بعد بروفة «هزيمة إسرائيل».. ما مستقبل الوجود الأميركي في الشرق الأوسط؟

خاص/ المركز الكردي للدراسات

قبل ساعات من هجوم حركة حماس على إسرائيل، فجر السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول، كان الخبر الأهم في الترتيبات المستقبلية للشرق الأوسط هو جاهزية خطة التطبيع بين السعودية وإسرائيل، وهي مقدمة لكتابة الولايات المتحدة الفصل الختامي في قصتها مع منطقة الشرق الأوسط والتي بدأت في اللقاء التاريخي بين الملك عبد العزيز آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت العائد من مؤتمر يالطا، على متن السفينة كوينسي بتاريخ 14 فبراير/شباط 1945 بمنطقة قناة السويس.
الأكثر شهرة من هذا اللقاء هو الحوار الذي دار بين الزعيمين بخصوص اليهود الساعين إلى إعلان وطن قومي في فلسطين، إذ رفض ابن سعود فكرة هجرة اليهود إلى فلسطين واقترح إعادة توطينهم في الدول التي اضطهدتهم باعتبار أن هذه الدول هُزمت في الحرب العالمية الثانية التي كانت توشك على الانتهاء. غير أن هذا اللقاء يعد تاريخياً لسبب آخر، وهو وراثة الولايات المتحدة لمناطق النفوذ البريطاني في الشرق الأوسط. وبناء على هذا اللقاء، تأسس تحالفٌ متين بين السعودية والولايات المتحدة ما زات يحكم علاقات البلدين إلى اليوم.
ترسم الولايات المتحدة خطة فكاك لها عن الشرق الأوسط منذ تسلم الرئيس الأميركي باراك أوباما الحكم عام 2008، وهي خطة سرّعها خصمه الجمهوري دونالد ترامب أيضاً لكن بشكل فوضوي.
ومنذ تسلم الرئيس جو بايدن الحكم، استأنف رؤية أوباما في الإخلاء المنظّم للوجود الأميركي في الشرق الأوسط. وتطلبت هذه الرؤية عقد اتفاق سلام بين العرب وإسرائيل، أي وفق صيغة استراتيجية تجعل إسرائيل دولة شرق أوسطية، بمشكلاتها وعلاقاتها واقتصادها ومجتمعها. كل هذا كان على وشك أن يتحقق. فدول عربية عديدة عقدت اتفاقيات سلام مع الدولة العبرية، وبدأت وفود السياح الإسرائيليين بالتدفق على دول السلام، وضمت اتفاقية الممر الاقتصادي الكبير بين الهند وأوروبا دولة إسرائيل كمحطة رئيسية لهذا المشروع الاقتصادي الذي ضم أيضاً السعودية والأردن والإمارات من الشرق الأوسط.
كان على وشك أن يتحقق تحول إسرائيل إلى دولة شرق أوسطية، في حياتها اليومية كدولة، بمجرد التوقيع على اتفاق السلام مع السعودية، بما سيكتب الفصل الأخير المرتجى للقضية الفلسطينية، أي تهميشها وعزلها ورميها جانباً. ومهدت أحداث «الربيع العربي» منذ عام 2010 لهذا التهميش منذ أن باتت الحروب الأهلية العربية تتصدر اهتمامات العالم وشعوبها. ولأول مرة منذ عام 1948، تاريخ تأسيس إسرائيل، لم تعد القضية الفلسطينية أولوية في سياسات مختلف الأطراف السورية المنخرطة في الحرب على مدار 12 عاماً. وخلال هذه الفترة، انفتحت الدول العربية على فكرة إقامة علاقات مع إسرائيل. وللمرة الأولى أيضاً، حدث انقلاب على فطرة التنمية العربية التي صاغها المفكر والقيادي الفلسطيني في حركة فتح خالد الحسن (توفي عام 1994). انطلق الحسن من فكرة أن القضاء على إسرائيل هو جوهر النهوض العربي وتنميته وديمقراطيته «فتراجع عملية التنمية الاقتصادية مرتبط باختلال التوازن بين القطاع العسكري والقطاع المدني في معظم المجتمعات العربية، نتيجة ضخامة ميزانية التسلح.. وانتكاس الديمقراطية مبرر بوجود عدو خارجي»، على حد تعبير الحسن.
