كرد سوريا: موجز تاريخ الأذى

شورش درويش

في سياق الحديث عادة عن القضية الكردية، غالباً ما تطرح على أنها قضية هوية فرعية في سوريا، في حين أنها في الحقيقة هوية رئيسية بالنسبة لمعظم الكرد في ظل غياب هوية سورية رئيسية جامعة تتفرّع عنها هويات إثنية وثقافية، وأن الخوض في قضية فرعيّة قد ينحّي جانباً الحديث عن قضية رئيسية وهي التحوّل الديمقراطي في البلاد، أو اعتبارها قضية «تساقطت على سوريا من تركيا» وفق بعض أنصار النظرية الشوفينية التي تستدلّ على قراءات تاريخية مزاجية ومنتقاة تسعى إلى تصوير المناطق التي يشغلها الكرد بأنها امتلأت عقب ترسيم الحدود بفترة وجيزة. غالباً ما كانت هذه المقاربات تؤدي إلى تجهيل المجتمع السوري بالقضية الكردية وتزيد بالتالي عدم مبالاته، بل وحتى عدوانيته، تجاهها.
أتاحت انتفاضة كرد سوريا الدامية عام 2004 هامشاً للفت انتباه السوريين إلى وجود مشكلة قومية في أطراف البلاد حيث يتركّز الوجود الكردي. لكنّ ضبابية المشهد آنذاك وتشويش النظام على ما جرى خلال الانتفاضة الشعبية ضيّقت الهامش مرّة أخرى، مضافاً إلى ذلك لغة القسوة والعنف اللذين اتبعهما النظام إزاء المطالبات الكردية بالعدالة والاعتراف بوجود قضيّة كردية تستحق الحل. ولعل اندلاع الاحتجاجات في سوريا عام 2011 أسس لمرحلة إعادة التعريف بحضور الكرد الإثني والواضح في المشهد العام. غير أن تسارع الأحداث، أفقد الكثير فرصة الاطلاع على حقيقة وجود وطبيعة القضية الكردية وآفاق حلّها تالياً، فضلاً عن أدوار الدول الأخرى كتركيا، وأحياناً روسيا، في تشويه جوهر المطالبات الكردية ووصفها بأنها دعوات «انفصالية» أو أن الكرد ينفّذون أجندات خارجية.
في هذا المقال، سيكون هناك سعي لتكثيف ما يمكن أن يقال في شأن وجود قضية كردية سورية. فمن المفيد تلخيص هذه القضية والحفاظ على مسائل التحقيب وتتالي القوانين والإجراءات التمييزية وعسف الأنظمة المتعاقبة وإعادة تركيب السياسات التي أفضت إلى إنكارين: إنكار وجود قضية كرديّة، أو إنكار الوجود الكردي برمته. لذا، من المفيد تقديم إحاطة تكون بمثابة ألف باء أو دليل للمبتدئين الراغبين في معرفة القضية الكردية، على أن تكون بشكل «موجز» على ما درجت عليه اتجاهات في الكتابات الحديثة التي تحاول تقديم موجزات لتواريخ الأشياء والمدن والاختراعات. بكلمات أخرى، هذا المقال موجّه بدرجة أساسية للقارئ السوري غير الكرديّ، إذ لم يكن كثير السوريين مطلعين على وقائع سياسات الاضطهاد وإنكار الوجود التي تعرّض لها كرد سوريا. هذا قد يجري تفهمه بالنظر إلى السياق التاريخي لتنامي الاتجاهات الشوفينية التي حكمت سوريا، حين حاولت باكراً تعريف سوريا بأنها قطر عربيّ صرف وقطعة عربية خالصة من عالمٍ عربيّ متخيّل. وبالتالي، فإن الحديث عن وجود كرديّ أصيل، غير طارئ، قد يعكّر صفو هذه السرديّة المتوارثة.
ليست الغاية من النظر إلى الوراء العيشَ في إهاب مظلومية يُعاد إنتاجها. فالحقيقة أن المجتمع الكردي يتمتع بقدرة على النسيان عزّ نظيرها، إذ لم يعد الحديث عن الاضطهاد والتمييز العنصريّ وعنف الأنظمة وحملات الاعتقال والإبادة الثقافية وحتى القتل بدمٍ بارد يشغل مكاناً مركزياً في خطاب الاتجاهات السياسية الكردية. قد يكون هجران المظلوميات هذا دليلاً على التعافي والتخلّص من أطياف الماضي. لكن في المقابل، لا يمكن رسم ملامح القضية الكردية الراهنة دون الخوض في سياق تاريخي مخفف وتعريفٍ بمحطات الأذى الكثيرة والمتواصلة التي عايشها الكرد، لا لأننا مسكونون بالماضي أو أنه يحركنا بقدر ما أن الماضي مستمر بوجوه أخرى.
كذلك، فإن ما لا ينبغي الخوض فيه، كما جرت العادة في كتابات العديد من الكرد والعرب، هو السعي إلى تثبيت الأسبقية التاريخية في التواجد داخل هذا الكيان المسمّى سوريا؛ فالمؤكّد أن ترسيم الحدود بين فرنسا وتركيا عام 1922 أفضى إلى تقسيم الجغرافية الكردية، مثلما أفضت ترسيمات فرنسا وبريطانيا إلى تقسيم الجغرافية العربية في الشام والعراق. وبالتالي، فإن هذه «البلدان الجنينية» (وفق تعبير جيمس بار)، وجدت بإرادة استعمارية لا بإرادة المحكومين.
تتوقف الكتابة في هذه الورقة قبل عام 2011 بقليل، والذي سيرسم مع الأعوام التي تلته، أفقاً جديداً ومضطرباً أمام كرد سوريا ومرحلة أخرى محفوفة بالمخاطر وحروب الإبادة والقتل على الهوية والتغيير الديمغرافي نتيجة إدخالهم في دورة عنف جهادي أو إقليمي أو سياسات قهر ممنهج تتبعها المليشيات التي تسمى راهناً بـ«الجيش الوطني». كل هذا يحتاج إلى فرصة أخرى لمناقشته.

محاولة لتكثيف البدايات

في ثلاثينيات القرن الماضي، سعت اتجاهات (شخصيات) كردية وسريانية وأقلية عربية إلى المطالبة بنوع من الحكم الذاتي أسوةً بالوضع الإداري للعلويين والدروز، أو بوضع خاص كالذي جرى تطبيقه في لواء اسكندرون. وكان يشار إلى هذا الاتجاه بـ«الكتلة الكردية – المسيحية». إلّا أن أدوار تركيا وارتفاع وتيرة التعاون بينها وبين فرنسا، والصعود المتنامي للكتلة الوطنية في دمشق وحلب، بدّد آمال الساعين إلى حكم ذاتي في الجزيرة العليا. أدى احتواء فرنسا للطبقة السياسية والثقافية الكردية بعيد تفاهمها مع تركيا إلى إرساء سياسة جديدة تسعى إلى توطين النخب القومية الكردية في الحواضر البعيدة عن المناطق الكردية التقليدية.
خلال السنوات التي أعقبت استقلال سوريا، بدا أن حركة «خويبون» القومية الكردية، التي تأسست عام 1927، بدأت تفقد حضورها السياسي والثقافي مع انكباب شخصيات مؤثرة فيها على المشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية السورية، الأمر الذي سيفسح المجال لانطلاق أوّل حزب كرديّ سوريّ حاول التعبير عن تطلّعات كرد سوريا. ففي 14 يونيو/حزيران 1957، أقدم نشطاء قوميون على الإعلان عن أوّل حزب كرديّ سوريّ (الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا) مستفيدين من الحياة الديمقراطية النسبية التي عمّت البلاد عقب موجات من الاضطرابات السياسية والاقتصادية والانقلابات العسكرية، وإلى حاجة المجتمع الكرديّ الخام للتنظيم والدفاع عن حقوقه القومية والثقافية. من المفيد القول إن الأصوات القومية العربية المدفوعة بدعايات الإخوان المسلمين كانت تحذّر من قيام حكومة كردية عسكرية عقب انقلاب حسني الزعيم في مارس/آذار 1949، الأمر الذي أدّى لاحقاً إلى استبعاد الضبّاط الكرد من الجيش وبعض الإداريين عن الخدمة العامّة، ما أدى إلى تقليص فرصة الاندماج الكردية داخل الدولة السورية.
غير أن الربيع الهانئ لتأسيس الحزب الكردي الأوّل سرعان ما أعقبه تغيّر جذريّ مع الإعلان عن اتحاد كونفدرالي بين مصر وسوريا (الجمهورية العربية المتحدة 1958-1961)، لتبدأ مرحلة التضييق والملاحقة والسجن بحق مناضلي الحزب الكردي، لتصل مطالبات المدعي العام إبان محاكمة قيادات الحزب إلى الدعوة لإعدام القياديين نور الدين زازا وأوصمان صبري ورشيد حمو، فيما طالب الادعاء بعقوبة السجن لمدد تتراوح من 2 إلى 6 سنوات لبقية المحتجزين. من المهم التذكير أن من تعرضوا للسجن من قيادات وكوادر الحزب بلغ خمسة آلاف كردي بحلول عام 1960.

الحزام والإحصاء: قضايا طارئة لكن مركزية

لم يكن عهد الانفصال أقلّ وطأة على الكرد من فترة حكم جمال عبد الناصر ووزير الداخلية ورئيس المكتب التنفيذي للإقليم الشمالي (سوريا) عبدالحميد السرّاج. فمعه، سيصار إلى تغيير اسم الجمهورية إلى «العربية السورية» بشكل يزايد فيه الانفصاليون على عروبة عبدالناصر. في ظل حكومة الانفصال، وقبل انقضاض البعثيين على السلطة، أجري الإحصاء الاستثنائي في محافظة الحسكة بموجب القرار رقم 93 عام 1962. ومعه، أورث نظام الانفصال كرد سوريا قضية جديدة، وهي قضية عشرات الآلاف من المجرّدين من الجنسية ومكتومي القيد ممن أطلقت عليهم السلطات صفة «أجانب محافظة الحسكة» والتي ستصبح إحدى القضايا المركزية في الخطاب السياسي الكردي. ولئن كنا في إزاء شرح تضاعيف سياسات الاضطهاد، فإن التجريد من الجنسية كان يرمي إلى إحداث تغيير ديمغرافي في المنطقة الكردية (الجزيرة) بتجريد حوالى 120 ألف نسمة من جنسيتهم السورية بذريعة حكومية مفادها أن 60 في المئة فقط من الكرد هم سوريون بينما البقية قدموا من تركيا والعراق «بدعم من الإمبريالية الأميركية». والمفارقة وقتها أن بعض العائلات قسمت إلى أخوة مواطنين وآخرين «أجانب».
أدت مأساة المجردين من الجنسية إلى حرمانهم من التوظيف والتعليم والملكية والمشاركة السياسية وتثبيت الزواج القانوني وحتى الإقامة في الفنادق أو السفر خارج سوريا. وبطبيعة الحال كانت أحوال «مكتوم القيد» أقسى من وضعية المجرّد من الجنسية أو ما كان يطلق عليه «الأجنبي». أدت عملية إسقاط الجنسية إلى خسارة العديد من المجردين لحقوق ملكيتهم للعقارات والأراضي الزراعية، والتي منح قسم منها لمواطنين عرب عمدت السلطات إلى توطينهم في المناطق ذات الأغلبية الكردية إمعاناً في تغيير تركيبتها الديمغرافية.
ولعلّ إشارة الضابط في الأمن السياسي حينها، والوزير لاحقاً، محمد طلب هلال، في الكرّاس الذي حمل اسم «دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية الاجتماعية السياسية» إلى وجوب تغيير ديمغرافية المناطق الكردية في الجزيرة، مثّل المنطلق النظري الأخطر للشروع في سياسات شوفينية، ذلك أن هذا «الكاتالوغ»، الذي اعتبره السياسي الكردي عصمت شريف وانلي بأنه يوازي كتاب أدولف هتلر «كفاحي»، ألهم دمشق ثم حزب البعث العربي الاشتراكي منذ عام 1963 اعتماد سياسات عدوانية تجاه الكرد. كرّاس هلال حمل كل ملامح السياسة العنصرية والشوفينية التي يمكن لفكر عرقيّ أن يبلغها، إذ أوصى الضابط بإعادة توزيع الكرد وتغيير أماكن إقامتهم وتذرير تجمّعاتهم البشرية، وإلى تجهيلهم عبر منعهم من حق التعليم وإفقارهم لحملهم على الهجرة وتأليب بعض الكرد ضد بعضهم الآخر. أما المفارقة المذهلة، فجاءت في اقتراحه «إنشاء مزارع جماعية للعرب الذين تسكنهم الدولة في الشريط الشمالي على أن تكون هذه المزارع مدرّبة ومسلّحة عسكرياً كالمستعمرات اليهودية على الحدود تماماً».
