شورش درويش
مقدمة
تحاول تركيا التخفيف من طبيعة وشكل تواجدها في سوريا الذي بدأ منذ عام 2016 ووصفه بأنه تواجد يهدف إلى «حماية» أمنها القوميّ، مبعدةً بذلك عنها صفة الاحتلال. وهي حيلة تلجأ إليها الدول المحتلّة لما للاحتلال من موجبات والتزامات لا تريد تحمّلها أمام القانون والمجتمع الدوليين. ولا يقلل من توصيف الاحتلال اعتماد تركيا على الفصائل المسلحة السورية الموالية لها، أو المجالس المحلية التي أقيمت برعايتها في المناطق المحتلة، على ما يقوله القانون الدولي الإنساني.
من الواضح أن العدوان التركي المتواصل على مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، لاسيما الاستهدافات التي بدأت في 5 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، يسعى إلى توسيع نطاق الاحتلال عبر الإضرار بالمدنيين والأعيان المدنية وتفريغ المنطقة من سكانها الأصليين وحملهم على النزوح القسريّ. وكل ذلك يمرّ دون إثارة أدنى اعتراضات قانونية مبنية على قواعد القانون الدولي الإنساني، أو كما يسمى «قانون الحرب». ولعل تهرب المجتمع الدولي عن واجباته المتمثّلة بصون واحترام القانون الدولي الإنساني يفسح المجال أمام تركيا للاستمرار في حلقتي الاحتلال والاستهدافات ضد المدنيين والبنى التحتية والمنشآت العامة والإضرار بسبل عيش السكان وتجويعهم لتوسيع نطاق الاحتلال.
وخلال أقل من أسبوع من بدء الاستهدافات التركية لمناطق الإدارة الذاتية، أي في الفترة ما بين 5 إلى 9 أكتوبر/تشرين الأول فقط، استهدف الجيش التركي 104 موقعاً ومنشأة ومركزاً خدمياً، كان من نتيجتها تدمير أو إعطاب 20 محطة مياه، و17 منشاة نفطية، و11 محطة كهرباء، و48 مدرسة ومنشأة تعليمية، ومستشفيين، ومخيمين للنازحين، ومقتل قرابة 50 شخصاً جلهم من المدنيين بينهم نساء وأطفال وجرح ما لا يقل عن 60 آخرين.
تحاول هذه الورقة الاعتماد على مواد وقواعد راسخة في القانون الدولي الإنساني المجسدة في اتفاقيتي لاهاي 1907 وجنيف 1949 وسواها من اتفاقيات ومعاهدات وقوانين، مع ما أقدمت عليه تركيا من انتهاكات صارخة بحق المدنيين والأعيان المدنية، عبر التركيز على ثلاثة محاور رئيسية: توصيف طبيعة التواجد التركي في سوريا من وجهة نظر القانون الدولي الإنساني، وتكييف ما ينجم عن الاستهدافات التركية مع قواعد القانون الدولي الإنساني، وأخيراً التزامات المجتمع الدولي تجاه الخرق التركي المتعمّد للقانون الدولي الإنساني.