منذ موجة الحروب الأهلية في «الربيع العربي»، بدأ يظهر طرح معكوس، وهو أن فشل التنمية العربية سببه القضية الفلسطينية ذاتها التي باتت تحيط شكوك بجدواها ومستقبلها مقارنة بإسرائيل القوية والغنية والتي بات تخيل إمكانية هزيمتها خيال بذاته! وهذا ما اعتقدته الإدارة الأميركية أيضاً. فقبل ثمانية أيام من هجوم حماس، قال مستشار الأمن القومي جيك سوليفان وهو يصف الأشياء الإيجابية التي تحدث في الشرق الأوسط والتي سمحت للولايات المتحدة بتحويل اهتمامها إلى أماكن أخرى إن «منطقة الشرق الأوسط أصبحت اليوم أكثر هدوءاً مما كانت عليه خلال عقدين من الزمن».
كان هجوم حركة حماس بهذا العنف العاري نتيجة حتمية في سبيل إيقاف هذا المسار المدمر للقضية الفلسطينية، والمدمر لتحالفات إقليمية مبنية عليها، والمدمر لمشاريع اقتصاديات دول مشتبكة أمنياً وسياسياً مع الولايات المتحدة مثل الصين وروسيا.
الآن وقد تعرض المشروع الأميركي الواسع بالانسحاب من الشرق الأوسط إلى الهجوم، ما هي خيارات الأميركيين؟
لقد صاغت سوزان مالوني، وهي خبيرة في الشؤون الإيرانية ونائب رئيس معهد بروكينغز، تعبيراً قاسياً لوصف الموقف الأميركي برمته بعد هجوم حركة حماس. وكتبت في مقال نشرته مجلة «فورين أفيرز»: «إن ما انتهى، بالنسبة إلى أيِّ شخصٍ يرغب في الاعتراف، هو الوهم بأنَّ الولايات المتحدة قادرة على تخليص نفسها والخروج من المنطقة التي هيمنت على أجندة الأمن القومي الأميركي طوال نصف القرن الماضي. لقد شكّل البيت الأبيض استراتيجية خروج مُبتَكَرة في محاولةٍ للتوسّط وخلق توازنٍ جديد للقوى في الشرق الأوسط من شأنه أن يسمح لواشنطن تقليص وجودها وتركيزها مع ضمان عدم ملء بكين للفراغ. ووعدت المحاولة التاريخية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية بتحالف أهم شريكين إقليميين لواشنطن رسمياً ضد عدوهما المشترك، إيران، وتثبيت السعوديين خارج محيط المدار الاستراتيجي للصين».
وتضيف مالوني: «لسوء الحظ، لم تسر الأمور كما خُطِّطَ لها. كانت محاولة بايدن الخروج السريع من الشرق الأوسط تُعاني من عيبٍ قاتل واحد: أخطأ في فهم الحوافز المُقَدَّمة لإيران، اللاعب الأكثر تخريباً على المسرح. ولم يكن من المعقول على الإطلاق أن تكون التفاهمات غير الرسمية وتخفيف العقوبات كافية لتهدئة الجمهورية الإسلامية ووكلائها، الذين لديهم تقديرٌ قوي ومختبر عبر الزمن لفائدة التصعيد في تعزيز مصالحهم الاستراتيجية والاقتصادية. وكانت لدى القادة الإيرانيين كل الحوافز لمحاولة منع حدوث اختراق إسرائيلي-سعودي، وخصوصاً ذلك الذي كان من شأنه أن يوسّع الضمانات الأمنية الأميركية للرياض ويسمح للسعوديين بتطوير برنامج طاقة نووية مدني».
مهما كان العنف الذي ستشهده الأزمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فإن فكرة الخروج من الشرق الأوسط تعرضت لانتكاسة كبيرة. ومن المتوقع أن تعيد واشنطن النظر في خططها قصيرة الأمد لإخلاء قواتها من المنطقة، بما في ذلك وجودها العسكري الأمني والاستشاري في شمال وشرق سوريا. وتشير الخطوة الأميركية في تحريك حاملتي طائرات لديها إلى شرق المتوسط لـ«ضمان عدم توسع الصراع» على حد تعبير البيت الأبيض، إلى الخوض السريع في مسار عكسي للانسحاب من الشرق الأوسط. وستحتاج الولايات المتحدة خلال الفترة المقبلة إلى تثبيت نقاط تواجدها العسكري في المنطقة القريبة من إسرائيل التي أثبت هجوم «حماس» أن اختراقها بشكلٍ مدمر بات واقعياً طالما أنها تحيط بأعداء ينتظرون فرصتهم.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد