شورش درويش
تعرضت البنية التحتية والمنشآت الحيوية في مناطق الإدارة الذاتية لعملية تدمير واسعة النطاق شملت قطاعات الطاقة والكهرباء والمدارس والمستشفيات ومخيمات النازحين وممتلكات المدنيين وإلى فقدان 44 شخصاً جلهم من المدنيين لحياتهم وإصابة 55 آخرين في الحصيلة النهائية التي كشفت عنه الإدارة الذاتية. ومرّ كل ذلك أمام أعين الضامنين الأمريكي والروسي وصمت نظام دمشق، الأمر الذي يشير إلى احتمال تكرار أنقرة هذه السياسات العدائية التي لاحظت بالتجربة أنها لا تستثير ردود أفعال دولية ودعوات للمساءلة، ضمن سياسة العقاب الجماعي التي تتبعها أنقرة بحق السكان في شمال شرق سوريا.
عدوان غير مسبوق
شكلت المسيّرات والطيران الحربي عصب عملية العدوان الأخيرة التي بدأت في 4 أكتوبر/تشرين الأول بواقع 83 ضربة جوية، فيما لم يدخّر الجيش التركي فرصة إمطار المناطق بقذائق الهاون والمدفعية والتي تخطّت 200 قذيفة. ووفق ما أعلنته دائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية من أرقام تفصيلية، فإن قطاع الطاقة كان الأكثر تتضرراً حيث تم قصف 11 محطة كهرباء و17 منشأة نفطية و20 محطة مياه ومحطة السويدية التي تزوّد المنطقة بالغاز المنزلي والتي بلغ حجم الضرر فيها قرابة 50 في المئة، فضلاً عن استهداف مستشفيين و مخيّمين وسبعة قرى آهلة بالسكان. لكن العمل الأشد وحشية تمثّل باستهداف مركز تابع لقوات الأمن الداخلي «أسايش» في مدينة ديرك (المالكية) وأفضت إلى فقدان 29 عنصراً من قوات مكافحة المخدّرات لأرواحهم، ما دفع الإدارة إلى إعلان الحداد العام لمدة ثلاثة أيام. بموجب القانون الدولي الإنساني، فإن أفراد أجهزة إنفاذ القانون يعتبرون من المدنيين. ولعل درجة التركيز في الاستهدافات الأخيرة على المدنيين يعكس عجزاً تركيا عن استهداف قوات سوريا الديمقراطية التي التزمت باتفاقاتها مع الضامنين الروسي والأميركي وابتعاد عناصرها عن المناطق الحدودية التي جرى الاتفاق حولها. لكن هذا الالتزام الذي تبديه «قسد» تخالفه تركيا التي تشن الهجمات المتكررة وشبه المستمرة.
بدورها، تعطّلت العملية التعليمية في مناطق الإدارة خلال فترة القصف الأمر الذي حرم حوالى 850 ألف طالب من تعليمهم وقرابة 40 ألف معلّم/ة من مزاولة عملهم، إضافة إلى أضرارٍ لحقت بـ48 مدرسة وتدمير مدرستين. وعلاوة على ذلك، خلق القصف هواجس لدى أولياء الطلاب الذين باتوا متخوّفين من إرسال أبنائهم للمدارس، إذ إن معظم الأهالي في المنطقة مقتنعون بأن البنية التحتية والمنشآت التعليمية والطرقات باتت عرضة للاستهدافات التركية التي لم تعد تقيم أيّ وزن لما ينجم عن أفعالها، إذ أعلنت تركيا هذه النقاط «أهدافاً مشروعة»!
خلا مراحل حروب الاحتلال التي نفّذتها تركيا في عفرين 2018 ورأس العين/سرى كانيه 2019، فإن درجة الاعتداء التركي بدت غير مسبوقة لكثرة عمليات القصف الجوّي ونطاق الاستهداف. إن متابعة أسبوع القصف التركي المتواصل يقود إلى فكرة مفادها أن الاعتداء هدف إلى أمرين: تعطيل قدرة الإدارة على تقديم الخدمات وإحداث نقمة شعبية نتيجة تراجع الخدمات الأساسية، وتعطيل جهود الإدارة في ضبط الأوضاع الأمنية. وفي الحالتين، قد يعني شلّ قدرات الإدارة الذاتية إلى حدوث فوضى بدرجة أو أخرى مفيدة لتركيا والمتعاونين معها.
كيف يمكن إعادة الحياة للقطاعات المتضررة والحد من نكبة المنطقة؟
قدّرت الإدارة الذاتية مجموع كلفة الأضرار التي تسبب بها العدوان التركي بنحو 56 مليون دولار، وهو مبلغ مرتفع قياساً إلى إمكانيات الإدارة. والأهم من ذلك، أن الحصول على قطع الغيار أو العنفات والمحوّلات يمرّ بإجراءات صعبة ويستغرق تأمينها الكثير من الوقت. لذلك، سيبقى تأثير الهجمات التركية الأخيرة مستمراً على حياة السكان حتى فترة لاحقة.
غير أن الأضرار المالية الواردة في التقارير الأولية للإدارة هي تلك المباشرة فقط، إذ سيترتب على تدمير وإعطاب محطات الكهرباء والمنشآت النفطية زيادة في الطلب على الوقود ما يعني احتمال زيادة أسعار الوقود والكهرباء مجدداً قبل فصل الشتاء المقبل. كذلك، سينعكس ازدياد الطلب على عمل المطاحن والمخابز وقطاع الزراعة بشكلٍ كبير والتهديد بحصول أزمة غذاء لاحقة. ستتطلب هذه المسائل خطّة دعم مكلفة على الإدارة الذاتية وبالتالي استنزاف مواردها المالية. كما أن إخراج قرابة نصف محطة السويدية للغاز سيفرض على الإدارة تأمين الغاز المنزلي عبر استيراده بأسعار قد تبلغ حوالى 15 ضعفاً عن السعر القديم المدعّم البالغ 0.70 دولار أميركي للأسطوانة. عملياً، ستظهر الأضرار المالية الفعلية خلال الفترة المقبلة والتي ستكون أعلى من مقدار الضرر المباشر على السكان لاسيّما قاطني مخيّمات النازحين والذين يصل عدد إلى حوالى 180 ألف نسمة. وإذا كان الضرر الحالي طاول سبل عيش حوالي 800 ألف مواطن، فإن الارتدادات العامة لعمليات التدمير التركية ستشمل كل مناطق الإدارة وقرابة 4 ملايين نسمة.
في وقت سابق، أعلن مسؤولون في الإدارة الذاتية، كما في تصريح بدران جيا كرد الرئيس المشارك لدائرة العلاقات الخارجية، بأن المنطقة باتت منكوبة، الأمر الذي يعني وجود رغبة تركية تهدف إلى إفراغ المنطقة من سكانها على ما ينطوي ذلك من مخاطر حصول موجات هجرة ولجوء، إضافةً إلى استفادة تنظيم داعش من ارتفاع وتيرة العنف التركي. يعني ذلك أن الاحتياج إلى المساعدة الخارجية أصبح أكثر إلحاحاً وأن الحد من الأضرار الحالية واللاحقة سيساهم في إعادة الاستقرار الأمني والمعيشي والخدمي.
قد تحتاج جهود الإصلاح وإعادة التأهيل إلى دور أوسع من المنظمات التنموية والإنسانية ودعم المانحين لأجل الإسراع في عمليات إعادة التشغيل. كما أن مشاركة الدول المانحة في عملية الإصلاح إعادة التأهيل قد يشكل رسالة للحكومة التركية بأن تلك الدول إنما تؤيد حق السكان في الأمان وفي بنية تحتية سليمة وأن على تركيا التوقّف عن الإضرار بما ساهمت الجهات المانحة في إصلاحه وتأهيله.
خاتمة
يقع جزء من المسؤولية على عاتق الضامنين الروسي والأميركي. فالاعتداء التركي على المشافي والمخيمات والمدنيين والبنية التحتية والمنشآت يندرج في القانون الدولي والدولي الإنساني بأنه جرائم حرب وعقاب جماعي للسكان، ما يفرض على الضامنين ردع تركيا من خرقها المتكرر للقوانين الدولية تلك. ربما ينبغي على الإدارة الذاتية أن تركّز على البعد القانوني والتذكير المستمر بواجبات الولايات المتحدة وروسيا تجاه السكان المحليين في مناطق تواجدهما.
أمام الإدارة الذاتية تحدٍ جديد يتمثّل بالإسراع في عملية إعادة التأهيل وصيانة ما تم تدميره لئلا تصبح المنطقة منكوبة على الدوام، وهو ما يتطلّب دوراً أكبر لمنظمات المجتمع المدني والدول المانحة، إضافة إلى اتخاذ تدابير تخفف من حدة الأزمات المتوقّعة التي ستظهر في الفترة المقبلة.