لعل مشروع التغيير الديمغرافي الأوسع، قبل عام 2018 في عفرين و2019 في سره كانيه/ رأس العين، جاء ابتداءً في فترة الجمهورية العربية المتحدة عبر توطين سكان عرب مستقدمين من درعا والسويداء وإدلب وحماه وإسكانهم في عشر مستوطنات في أعوام 1959 – 1960، ليتوسع فيما بعد باسم مشروع «الحزام العربي» ( 1974 – 1975) حين نفّذ المشروع بعرض 10 كم وبطول 275 كم على طول الحدود مع تركيا والعراق، واستقدمت 4000 عائلة من محافظتي الرقة وحلب. بلغ مجموع المتضررين جراء عملية إعادة التوطين قرابة 150 ألف نسمة في 335 قرية. أما المساحة التي غطّاها المشروع في الجزيرة، فبلغت 3 ملايين دونم في محافظة الحسكة وحدها، وأكثر من مليوني دونم كانت نزعت من ملكية أبناء قبيلة المليّة بزعامة آل إبراهيم باشا في منطقة تل أبيض التابعة لمحافظة الرقة.
خلفت جريمة مشروع الحزام العربي مشكلات مستدامة لا يمكن حلّها في الوقت الراهن، ذلك أن العرب المستقدمين والذين يشار إليهم بـ«الغمر» باتت أجيالهم الثلاثة أو الأربعة المتعاقبة التي أسكنت في المنطقة مترسخة على نحو أكبر مما كان قبل 40 عاماً حين كان يستأذن «المغموريّ» من الملّاك الكرد الأصليين لأجل إقامة الصلاة، إذ إن الحديث النبوي «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين» لا يجيز الصلاة فوق أرضٍ مغصوبة انتزعت ملكيتها عنوة. كان الاستئذان لحظتئذ سند ملكية معنويّ من المستوطن للمالك، ويكشف عن أن من جيء بهم كانوا يعلمون أن للأرض أصحاباً أصليين. وبالتالي، فإن النظام البعثيّ هو من حاول إقحام العرب المستقدمين من محيط محافظة الرقة عقب إنشاء سد الفرات في سياساته العنصرية. وتجدر الإشارة إلى أنه كانت هناك مجموعة رفضت استملاك الأراضي الخصبة في محافظة الحسكة لحرمانية ذلك أو خشية أن يدخلوا في دورة عنف مع الملاك الأصليين ليتم توزيع أراضٍ لهم جنوب محافظة الرقة كانت أقلّ خصوبة وصلاحية للزراعة.
دفع الحزام العربي الفلاحين الكرد المتضررين إلى الهجرة بحثاً عن لقمة العيش، وأفرغت تلك القرى الـ335 من سكانها الكرد، وحظر عليهم الاستثمار في محيط قراهم الأصلية أو بجوارها. كما لم تجدِ أعمال العصيان والتمرّد على قرارات وجوب إخلاء المزراع وترك المنشآت الزراعية في مهلة قصيرة نظراً لتفاوت القوّة وجدّية النظام في تنفيذ المشروع. كذلك، فإن المساحات التي جرى إخلاؤها أصبحت جزءاً من مشاريع «مزارع الدولة» أو تتبع مناطق إنتاج زراعي تتولاه جمعيات زراعية أسوة بنموذج المزارع الجماعية التي عُمل بها في ألمانيا الشرقية. وكان خبراء من هذه الجمهورية الزائلة يتابعون سير عملية الإنتاج على مدى سنوات، إلّا أن أصل المشروع لم يكن مأخوذاً بالتجربة الاشتراكية في ألمانيا الشرقية أو بزيادة الإنتاج بقدر ما استلهم روح تجربة الكيبوتسات الإسرائيلية على ما أراده محمد طلب هلال في كراسه، أي بناء مستوطنات نموذجية زراعية مسلّحة تهدف إلى تغيير وجه المنطقة الكردية في الجزيرة. كما نُفّذ مشروع آخر عام 1967 عقب الهزيمة العربية في الحرب في عمقٍ كرديّ آخر حين قام النظام البعثيّ بإخلاء شمال غرب عفرين بحجة إقامة «ثورة زراعية اشتراكية».