تركيا في سوريا: حماية «الأمن القومي» أم احتلال موصوف؟
حاذرت تركيا مع اندلاع الأزمة السورية من التدخل العسكري المباشر لصالح المعارضة المسلحة، لكن تفشّي تنظيم داعش في مناطق بشمال سوريا أمّن لتركيا الذريعة المطلوبة لاختبار إرسال جنودها وآلياتها إلى الداخل السوري. كانت البداية مع نقل ضريح سليمان شاه في فبراير/شباط 2015 حين أرسلت أكثر من 500 جندي و150 دبابة وآلية إلى الداخل السوري لتنفيذ مهمّة النقل إلى قرية أشمة بالقرب من كوباني، على الرغم من أن أنقرة كان بمقدورها نقل الضريح إلى الداخل التركي، لكن إصرار أنقرة على الإبقاء على مخفر الضريح يعكس رغبة في أن لها في سوريا «حَرم» تستوجب حمايته التدخل العسكري. أما التدخل الأكثر جدية جاء مع ما أُطلق عليه عملية «درع الفرات» في أغسطس/آب 2016 رفقة الفصائل السورية المسلحة الموالية لتركيا. آنذاك، تذرّعت تركيا بمحاربة تنظيم داعش. وعليه، احتلت قواتها مدينة جرابلس. لم يثر تدخلها آنذاك أي رد فعل أميركي أو روسي، ولم تضطر تركيا لشرح موقفها القانوني من العملية، على عكس عملية احتلال عفرين التي بدأت رسمياً في 20 يناير/كانون الثاني 2018. وقتذاك، تذرعت أنقرة بحماية أمنها القومي، وبالاستناد على المادة 51 من الجزء السابع لميثاق الأمم المتحدة، وهي المادة ذاتها التي شكلت الأساس النظري للحرب الروسية على أوكرانيا فيما بعد، وتنص المادة على «ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي…»(1). لكن هذه المادة تبقى عصية على التفسير المناسب وحمّالة أوجه، ذلك أن تركيا لم تتعرّض لأي اعتداء موثّق ومؤكّد من قبل القوات الكردية التي كانت تحمي عفرين، وأن عملية الاحتلال إنما جاءت في سياق سياسيّ داخلي للحزب الحاكم في تركيا تغذّيها سياسات التوسّع التركية المتعارضة مع القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، فضلاً عن أن مجلس الأمن لم يتخذ حتى اللحظة أية تدابير لـ«حفظ السلم والأمن الدولي» الأمر الذي يترك الاحتلال التركي خارجاً عن الموجبات التي تفرضها قواعد الأمم المتحدة على الدول المحتلة.
كرّرت تركيا خرق القانون الدولي والدولي الإنساني في مرحلة احتلال تركيا لمنطقة رأس العين/سرى كانيه وتل أبيض في أكتوبر/تشرين الأول 2019، ودائماً بالاستناد إلى المادة 51 الملتبسة، والتي باتت تبرر الاعتداء على دول الجوار واحتلال أجزاء من أراضيها، والتي ستستخدمها روسيا في حربها على أوكرانيا. لكن الحقيقة كان وصول تركيا لاتفاقيات مع وروسيا في عفرين، والولايات المتحدة في رأس العين/سرى كانيه وتل أبيض، هو المسبب المباشر لتنفيذ كلا الاحتلالين وليس نص المادة الذي تحوّل إلى غطاء لعملية الاحتلال.
واقعياً، تُصنّف تركيا دولة محتلة بموجب القانون الدولي الإنساني، وتحديداً وفقاً لمعاهدة لاهاي الموقّعة عام 1907، إذ تنـص المـادة 42 مـن اتفاقيـة لاهاي علـى مـا يلـي: «تعتبـر أرض الدولـة محتلـة حيـن تكـون تحـت السـلطة الفعليـة لجيـش العـدو ولا يشـمل الاحتلال سـوى الأراضي التي يمكن أن تمارس فيها هذه السـلطة بعد قيامها».(2). إضافة لما ورد في اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 الذي يعزز ذات المنحى. ووفقاً لذلك، تقع على تركيا موجبات دولة الاحتلال المحددة في اتفاقية لاهاي، إذ يشير القسم الثالث من الاتفاقية إلى وجوب التوقف عن ارتكاب الانتهاكات: المادة 46: ينبغي احترام شرف الأسرة وحقوقها، وحياة الأشخاص والملكية الخاصة، وكذلك المعتقدات والشعائر الدينية. لا تجوز مصادرة الملكية الخاصة. المادة 47: يحظر السلب حظراً تاماً.(3). وبتتبع هذه المواد ودرجة خرقها، بالنظر للواقع التي تشهده مناطق عفرين وسرى كانيه، يمكن القول إن تركيا والفصائل المسلحة الموالية لها ارتكبت كل ما يعتبر انتهاكاً لهذه المواد. ولعل تهرّب تركيا المستمر من وصف نفسها كقوة احتلال يجنبها الانتقادات والمحاسبة القانونية، كما أنها باعتمادها على الفصائل المسلحة السورية الموالية لها، أو المجالس المحلية والحكومة الشكلية المنبثقة عن الائتلاف المعارض، لا ينفي عن تركيا صفة الاحتلال. إذ لا ينبغـي، بالضـرورة، أن تمـارس تركيا السـيطرة الفعليـة مباشـرة مـن خلال القـوات المسـلحة التابعـة لسـلطة الاحتلال؛ فالاحتلال الحربـي يمكـن أن يوجـد أيضـاً عندمـا تمـارس دولـة أجنبيـة سـيطرة عامـة علـى سـلطات محليـة تمـارس بدورها سـيطرتها الحكوميـة المباشـرة بوصفهـا وكيلـة للدولـة بحكـم الواقـع، نيابـة عـن سـلطة الاحتلال(4)، وهو ما يعني أن الاعتماد على الوكلاء المحليين لا يشكل غطاءً قانونياً للقوة المحتلة الأصلية ولا ينزع عنها صفة الاحتلال.
إن الرابط بين الاحتلال التركي لأجزاء من شمال سوريا والاستهدافات الأخيرة لمناطق الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا إنما ينبع من رغبة تركيا توسيع نطاق احتلالها عبر اتباع سياسات تهدف لترويع المدنيين وتدمير الأعيان المدنية وحمل السكان على النزوح والهجرة تمهيداً لاحتلال المناطق المستهدفة، إذ سبق أن أشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى رغبة بلاده في احتلال كامل الشمال السوري بعمق يتجاوز 30 كم.
الاعتداءات التركية الأخيرة من منظور القانون الدولي الإنساني
على خلفية هجوم شنّه مقاتلون ينتمون لحزب العمال الكردستاني استهدف مبنى وزارة الداخلية في العاصمة أنقرة، أعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان عشية تنفيذ الهجوم، ومن دون تحقيق في ملابسات الحادث، عزم بلاده اعتبار كافة البنى التحتية ومنشآت الطاقة في شمال شرقي سوريا «أهدافاً مشروعة» للجيش التركي. واستغلت تركيا الحدث الداخلي لشن عمليات اعتداء غير مبررة ضد أهدافٍ مدنية وأعيان مدنية في شمال شرقي سوريا، متجاهلة قواعد القانون الدولي الإنساني، إذ تعتمد نصوص هذا القانون على مبدأ أساسي في الحروب وهو أن «صوابية النزاع أو عدمها لا تنزع وجوبية الالتزام بمبادىء ونصوص القوانين مرعية الإجراء» (5).
يعرّف القانـون الدولـي الإنسـاني بأنه مجموعـة القواعـد التـي تسـعى إلـى الحـد مـن التبعـات الإنسـانية للنزاعـات المسـلحة. ويشـار إليـه في بعـض الأحيان بقانون «النزاع المسـلح» أو «قانـون الحـرب». ويتمثـل الهـدف الأساسـي للقانـون الدولـي الإنسـاني فـي تقييـد وسـائل وأسـاليب القتـال التـي قـد تسـتخدمها أطـراف نـزاع معيـن، وضمـان الحمايـة والمعاملة الإنسـانية للأشـخاص الذين لا يشـاركون مباشـرة في العمليات العدائية أو كفوا عـن المشـاركة فيهـا (6). وفق هذا التعريف وبالنظر إلى القواعد التي تحاول الحد من الانتهاكات يمكن القول بأن الاعتداءات التركية تخالف كل ما يرد في القانون الدولي الإنساني بالنظر إلى عدم تقيّدها بوسائل وأساليب وموجبات القتال والمعاملة اللا إنسانية لغير المشاركين في الأعمال القتالية واستهداف المدنيين خلال عمليات القصف.
وبعيداً عن سرد الانتهاكات التي وقعت منذ بدء التدخّل العسكري المباشر في سوريا، فإن الاعتداءات الأخيرة على مناطق واسعة في الشمال السوري التي تتبع للإدارة الذاتية تشي بالمعاني المطلوب قولها حول الواقع الذي تعيشه هذه المناطق في مواجهة آلة الحرب التركية التي تسعى إلى إشاعة الخوف وترويع المدنيين، رغم أن القانون الدولي الإنساني يحظر أعمال العنف أو التهديد بها لغرض أساسي هو نشر الخوف في صفوف السكان المدنيين. فمنذ الخامس من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، شنّت المدفعية والطيران المسيّر سلسلة اعتداءات متواصلة كان من حصيلتها الأولية مقتل 50 شخصاً بينهم نساء وأطفال و29 ملتحقاً بقوات مكافحة المخدرات، وجرح العشرات من المدنيين، وكل ذلك رغم حظر القانون الدولي الإنساني الهجمات المباشرة على المدنيين. ويعرف السكان المدنيون على أنهم «جميـع الأشـخاص الذيـن ليسـوا أفراداً فـي القوات المسـلحة التابعة لأحد أطـراف النزاع ولا المشـاركين فـي هبّة شـعبية» (7).
تركزت الهجمات التركية على البنى التحتية والمنشآت الخدمية والمدارس والمشافي بمدن وبلدات الإدارة الذاتية، والتي توصف في القانون الدولي الإنساني وقواعد القانون الإنساني العرفي بأنها «أعيان مدنية» لا يجوز أن تكون هدفاً للهجوم أو الأعمال الانتقامية. وتعرّف الأعيان المدنية تعريفاً سلبياً يشمل كافة الأعيان التي ليست أهدافاً عسكرية (8). بهذا المعنى، فإن استهدافات تركيا التي وقعت في 5 أكتوبر/تشرين الأول هي أعمال انتقامية ألحقت الضرر بأهداف غير عسكرية، بما في ذلك 20 محطة مياه. فحسب المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول والقاعدة 54 من قواعد القانون الدولي الإنساني العرفي، يحظـر القانـون الدولـي الإنسـاني «تجويـع المدنييـن كأسـلوب مـن أسـاليب الحـرب. ويحظر من ثـم مهاجمـة أو تدميـر أو نقـل أو تعطيـل الأعيـان التـي لا غنـى عنهـا لبقـاء السـكان المدنييـن ومثالهـا المـواد الغذائيـة والمناطـق الزراعيـة التي تنتجهـا والمحاصيل والماشـية ومرافـق ميـاه الشـرب وشـبكاتها وأشـغال الـري، إذا تحـدد القصد مـن ذلك في منعهـا عـن السـكان المدنييـن.. سـواء كان بقصد تجويع المدنيين أم لحملهم على النزوح أم لأي باعث آخر». (9). ونتيجةً للقصف التركي، تضرر موقعين للمياه، كما أدى استهداف محطات الكهرباء لتوقف 18 محطة في شمال شرقي سوريا، كما خرجت عن الخدمة محطة علّوك الاستراتيجية بالنسبة للحسكة وريفها. وتم استهداف 11 محطة كهرباء وتضرُر ما يزيد عن مليوني نسمة نتيجة هذا الاستهداف في مناطق الحسكة وعامودا ورميلان وتربه سبيه والقامشلي والدرباسية وأريافها جميعاً. ويدخل في إطار سياسة التجويع ودفع الناس للنزوح، وحتى الهجرة، استهداف محطات النفط والإضرار بقطاع الطاقة الذي يشكل العمود الفقري لاقتصاد السكان القائم على الزراعة التي تراجعت بشكل ملحوظ نتيجة سياسات تركيا المائية ووقف تدفق نهر الفرات وتخفيض حصّة سوريا المائية منه.
لكن من أشد صور العدوان وحشية يأتي استهداف المسيرات التركية للمستشفيات والمدارس، إذ تم استهداف مستشفيين في الجزيرة وكوباني وإخراجهما عن الخدمة، رغم أن اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949نصت بوضوح في المــادة 18 بأنه «لا يجوز بأي حال الهجوم على المستشفيات المدنية المنظمة لتقديم الرعاية للجرحى والمرضى والعجزة والنساء النفاس، وعلى أطراف النزاع احترامها وحمايتها في جميع الأوقات» (10). كما أدى استهداف 48 موقعاً تعليمياً وتربوياً إلى توقف العملية التربوية وتضرر آلاف الطلاب من الذين لم يتمكنوا من متابعة تعليمهم نتيجة استمرار الاستهدافات. فبموجب القانون الإنساني الدولي، فإن المدارس والمؤسسات التعليمية هي أعيان مدنية يجب حمايتها من الهجمات المتعمدة إلا في حالة كونها تُستخدم من قبل أطراف القتال في أغراض عسكرية (11). ومن الثابت أن تلك المنشآت المستهدفة لم تكن تستخدم لأي غرض عسكري، ولم تقدّم تركيا أية قرينة تخالف ذلك.
يدرج القانون الدولي الإنساني الهجمات التي تستهدف المدنيين والأعيان المدنية التي تؤدي إلى ارتكاب «الانتهاكات الجسيمة» بأنها «جرائم حرب». فالأهداف الأساسية للقانون الدولي الإنساني هي التقليل، إلى أدنى حد، من المعاناة البشرية، على ما قالته منظمة العفو الدولية (12). إذ ليست غاية هذا القانون منع الحرب أو الحؤول دون حصولها بقدر ما أن الغاية الأساسية منه اتباع أطراف النزاع المسلح القوانين الإنسانية التي تحكم سير العمليات الحربية. بمعنى أن الغاية من الالتزام بالقانون هو الحد من الأضرار التي تخلّفها الحروب على المدنيين وعلى الأعيان المدنية، وهو ما لم يتحقق في حالة الاستهدافات التركية الأخيرة. وبالتالي، تُعدّ جرائم الحرب انتهاكات خطيرة لقوانين الحرب يرتكبها أفراد بقصد إجرامي، أي بشكل متعمّد أو متهوّر. تشمل جرائم الحرب مهاجمة المدنيين عمداً وأخذ الرهائن والعقاب الجماعي (13). ويضاف إلى توصيف «جريمة الحرب»، سياسة العقاب الجماعي القائمة على قطع الغذاء والماء والكهرباء والوقود عن السكان في المناطق المستهدفة ودفعهم للنزوح القسري.
التزامات المجتمع الدولي تجاه خرق القانون الدولي الإنساني
رغم سهولة التكييف القانوني لخرق تركيا للقانون الدولي الإنساني، إلّا أن المجتمع الدولي لم يقم بما يلزم لوقف الاعتداءات التركية المتكررة على شمال شرقي سوريا. فالقاعدة 144 المذكورة في كل اتفاقيات جنيف الأربعة والربوتوكول الإضافي الأول تؤكّد على أنه «يجب ألا تشجع الدول انتهاكات القانون الدولي الإنساني من قبل أطراف النزاع المسلح، ويجب أن تمارس نفوذها، إلى الحد الممكن، لوقف انتهاكات القانون الدولي الإنساني». (14). ودعت منظمات دولية أخرى الدول الأعضاء فيها إلى أن تحترم القانون الدولي الإنساني وتكفل احترامه، خاصة مجلس أوروبا ومنظمة حلف الناتو والاتحاد الأفريقي ومنظمة الدول الأميركية. وبالتالي، تحيلنا المادة وشروحاتها إلى ضرورة قيام المجتمع الدولي، وليس فقط أطراف النزاع، القيام بواجباتهم القانونية تجاه الخروقات للقانون الدولي الإنساني وفرض احترام القواعد والاتفاقيات ذات الصلة. ولم يشهد العدوان التركي أيّاً من وسائل الضغط للكف عن مثل هذه الممارسات، خاصة وسيلتي: الاحتجاج الدبلوماسي، واتخاذ تدابير جماعية ضد من ينتهك احترام القانون، لاسيما الدول المتدخّلة في الملف السوري. إن عدم اللجوء إلى هاتين الوسيلتين يحمّل المجتمع الدولي مسؤولية تقصيرية وأخلاقية تجاه ما حصل منذ الخامس من أكتوبر/تشرين الأول ومازال متواصلاً حتى الآن.
