماه «مؤكد ليس صراع حضارات». سأل هنتنغتون، طيبي، في إحدى أروقة جامعة هارفارد: «ما هي مشكلة رئيسك؟» واستمع هنتنغتون من صديقه إلى شرح لأحلام هرتسوغ في توحيد الحضارات البشرية! بسبب النقاش الذي أثارته المقالة المحكمّة آنذاك، قرر هنتنغتون توسيع الفكرة وتعميق الدراسة في النظرية التي اعتمدها، ومن ثم إجراء أبحاث ميدانية والخروج بكتاب شامل حول الموضوع.
يقول كوهين، الأستاذ في جامعة هارفارد وزميل هنتنغتون، بشأن النص الذي قدمه زميله قبل إقرار نشره في كتاب: «كان النص جريئاً للغاية، وكذلك سام نفسه». وبدأت دور النشر تتنافس على تلقف المخطوطة ونشرها في كتاب. عرضت دار نشر «Simon and Schuster» مبلغاً من المال مضاعفاً خمس مرات على هنتنغتون للاستئثار بحق الطبع والتوزيع. يقول المسؤول عن دار النشر تلك إنه يعرف هنتنغتون منذ 20 عاماً ويعرف كيف يكتب بشكل لا يتوافق مع رأي الجماعة ويقدم لنظرياته الدعائم الملفتة. لذلك وافق على الفور على نشر الكتاب وتبني توزيعه. في مكتب دار النشر الواقعة في مدينة نيويورك، عرض المؤلف والناشر الخرائط المحددة للحضارات البشرية المتصارعة، بينما وصلت الكثير من الخرائط الفرعية الأخرى وإرشادات نشرها عبر خدمات الفاكس والهاتف. في مدينة ميونيخ الألمانية، كان العمل يجري على قدم وساق من أجل ترجمة النسخة الإنكليزية وطرح الكتاب في الأسواق الألمانية بأسرع وقت ممكن. تمكنت دار «Europa Verlag» من الاستحواذ على حقوق النشر من خلال عرض مضاعف ست مرات، منتزعة الصفقة من دار «Fischer Verlag». وتقول غيزيلا آنا شتومبل، رئيسة الدار المشرفة على الطباعة والنشر، بأن الاتفاق كان نشر الكتاب باللغة الألمانية تحت اسم «حرب المدنيات/ Krieg der Zvilisationen»، ولكنهم اكتشفوا بأن طيبي سبق ونشر كتاباً بهذا العنوان، فاضطروا لتغيير الاسم واستنباط اسم آخر هو «صراع الحضارات/(Kampf der Kulturen». أدى هذا الإجراء، كما قال طيبي بعد ذلك، إلى غضب هنتنغتون وعدم تقبله للعنوان في النسخة الألمانية. فالصراع أعم من كلمة الحرب، وكذلك كلمة «المدنية» أشمل من «الحضارة». هكذا قال أستاذ السياسة الأميركي لدار النشر الألمانية. ولكن كان لدار النشر حساباتها، فمضت في قرارها للأمام.
في صيف عام 1996، صدر كتاب «صراع الحضارات» بشكل متزامن على ضفتي الأطلسي. تقول شتومبل ما يلي: «طيلة عملي لمدة ثمانية أعوام مع دار النشر تلك، لم أجد كتاباً أحدث كل هذه الضجة والنقاش وأثار الجدل مثلما فعل كتاب صامويل هنتنغتون. قامت الصحافة الألمانية بتغطية صدور الكتاب في الأسواق، وكانت أغلب التعليقات وردود الفعل سلبية، حيث كان الرفض هو السمة الطاغية للكتابات التي تعرضت لمؤلف هنتنغتون الجديد». بدا الكل يرفض فكرة صراع الحضارات في ظل عدم تقبل وجود حضارات بشرية وهي تتصارع لدوافع وبواعث ثقافية لا غير. اعتبره اليساريون عدواً للتعايش وللمجتمع التعددي المنفتح وداعياً من دعاة فرض سيطرة الغرب وثقافته وطريقة حياته. مع ذلك، ظل «صراع الحضارات» يحافظ على مكانه الأول في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في ألمانيا. وعندما زار هنتنغتون ألمانيا بغية عرض الكتاب والمشاركة في ندوات حوارية مختصة حوله، لاقى استقبالاً حافلاً وحشداً كبيراً من المتابعين والراغبين في رؤية أستاذ السياسة الأميركي والاستماع إليه بشكل مباشر. أرجع الاقتصادي الألماني هيلمار كوبار، رئيس البنك الألماني، الاهتمام الشعبي والرسمي والنخبوي بالكتاب إلى «رغبة الألمان الدفينة في خلق مخاوف كبيرة والمضي قدماً في الاستعداد لمواجهتها».
في الولايات المتحدة، خلق الكتاب الكثير من ردود الفعل، منها ما هو مؤيد، ومنها ما هو معارض ومخون. لكن في المحصلة، أراد الجميع اقتناء الكتاب وقراءته والتعرف على أفكاره وآراءه. بينما أضحى مرجعاً في العلوم السياسية والاستراتيجيات. وكان يعتبر المصدر الدائم لطلاب الجامعات، بل وحتى في المدارس العادية. تمت قراءته واقتباس فقرات للاستشهاد بها، مع حث الطلاب على التفاعل مع أفكاره ومناقشتها. تُرجم الكتاب إلى 26 لغة، وانضم رئيس وزراء سنغافورة والرئيس الروماني إلى النقاشات التي دارت حوله. أما هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الراحل، مدح الكتاب وقال عنه بأنه «من أهم الكتب التي صدرت منذ نهاية الحرب الباردة». أما وزير الخارجية الباكستاني آصف أحمد علي، انتقد الكتاب، قائلاً: «لا أجد فرقاً بين هذا الكتاب المتضمن نظريات هنتنغتون وبين كتاب كفاحي لأدولف هتلر». كان الرأي العام والمزاج العام في فترة نهاية التسعينات رافضاً للمصطلحات التي استخدمها هنتنغتون في كتابه. وكان الاعتقاد بأن الصراعات التي تنهض بين أبناء الثقافات الواحدة هي أكبر وأخطر واكثر حضوراً من الصراعات بين الثقافات والحضارات المتعددة. امتعض الجميع من الزعم بوجود حالة عداء بين الحضارة الإسلامية والغرب، واعتبر كثيرون بأن العداء والتربص الإسلامي بالغرب وتهديده محض خيال وأسطورة خطر يٌراد لها أن تحتل مكان الخطر الشيوعي بالنسبة إلى الغرب، بعيد فترة انتهاء الحرب الباردة.
وفي 11 سبتمبر/أيلول 2001، وقع الهجوم المروع على الولايات المتحدة وبدأت الأصوات الناقدة لنظرية هنتنغتون تخفت. كتب البروفيسور فؤاد عجمي، المختص بشؤون الشرق الأوسط، مقالاً قبل ذلك في «فورين أفيرز» سخر فيه من تنبؤات هنتنغتون في إمكانية أن يسيطر الإسلاميون على الحكم في مصر أو أن تنحو تركيا منحى التشدد الديني وتعطي ظهرها لمبادئ العلمانية. ولكن عاد بعد 11 سبتمبر/أيلول ليكتب في صحيفة «نيويورك تايمز»: «لم أكن أؤمن بنظريات هنتنغتون وتنبؤاته حول صراع الإسلام والغرب. كنت مخطئاً». وكتب روبرت بندر أن «الناس فهمت من كتاب هنتنغتون إنه يدعو للعنف وللتصارع بين الحضارات. ولكن على النقيض من ذلك. حذّر الرجل من وجود احتقان وطاقة كبيرة لظهور الصراع، وطالب بالعمل على تفاديه والحيلولة دون اندلاعه. لقد دعى هنتنغتون إلى فهم الحضارات الأخرى والتفاهم معها والتحاور معها من أجل تهيئة فرص عيش مشترك أفضل في هذا العالم». في الفترة التالية، كانت إدارة الرئيس جورج بوش الابن تعتمد كثيراً على هذا الكتاب في الاستدلال على الصراع والاختلافات وضرورة النيل من الخصوم لإنقاذ «الحضارة من البربرية». ولكن هنتنغتون رفض هذا الاستغلال لآراءه، وقال إن «هذا الفعل يصب في خانة مساعي أسامة بين لادن في اعتبار أن هناك حرباً بين الإسلام والغرب، وأن الغرب يضمر الحرب للدين الإسلامي. ولو نجح بن لادن في ذلك المسعى، ستحل الكارثة». ومن المحتمل أنه لو كان هنتنغتون حياً، وهو الذي توفي عام 2008، لأطلق نفس الكلام على الهجوم الإرهابي الذي طال باريس في 2015.
كان هنتنغتون يحذّر دائماً الغرب من إهانة وجرح المشاعر الدينية والثقافية للآخرين. وآمن بأن الحضارات الأخرى لا يمكن لها أن تسير وفق التصور الغربي للحياة. وكلما توسع النقاش حول حيثيات كتابه وطال الجدل الأفكار الفرعية والجزئيات، بدا أستاذ السياسة أقل حماسة للكلام حول الكتاب والتعليق على الآراء الواردة بحقه. من يقرأ اليوم «صراع الحضارات» الصادر عام 1996 سيندهش من توصيف هنتنغتون آنذاك وتحذيره «شباب الروك» المسلم في الغرب. أولئك الذين يتعلمون فن صنع «القنابل والعبوات الناسفة». وكيف أنه حذر من تشظي وتجزئة أوكرانيا، والتي «ستأتي بعواقب أكثر دموية من عواقب تقسيم تشيكوسلوفاكيا». وكيف استشهد هنتنغتون حينئذ بجنرال روسي قال بأن السنوات الخمسة عشر المقبلة ستشهد رجوع شرق أوكرانيا إلى حضن روسيا. وكيف عبرّ هنتنغتون عن مخاوفه من أن تلجأ تركيا، التي تلهث خلف الاتحاد الأوروبي، إلى خلق مجموعة إسلامية وتحالف يضم دولاً تنتمي لحضارة واحدة وقيادة هذا التحالف والاندماج فيه نكاية بالغرب وأوروبا التي ترفض استقبالها. وكيف نظّر هنتنغتون إلى معاداة ألمانيا والغرب للإسلام وكيفية تزايد أعداد المسلمين في الغرب نتيجة موجات الهجرة الضخمة، وكيف أن التحذير من «أسلمة الغرب» سيظهر في وقت قريب.
كانت نظرة هنتنغتون للمستقبل وتنبؤه بالحوادث سابقة لعصره تماماً. لكن ما يهدئ النفوس ويثير فيها الراحة هو أن الرجل لم يكن نبياً. لكن يبقى السيناريو الخطير والتنبؤ الذي طرحه في منتهى كل أبحاثه حول احتمالية الصراع والحرب بين الصين والغرب، مفتوحاً. يعتقد بسام طيبي بأن المجريات المعاصرة والتاريخ القريب يؤكد جزءاً كبيراً من نظرية هنتنغتون. ويؤكد طيبي بأن الصراع بين الغرب والإسلام اندلع منذ زمن، وأن الهجمات في نيويورك وباريس لم تكن سوى علامات تدل على وجود هذا الصراع. لكن يذهب طيبي إلى أن هنتنغتون استخف بعملية التحول لدى الحضارات، وأخطأ عندما ظن أن الصراع بين جهتي العالم هو صراع ثابت ويمشي في مستقر واضح.
طيبي مسلم معتدل ويؤمن بأن الإسلام قابل للتغيير، ويطالب المسلمين في الغرب بالاندماج وتطوير «الإسلام الأوروبي». يوجد اسمه على لائحة الموت لدى الإسلاميين المتطرفين. طالب طيبي الغرب بضرورة إصلاح نظام وسياسة الهجرة والدمج. ويعتقد بأن الحكومات والدوائر الغربية تعتم عليه وتتجاهل عمله ودراساته. لم يعد يعرف طيبي أين هو موطنه. ربما لأنه يعمل ويعيش هناك حيث تتأهب الحضارات للانقضاض على بعضها البعض.

* مجلة «Cicero» الألمانية المتخصصة في الثقافة السياسية

الترجمة: المركز الكردي للدراسات

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد