حسين جمو
لم يكن هنري كيسنجر من النوع الذي يقبل اللوم دون دفاع عن النفس. لقد فعل ما فعل في العام 1975 حين تسبب في هزيمة الثورة الكردية أمام النظام العراقي، ووقف في العام نفسه أمام لجنة الاستخبارات بمجلس النواب عن كيفية تبرير فعلته. فأجاب: “لا ينبغي الخلط بين العمل السري والعمل التبشيري”.
لكن في الحياة العامة، خارج مساءلات الكونغرس، يتخلى كيسنجر عن صلابته وتجرده من المسؤوليات الأخلاقية. فقد سعى إلى لقاء الزعماء والسياسيين الكرد لاحقاً، ولم يفلح كثيراً في ذلك. وقد ذكر مسعود البارزاني في حوار مع صحيفة الحياة عام 2002 أنه في العام 1993 كان في واشنطن وطلب كيسنجر أن يلتقيه فرفض. ووصف البارزاني الوزير الأميركي الأسبق بأنه “المخادع الأكبر للكرد”.
لم يفلح كيسنجر في لقاء كبار القادة الكرد، وقد ألمح بنفسه أنه يسعى إلى ذلك. وفي تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2011 انتهز الفرصة للقاء السياسي الكردي كمال كركوكي، رئيس برلمان إقليم كردستان، في إطار زيارته الرسمية إلى الولايات المتحدة. وفي بيان الخبر الذي نشره مكتب كركوكي، حرص على توضيح ما يلي:
اللقاء جاء بناءً على دعوة من هنري كيسنجر، حيث يرى الأخير ضرورة الحديث عن بعض المسائل العالقة والتي يراها الشعب الكردي غامضة لحد يومنا هذا.
وفي اللقاء أوضح هنري كيسنجر أن الأحداث والمواقف لعام 1975 والتي حدثت لاحقاً كانت ظروفاً غير طبيعية، مشيراً الى حدوث التباس وغموض في حينها في مكتبه، والتي تذكر في العديد من المناسبات. وفي الوقت نفسه أكد كيسنجر على أن الشعب الكردي شعب شجاع وقدم العديد من التضحيات، مشيراً أنه يتابع عن كثب القضية الكردية ويساند نشاطاته ويدعم المنجزات التي حققتها حكومة إقليم كردستان، كما أعرب عن تأييده للشعب الكردي ومعارضته لكل المخططات التي لها دور سلبي على الأوضاع الآنية في إقليم كردستان.
وفي الختام أعرب هنري كيسنجر عن تمنياته وأمله بأن يستتب الأمن والسلام والسعادة للشعب الكردي، متمنياً نجاح التجربة الديمقراطية للشعب الكردي، وأعرب عن دعمه ومساندته لتلك التجربة الجديرة بالذكر، كما وهنأ القيادة السياسية للشعب الكردي وجهودها في المنطقة في سبيل وضع الأسس لبناء التجربة الديمقراطية والاستمرار في المسيرة الديمقراطية في إقليم كردستان، مثمناً الدور الملحوظ للقيادة السياسية لشعب كوردستان في العراق والمنطقة. ومن غير المستبعد أن تكون عبارات الإطراء هذه تضمنت أيضاً طلباً للقاء أو زيارة قادة الإقليم.
يصر كيسنجر أن سوء فهم قد حدث في مسألة رعايته المصالحة بين بين إيران والعراق من خلال اتفاقية الجزائر 1975. وحاول إعادة توضيح ما حدث من هذه الزاوية في الفصل الخاص عن الكرد في مذكراته الأخيرة “سنوات التجديد” وخص فيها فصلاً بعنوان “مأساة الكرد”، تحدث فيها عن الكثير من التفاصيل التي تجعل من الدور الأميركي هامشياً في مسألة الدعم، وحاول تحميل المسؤولية للكونغرس الأميركي الذي عرقل تمديد المساعدات المخصصة للكرد.