تندرج «الانتهاكات الجسيمة» التي تشمل جرائم الحرب، كما هو موضّح في متن هذه الورقة، تحت فئة قانونية خاصة تعرف باسم «القانون الجنائي الدولي»، والتي تقول بوجوب أن تقدّم جميع الدول أولئك الذين يشتبه في أنهم مسؤولون جنائياً عن الجرائم بموجب القانون الدولي إلى المحاكم «عبر الولاية القضائية العالمية». غير أن جوانب القصور في مثل هذا السيناريو تقع على عاتق الدول، إذ أن «الكثير من الدول إما غير راغبة أو غير قادرة على تقديم مرتكبي هذه الانتهاكات إلى العدالة» (15)، خاصة إذا كنا في إزاء دولة مهمة في المنطقة كتركيا التي يتمّ التغاضي عن انتهاكاتها الداخلية لحقوق الإنسان وتعهداتها الأممية والأوروبية وانتهاكاتها للقانون الدولي الإنساني في سوريا والعراق.
ويضاف إلى مسؤوليات المجتمع الدولي والهيئات الأممية، تقاعش اللجنة الدولية للصليب الوصيّة على متابعة تنفيذ مهامها أسوةً بما تقوم به في مناطق أخرى في العالم، إذ لم يلحظ أيّ نشاط للجنة فيما خص الحرب التركية المستمرة على شمال شرقي سوريا، ولا أي تقرير يرصد الانتهاكات شبه اليومية، خاصة أن اللجنة في بيانها الخاص بعملها حددت هدفها بأنها «منظمة غير متحيزة ومحايدة ومستقلة تتمثل مهمتها الإنسانية البحتة في حماية حياة وكرامة ضحايا النزاعات المسلحة وحالات العنف الأخرى وتقديم المساعدة لهم» (16).
ومن الملاحظ أن المجتمع الدولي صامت تجاه الاستخدام المفرط للأسلحة الحديثة الفتاكة أيضاً، مثل الطائرات من دون طيار التي دخلت في صلب عمليات الاعتداء التركية الأخيرة. وتثير هذه الطائرات تسـاؤلات بشأن تطبيق القانـون الدولـي الإنسـاني علـى هذه العمليـات، وتالياً تساؤلات بشأن القواعد التي تحكـم اسـتخدام القـوة الفتاكـة ضـد الأشـخاص المسـتهدفين. وحيثمـا كان القانـون الدولي الأنساني قيد التطبيق، يثيـر الاسـتخدام المنهجـي للطائـرات من دون طيـار شـواغل تتعلق بدقة معلومـات الاسـتهداف المسـتخدمة وتعـرض السـكان المدنيين للأضـرار العرضية وعدم قدرة الطرف المهاجم على رعاية الجرحى أو تطبيق مبدأ الأسر بدلاً من القتل (17). وبالتالي، يجب، وفق مطالبات السكان المدنيين في شمال شرقي سوريا، إعادة النظر في سياسات القتل التركية الصامتة التي تعتمد على المسيّرات في قتل المدنيين وتدمير الأعيان المدنية سواء بفرض منطقة حظر جوّي، أو عبر توجيه الاتهام للحكومة التركية مع كل خرق لاحترامها للقانون الدولي الإنساني عبر استخدامها لمثل هذه الأسلحة.
خلاصة
كانت، وماتزال، الغاية الأساسية للقانون الدولي الإنساني جعل الحروب أقل وحشية والحدّ من التطرّف خلال الأعمال القتالية، إلّا أن لا شيء من ذلك يتحقق في حالة العدوان التركي على شمال شرقي سوريا، الأمر الذي يفقد السكان المحليين لأيّ رجاء أو أمل بالقانون الدولي الإنساني، وكذلك دور المجتمع الدولي في حماية وصون مفردات وقواعد هذا القانون.
إن شعور الحكومة التركية بأنها خارج أطر المحاسبة والمراقبة يدفعها إلى مزاولة نشاطها العدائي على مرأى ومسمع العالم، وهو ما لمسته تركيا منذ أن بدأت مشاريع الاحتلال في الشمال السوري، إذ لم تثر انتهاكاتها المتواصلة أي غضبة أو موقفٍ دولي يمكن البناء عليه لوقف سيل الانتهاكات التي تنامت منذ عام 2016. وعليه، لا ينبغي أن تترسخ هذه النظرة تجاه العدوان التركي الذي بات يتخذ منذ 5 أكتوبر/تشرين الأول الماضي شكل الحرب الطبيعية المسكوت عنها والمشروعة وفق المنطق الحكومي التركي. كما تفرض هذه الاعتداءات التركية على الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا تطوير أدواتها القانونية لمواجهة الغطرسة التركية وتنمية النضال القانوني أمام الهيئات الأممية وفي المحافل الدولية، إذ لا تكفي التوثيقات التي تجريها الإدارة الذاتية ومنظّمات المجتمع المدني من دون اتباع وسائل قانونية تدفع المجتمع الدولي والمنظمات الأممية لحماية المدنيين والأعيان المدنية.
المصادر
(1) ميثاق الأمم المتحدة (النص الكامل) https://2u.pw/nzpbFh
(2) القانون الدولي الإنساني مقدمة شاملة؛ نيلس ميلزر، مطبوعات اللجنة الدولية للصليب الأحمر ؛ ص60
(3) الاتفاقية الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية؛ اتفاقية لاهاي لعام 1907 https://2u.pw/zLcru5
(4) القانون الدولي الإنساني مقدمة شاملة؛ مصدر سابق؛ ص60
(5) قواعد الحرب.. ما موقف القانون الدولي من الصراع بين إسرائيل وغزة؟ الحرة؛ https://2u.pw/esq9A0k
(6) القانون الدولي الإنساني مقدمة شاملة؛ مصدر سابق؛ ص17
(7) المصدر نفسه؛ ص82
(8) المصدر نفسه؛ ص89
(9) الملحق (البروتوكول) الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف لعام 1977 https://2u.pw/A7K4Ms7
(10) الشارة: مواد ذات صلة من اتفاقيات جنيف 1949 وبروتوكولاتها الإضافية https://2u.pw/PiSx6I2
(11) المدارس ساحات للقتال- حماية الطُلاب والمعلمين والمدارس من الهجمات؛ Human Rights Watch https://2u.pw/HjidBnd
(12) النزاعات المسلحة؛ منظمة العفو الدولية- أمنستي https://2u.pw/yh3Ylnm
(13) كيف ينطبق القانون الإنساني الدولي على إسرائيل وغزّة؟ Human Rights Watch https://2u.pw/OrdWKdL
(14) قواعد بيانات القانون الدولي الإنساني https://2u.pw/BbV4k37
(15) النزاعات المسلحة؛ مصدر سابق
(16) اللجنة الدولية للصليب الأحمر- ولايتنا ومهمتنا https://2u.pw/d6E4uaN
(17) القانون الدولي الإنساني مقدمة شاملة؛ مصدر سابق؛ ص41