توقّفت سياسة التغيير الديمغرافي الحادة عام 1976 مع التدخّل السوري في لبنان، إلّا أن مفاعليها لم تتوقف بأثر رجعي. فالطرد الممنهج للفلاحين الكرد واضطرار قسم منهم للعمل في الحواضر الكبرى في حلب ودمشق كعمال في «الدرجة الأدنى من الطبقات الاجتماعية» أسس لنموذج الكردي المقهور الذي سينهال عليه الشوفينيون العرب لاحقاً بأنه محض «بويجي» (ماسح أحذية). ففوق أن هذه التسمية وسواها تعتبر تنميطاً عنصريّاً، فإنها تكشف أيضاً عن ثنائية «السيّد مالك البلاد والعبد» دون الوقوف على الموجبات التي أدّت إلى تحويل ميسوري الحال والملاكين في منطقة سورية هي الأخصب والأكثر إنتاجاً إلى أناس يعملون بالإكارة أو في شروط إنسانية صعبة. ولعل ما قاله السياسي الكردي ومؤسس أول حزب كردي عبدالحميد درويش لوصف معاناة الكرد المجرّدين من الجنسية والمطرودين من أرض آبائهم وأجدادهم، يمثّل التكثيف الأكثر واقعية: «لقد عانينا أكثر مما عانى سابارتاكوس في روما».

التسعينيات ووجوه التعريب الأخرى

كانت التسعينيات، وما قبلها بقليل، سنوات التحوّل الأكثر وضوحاً في سياسة حافظ الأسد التي أحدثتها جملة أحداث عالمية وإقليمية: انهيار المنظومة الاشتراكية وتحلل الاتحاد السوفيتي، وغزو العراق للكويت وما تبعه من بروز الكرد كلاعب جديد محتمل في العراق مع فرض «منطقة راحة» فوق أجزاء من كردستان العراق عبر القرار 688 الصادر عن الأمم المتحدة، وهي المنطقة التي سارع كرد العراق لتشكيل نظام حكم ذاتي عليها. هذه التحوّلات انعكست على كرد سوريا في اتجاهين: الأوّل محاولة الاستيعاب عبر إفساح مجال ضئيل وغير تمثيلي بشكل جيّد وكافٍ للكرد في انتخابات مجلس الشعب لدورة عام 1990، فيما تمظهر الاتجاه الثاني بفرض حزمة قرارات تمييزية ذات صبغة عنصرية. وبطبيعة الحال ركّز نظام البعث في التسعينيات على «الإبادة الثقافية» وشنّ حرب على اللغة ومصادر الهوية الكرديتين.
فعلياً، خضع كرد سوريا للعيش في ثنائية «الإنكار والمقاومة». فكل سياسة يتبّعها النظام الحاكم تستوجب ردّ فعلٍ كرديّ موازٍ، دون أن يكون بالضرورة متناسباً مع شدّة الفعل. لذا، وكشكل من أشكال المقاومة غير المنظّمة، أبقى الكرد في تداولاتهم اليومية على التسميات الأصلية لمئات القرى والمدن التي تمّ تعريبها. بعض التسميات الجديدة بدت مهجوسةً بنقل أسماء مدن ومناطق محتلّة أو قصيّة على أطراف سوريا إلى الجزيرة، مثل قرى القنيطرة والجولان. وبعض القرى تمت ترجمة اسمها الكردي إلى العربي ترجمةً حرفية: كر صور التي عرّبت إلى تل أحمر. أما القرى الأخرى، فتم تلطيف وقع ترجمتها وفق المنظور «المؤدّب» للنظام، فصار اسم كر كُند مثلاً، والتي تعني تل البوم إلى «تل البلبل». أو ذهب النظام لإعادة تسمية القرى بأسماء لا تمت للأسماء الأصلية بصلة. ففي عام 1998 فقط، قام النظام بتعريب أسماء ما مجموعه 209 قرى.
وبعكس سياسة الحزام العربي التي استهدفت كرد الجزيرة، فإن تعريب أسماء الأماكن طاول المناطق الكردية الثلاث: الجزيرة، وعفرين، وكوباني. وهذه الأخيرة أصرّ النظام على تسميتها «عين العرب» (كان تنظيم داعش بالمناسبة يسميها –عين الإسلام– في تسجيلاته رغم عدم وجود أثر إسلامي في طول منطقة كوباني وعرضها). يروي الصحافيّ الألماني غنثر دشنر كيف أن الرسائل التي كان يوضع على غلافها عنوان ديريك، وهو اسم كرديّ سائد لواحدة من أقدم القصبات الكردية في سوريا، كانت تعاد ويوضع على غلافها «مكان غير معروف»، ذلك أن النظام عرّب اسمها إلى «المالكية». وبالمثل، عرّب كركى لكي إلى «معبدة»، وتربه سبيه إلى «القحطانية».
لكن يبدو أن الشراهة للتعريب قدّر لها أن تتخذ مضامين أوسع من تغيير أسماء الأماكن، إذ سيحظر نظام البعث تسمية المواليد بالأسماء الكردية بوضع عراقيل أمام الراغبين في تسمية المواليد بأسماء كردية في فترات متواترة في السبعينيات والثمانينيات. وكان آخر قرار في هذا الاتجاه ما قام وزير الداخلية محمد حربة عام 1992 بإصدار قرار يحمل الرقم 122 طلب فيه إخضاع إعطاء اسمٍ للأطفال إلى مراكز الأمن العام، الأمر الذي حدا بمركز السجل المدني رفض تسمية عدد من المواليد بأسماء كردية أعطاها أهلهم لهم، وهو الأمر الذي سيدفع المضطرّين إلى اختيار اسمين لأبناهم وبناتهم، الأول هو الاسم المسجل في السجلات الرسمية، فيما الاسم الآخر كرديّ يكنّى به الطفل خارج المدرسة وفي نطاق العائلة.
كانت المناطق الكردية في حكم منطقة «عمليات أمنية» متواصلة. لذا، فإن صلاحيات المحافظ بدت أوسع مما هي عليه في محافظاتٍ أخرى. الطبيعة الأمنية لهذا المنصب دفعت محافظ الحسكة محمد مصطفى ميرو إلى إصدار قرار رقم 1012/س/25 لعام 1986 منع فيه استخدام اللغة الكردية في دوائر الدولة. وبطبيعة الحال، كانت الكردية محظورةً أساساً وممنوع استخدامها. وحتى الكرد الذين لا يعرفون العربية، لم تخصص لهم المحاكم مترجمين محلّفين أسوةً بالأجانب الذين لا يتحدّثون العربية. وكجزء من سياسة الإبادة الثقافية، فإن سياسة حظر الكردية طاولت حفلات الأعراس. ففي عام 1989، أصدر ميرو قراراً آخر حمل رقم 1865/س/25 يمنع الغناء الكردي في الاحتفالات والأعراس. كما أن محاربة الغناء والفلكلور الكردي لوحظت خلال إحياء احتفالات يوم النوروز في كل عام، حيث التضييق الأمني على فرق «مسرح نوروز» ومصادرة مكبّراتهم الصوتية ومعدات الفرق، أو استدعاء المشتغلين في تلك المسارح، فضلاً عن أن احتفالات النوروز كانت تشهد محاولات إلزام للطلبة والموظّفين بالحضور والدوام. لكن في 1988، أصدر حافظ الأسد المرسوم رقم 104 الذي نصّ على تحديد يوم 21 مارس/آذار عيداً للأم وعطلة رسمية في البلاد. كانت محاولة نقل عيد الأم من 13 مايو/أيار إلى 21 مارس/آذار في سوريا قابلها بعث العراق بابتكار مناسبة «عيد الشجرة» للتعمية على احتفالات النوروز، فيما زعمت تركيا أن النوروز ما هو إلّا عيد تركيّ قديم. والحال، أن الأنظمة كانت تعي القيمة المعنوية ليوم النوروز كواحدة من المناسبات التي رسمت الهوية القومية الكردية في العصر الحديث ومحاولة تطوير سياسات الاستيعاب السلبية بحيث تحاول إفراغ المناسبة من الشحنة القومية التي رسمها المخيال الجمعي الكردي في مقابل سياسات الإنكار.
كذلك فإن ميرو لم يتوقف عند حد حظر الغناء والكلام بالكردية، بل أصدر في 1994 قراراً حمل الرقم 1865/س/25 والقاضي بإغلاق المحلات التي تحمل أسماءً كردية. وتبعاً لذلك، باشرت سلطات إنفاذ القانون بإلزام أصحاب المحلات بتغيير أسماء المحلات ذات الدلالة الكردية. من بين ذلك، جرى حتى تغيير أسماء المحلات التي تحمل أسماء ملتبسة، أي ثنائية الاستعمال، كما في قصة استديو للتصوير برأس العين حين حاجج صاحب المحل بأن الاسم المطلوب تغييره «فلك» إنما هي كلمة عربية وردت في القرآن أيضاً، إلّا أن موظف البلدية قال إن «النية التي تقف وراء التسمية هي كردية». وبطبيعة الحال، كانت أوامر تغيير الأسماء الكردية للمحلات والمتاجر مسألة مزمنة بدأت مع حكم الرئيس أديب الشيشكلي حين أصدر أوامره بتغيير أسماء المحلات غير العربية، فيما كانت نسبة الرئيس نفسها أعجمية!