بعد يوم من وفاة هنري كيسنجر، نشرت صحيفة لوس أنجلس تايمز مقالاً للكاتب أرييل دورفمان بعنوان مباشر “وداعاً لكيسنجر المجرم”. وقد ألف دورفمان عدداً من الكتب في قضايا كان لكيسنجر دور في مساراتها، مثل الإطاحة بالرئيس التشيلي سلفادور أليندي ودعم الإدارة الأميركية، بتأثير من كيسنجر، للدكتاتور أوغستو بينوشيه. لم يؤلف دورفمان شيئاً خاصاً بالكرد، لكنه ذكرهم ضمن ضحايا الوزير في مقاله:
إذا كانت أفكاري الأولى، عندما سمعت أخبار وفاة كيسنجر، مليئة بذكريات مواطني تشيلي المفقودين – وكان العديد منهم أصدقاء أعزاء – فسرعان ما يتبادر إلى ذهني طوفان من الضحايا الآخرين: عدد لا يحصى من القتلى والجرحى والمختفين في فيتنام وكمبوديا، وفي تيمور الشرقية وقبرص، وأوروغواي والأرجنتين. الكرد الذين خانهم كيسنجر؛ ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا الذي عززه؛ القتلى البنغلاديشيين الذي قلل من شأنهم.
بعد عامين من سقوط الثورة الكردية، وبينما كان نجم صدام حسين يصعد أكثر في العراق ويحجب ظهور الرئيس أحمد حسن البكر، كان لا يزال الشخص المكلف بكتابة خطابات الرئيس ريتشارد نيكسون حتى عام 1974، وليام سافاير، مستاءً بشدة من انعدام الضمير الذي تعاملت من خلاله الإدارة الأميركية مع الكرد في العراق، ليس فقط التسبب في هزيمتهم، بل امتد ذلك إلى أسلوب التعامل بعد الهزيمة. فقد رفض كيسنجر لقاء ملا مصطفى البارزاني حين انتقل إلى الولايات المتحدة وعاش فيها آخر أربع سنوات من حياته. كتب سافاير، الذي توفي عام 2009 ونال جوائز عديدة، مقالاً في صحيفة “نيويورك تايمز” في عدد 19 كانون الأول (ديسمبر) 1977 حاول فيه هز ضمير إدارة الرئيس جيرالد فورد لتصحيح الخطأ الذي ارتكبته الإدارة الأميركية بحق الكرد، قائلاً إنه في مؤتمر صحفي كرر الرئيس كارتر اهتمامه بحقوق الإنسان. وأضاف: “دعونا نتفحص الحالة التي أدت فيها السياسة الأمريكية الأخيرة إلى فقدان حقوق الإنسان من قبل شعب يسمى الكرد، ولنرى ما إذا كان السيد كارتر على استعداد للمساعدة في تصحيح الخطأ”.
يكشف سافاير، الذي كان جزءاً من الطاقم الأدبي لإدارة نيكسون، ما سربه له مسؤول كبير سابق كيف أن رجال الشاه أخبروا الأميركيين أن “استمرار التمرد الكردي سيتطلب فرقتين إيرانيتين، بتكلفة على الولايات المتحدة تبلغ 400 مليون دولار وكان مثل هذا الاستثمار السري في مرحلة ما بعد فيتنام مستحيلاً”.
في الواقع، وهو ما يقوله سافاير بنفسه، أن هذا ما قالته إيران لهنري؛ ولم يكن لها أي علاقة بالواقع، لأن الكرد يرفضون أساساً أن تتولى القوات الإيرانية القتال من أجل قضيتهم.
إذاً، لعب الإيرانيون حينها لعبة كان يعرفها كيسنجر لكنه أراد أن يتظاهر بتصديقها، لكي ينهي مسألة الدعم التي كانت تكلف 5 ملايين دولار فقط على شكل إمدادات من المعدات السوفيتية المستولى عليها. وفي ذلك الوقت من عام 1977 كان سافاير مطلعاً على محاولات ملا مصطفى البارزاني اللقاء بالمسؤولين الأميركيين، ولفت انتباه السيد كارتر إلى محنة شعبه.
من بين كافة المسؤولين الأميركيين، يذكر سافاير عدداً من الأسماء التي رفضت لقاء البارزاني، منهم العقيد ريتشارد كينيدي والوزير هنري كيسنجر وهارولد سوندرز، مدير الاستخبارات في وزارة الخارجية، واستقبله شخص كان ضمن فريق إدارة الدعم الكردي:
تم استقبال الزعيم الكردي بعيداً عن الأضواء في صيف 1977 من قبل مساعد كيسنجر السابق الذي كان مسؤولاً عن تزويد الكرد بالإمدادات، ثم قطع الطريق عليهم، وهو أ. ليروي أثرتون، الموجود الآن في القاهرة كمساعد للسيد كارتر، وزير الدولة لشؤون الشرق الأوسط.
وانتقد سافاير بشكل متكرر في مقاله، وفي كتابات أخرى، ازدواجية المعايير لدى إدارة الرئيس جيرالد فورد، وهنري كيسنجر، لدعمهما إقامة دولة فلسطينية وإنكارهما هذا الحق على الكرد.
في مرحلة التسعينيات، تغيرت مقاربة هنري كيسنجر، فبات حريصاً على “مكتسبات الكرد” في العراق، لكنه بقي على مسافة بعيدة من القضية الكردية في الأجزاء الأخرى، ولم يظهر أنه عدّل رؤيته بخصوص تركيا منذ أن فضلها على اليونان خلال اجتياح جزيرة قبرص، لكن في كل الأحوال هناك عدد من النقاط الملفتة.
اندلعت الحرب الأهلية الحزبية في إقليم كردستان العراق في صيف عام 1994 بين قوات حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني، وقوات حزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني. حققت قوات طالباني تقدماً كبيراً حتى خريف عام 1996، واستطاع “تصحيح” خريطة النفوذ وفق خطوط التقسيم اللغوية، فسيطر على كافة المناطق الناطقة باللهجة الصورانية، بما في ذلك العاصمة أربيل، وتقلصت سيطرة البارزاني إلى مناطق بهدينان التاريخية وهي دهوك وزاخو والعمادية وقرى بارزان وحرير.
بلغت ذروة الصراع المسلح بين الطرفين في 31 أغسطس/آب 1996، حين طلب البارزاني من صدام حسين دعماً عسكرياً للتصدي لقوات الطالباني. فاستجاب صدام لطلب البارزاني، وكسرت القوات العراقية مناطق الحظر الجوي التي كان قد فرضها التحالف الدولي على شمال خط العرض 36 بعد حرب الخليج عام 1991، فاجتاح 30 ألف جندي من قوات الحرس الجمهوري المدرعة أربيل بعد 5 سنوات على خروجهم منها، واستطاع البارزاني استعادة السيطرة على مدينة أربيل.
لقد كان المشهد غير منطقياً بالنسبة للمراقبين الخارجيين في ذلك الحين. كانت الصيغة التي يسهل فهمها في الغرب، ووسائل إعلامها، أن صدام حسين شن حملة جديدة على الكرد، من دون الدخول في تفاصيل الحرب الأهلية، واستعانة أحد الطرفين بالحرس الجمهوري العراقي لطرد خصمه الكردي من مدينة كردية.
كان أحد هؤلاء الذين فهموا المجريات على الشكل المذكور، أي أن صدام حسين اجتاح المناطق الكردية، بدون الالتفات إلى تعقيدات القضية، هو هنري كيسنجر. فقد كتب مقالاً في صحيفة لوس أنجلس تايمز “عن الشعب الكردي البطل وكيف أن الصواريخ الأمريكية في جنوب العراق لم تتمكن من إنقاذ الكرد من انتقام صدام حسين”.
هناك من قدم الأحداث بمجرياتها الواقعية، ولم تكن سمعة الزعيمين الكرديين، البارزاني والطالباني، إيجابية في الأوساط الأميركية بسبب الحرب، واعتماد كل طرف على “عدو” ضد منافسه.
وبمناسبة مقال كيسنجر، كتب المحلل السياسي دانيال شور، في صحيفة كريستيان ساينس مونيتور، 18 أكتوبر 1996، مقالاً استهله باستغراب: “كيسنجر، من بين كل الناس!”.
وذكّر الكاتب دور الوزير المخادع الذي ساهم في تغيير مسار كرد العراق في السبعينيات. وأضاف: “وكان الزعيم الكردي مصطفى بارزاني يؤمن ضمناً بوعود كيسنجر، حتى أنه قدم لراعيه ثلاث سجاجيد وقلادة من الذهب واللؤلؤ كهدايا عندما تزوج كيسنجر”.