كما لا يمكن طيّ صفحة التسعينيات دون المرور على الاعتقالات التعسّفية التي شملت العشرات بفعل الأنشطة السياسية والاحتجاجية والملصقات التي حاولت فضح السياسات التمييزية والاضطهاد القومي، لاسيما مأساة المجرّدين من الجنسية والمطالبة بالمساواة الثقافية والاعتراف بالوجود الكردي.

عقد آخر من القسوة

تفاءلت أوساط كردية بوصول بشار الأسد لسدّة حكم سوريا.كان التفاؤل مبنياً على ما روّج عن انفتاح الأسد الابن ووعوده بالتغيير والإصلاح الذي سيتحوّل إلى شعار آخر بعد قليل من ملاحظة شيء من النشاطية السياسية في أوساط المعارضة التي أتعبتها سجون الأسد الأب، إذ سيصار إلى رفع النظام شعار «التطوير والتحديث» على ما يحويه من التباس بعكس الشعار الأسبق «التغيير والإصلاح». داخل هذه التفاعلات، ساهم الكرد في التشبيك مع المعارضة عبر المنتديات التي انتشرت في غير محافظة سورية والتي أفسحت المجال بعد عزلة تاريخية فرضتها الأنظمة على الكرد لتقديم معاناتهم مع الاضطهاد والتمييز للرأي العام السوريّ. ومع «إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي»، انخرطت أحزاب كردية في هذا الائتلاف محاولةً منها تكسير جدار العزلة التاريخية على الحركة السياسية الكردية. وعليه، تبنّت مجموعة إعلان دمشق تصوّرات لحل القضية الكردية تكثّفت بالتالي: «إيجاد حل ديمقراطي عادل للقضية الكردية في سورية، بما يضمن المساواة التامة للمواطنين الأكراد السوريين مع بقية المواطنين من حيث حقوق الجنسية والثقافة وتعلم اللغة القومية وبقية الحقوق الدستورية والسياسية والاجتماعية والقانونية، على قاعدة وحدة سورية أرضاً وشعباً. ولابد من إعادة الجنسية وحقوق المواطنة للذين حرموا منها، وتسوية هذا الملف كلياً».
سرعان ما خاب رجاء كرد سوريا بإمكانية أن ينصفهم الحكم الجديد، إذ سبق لأحزاب كردية أن تقدّمت بعرائض ومناشدات لإيجاد حل لمأساة المجرّدين من الجنسية دون جدوى. كما أن التظاهرة السلميّة في العاصمة بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان عام 2002، للمطالبة بإعطاء الكرد المجرّدين حقوق المواطنة الكاملة، جوبهت باعتقال بعضٍ من منظميها، وهو الأمر الذي سيتكرر في التظاهرات الكردية الأخرى. ودائماً ما كان المعتقلون الكرد يساقون لمحكمة أمن الدولة بتهمة «فصل جزء من الأراضي السورية وإلحاقها بدولة أخرى»، دون أن تشير المحكمة إلى أي دولة بالضبط يريد المعتقلون أن يلحقوا بها الأراضي التي يسعون لفصلها.
لكنّ الاختبار الدامي الأوسع حصل في 2004 إبان انتفاضة 12 مارس/آذار الكردية التي انطلقت شرارتها من ملعب القامشلي حين همّ عناصر النظام بقتل مواطنين كرد، فيما كانت حصيلة أيام الانتفاضة الكردية التي عمّت المدن الكردية في الشمال السوري ومناطق تواجدهم بحلب ودمشق استشهاد 36 مواطناً كردياً وإصابة أكثر من 160 آخرين، واحتجزت الأجهزة الأمنية أكثر من ألفي شخص. وانتشرت تقارير عن تعذيب وإساءة معاملة المحتجزين، ومنهم أطفال ونساء. شعر الكرد بعد قليل من توقّف احتجاجاتهم بأنهم تُركوا وحيدين في مواجهة آلة قمعٍ أمعنت في الترهيب والقسوة وحاولت تأليب الرأي العام العربيّ في الجزيرة وبقية مناطق التواجد الكرديّ، بل إن قسماً من المعارضين أبدى تصديقه لرواية النظام للأحداث.
وفي مايو/أيار عام 2005، جرى اغتيال رجل الدين الكردي معشوق الخزنوي الذي كان له دور في التعبئة الكرديّة عقب انتفاضة 2004، فيما سيعمد النظام لاحقاً إلى اتباع وسائل القسوة عبر فتح النار على محتفلين بليلة النوروز عام 2008 وقتل ثلاثة شبان وإصابة آخرين.
لم يكن العقد الأول من الألفية امتاز عن حقبة حكم البعث الطويلة بسياسة فتح النار فحسب، بل عمد النظام إلى إفراغ المنطقة الكردية عبر المرسوم التشريعي رقم 49 لعام 2008. إذ إن المرسوم منع «وضع أي من إشارات الدعاوى والرهن والحجوزات والقسمة والتخصص… على صحيفة العقار في المناطق الحدودية سواء أكان العقار ضمن المخطط التنظيمي للمدينة أو خارجه، إلا بعد الحصول على الترخيص القانوني من وزارة الداخلية»، معتبراً كامل محافظة الحسكة «منطقة حدودية». وباتت التراخيص بحاجة إلى موافقات أمنية. وهو ما عنى أن الكرد سيخضعون لشكل آخر من الرقابة ومن تعطيل لحقوق القسم الآخر من الكرد، أي الكرد المواطنين، الذين سيلحقهم هذا المرسوم بفئة الكرد المجرّدين من الجنسية. أدى هذا المرسوم المجحف إلى تعطيل حركة البناء العمراني في المنطقة خلال تلك الفترة. كما دفع بأعداد كبيرة من الكرد، ممن خسروا مصادر رزقهم في أعمال التشييد والبناء، إلى الهجرة إلى دمشق وريفها وحلب، وبدرجة أقل حمص ومدنٍ أخرى، والذين كابدوا في شروط صعبة لتأمين لقمة عيشهم.

تكثيف أخير

لم تنشأ القضية الكردية في سوريا من خطأ استعماري غربي بعد تقسيم المنطقة عقب الحرب العالمية الأولى وتشييد دول «وطنية» فحسب، بل ساهم بشكل كبير في نشأتها تورّط الأنظمة السورية المتعاقبة في عدم إيجاد حل عادل وتسوية قانونية لهذه القضية، وفاقمها الانهماك بتطبيق نظريات شوفينية وعنصرية وقوانين تمييزية على الدوام.
خلال مئة عام من تاريخ سوريا، أدخل الكرد في مختبرات عدّة وحقول تجارب لنظريات غاية في العنصرية. مرة، عبر تشويه تاريخ تواجدهم وبروز نظريات اعتباطية حول تاريخ مناطق تواجدهم التقليدية أو أصولهم التاريخية. ومرة، عبر الحط من شأنهم الاجتماعي واستخدام وسوم عنصرية ومتشاوفة. ومرة أخرى على يد الأنظمة عبر القوانين التمييزية. وأخيراً، عبر عمليات القتل والإبادة ومحاولات الإمحاء والتهجير القسري.
إن تتبع هذا التاريخ الطويل من الأذى يفرض على السوريين الاطلاع على القضية الكردية السورية وتشعّباتها بمرآة ما جرى ويجري. وبالتالي، فإن محاولات التعامي عن وجود قضية كردية أو محاولة ربطها بمسار إقليمي أوسع قد يجرّ على سوريا المزيد من المشكلات. ففي الثمانينيات والتسعينيات، نشطت «اللجان الأمنية» بين تركيا وإيران وسوريا العراق التي نظرت للنشاط القومي الكردي بأنه ذو طبيعة أمنيّة يتوجب تطويقه بالوسائل الأمنية والعسكرية التي تركن للقسوة والعنف والإنكار. وعليه، فإن فشل الحلول الأمنية أو غض البصر عن أحقية معالجة هذه القضية أبقى سوريا في عداد الدول التي تعاني مشاكل قومية مزمنة. ويبقى أن الإقرار بحدوث سياسات عنصرية وتمييزية وإبادة ثقافية وإنكار لوجود الكرد وهويتهم، هو المقدمة العامّة المطلوبة للتخلص من سياسة التعامي بحجة أننا (السوريين) كنا كلنا «مضطهدين» بدرجة أو أخرى.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد