«الاتحاد والترقي» والإرث الخبيث لحرب القرم

المركز الكردي للدراسات
 تخللت نقاشات حادة السياسات البريطانية العامة تجاه الدولة العثمانية، لبعضهم آراء فريدة وثبت صوابها لاحقاً، لكن لم يؤخذ بها في وقتها. فقد كتب النائب والسياسي البريطاني تشارلز رودن باكستون (1875 – 1942) مقالاً في صيف عام 1911 في «The Sphere» حين كانت الأوضاع مشوشة للغاية في القسطنطينية. فالتبشير الأوروبي بالحقبة الجديدة على أيدي لجنة الاتحاد والترقي يكابر على صدمة الواقع القاتم. فكتب باكستون مقاله تحت عنوان «ما الذي يجري في تركيا؟» ورسم فيها مسؤولية وتكاليف الدعم البريطاني العام لاستمرارية السلطنة العثمانية، وأشار إلى جذور سياسة بريطانية استمرت حتى احتلال إسطنبول عام 1919، ألا وهو هيمنة «الإرث السياسي لحرب القرم» (1853 – 1856) على روح السياسة البريطانية تجاه المسألة الشرقية برمتها، إذ دخلت بريطانيا وفرنسا هذه الحرب لإنقاذ الدولة العثمانية من الهزيمة أمام روسيا، فشهدت منطقة البحر الأسود أعنف معركة في تاريخها على الإطلاق حين نجح التحالف الأوروبي العثماني على ردع روسيا من احتلال القسطنطينية كما كان مخططاً له في سانت بطرسبرغ.
الجدير أن مقالة باكستون «ما الذي يجري في تركيا؟» نوع من التراجع عن الآمال التي رسمها بنفسه في كتابه الذي نشره عام 1909 بعنوان «تركيا في ثورة؟» (Turkey in Revolution) والتي وصفها بأعظم ثورة في العصر الحديث، إذ حولت تركيا من قذارة شرقية على وجه أوروبا إلى بلد فتي ومتحمس، ينفجر كما لو كان بولادة جديدة من رحم ما تم إهماله فجأة.
إلى نص المقال:
ما الذي يجري في تركيا؟  
3 يونيو/حزيران 1911  
تشارلز رودن باكستون  
يشعر الشعب الإنكليزي، بحق، ببعض المسؤولية تجاه الشؤون التركية. حقيقة أننا من خلال سياستنا الماضية تسببنا في إحباط تحرر أعداد كبيرة من الرعايا المسيحيين من سيطرة الباب العالي، وهذا يجعلنا نشعر بعدم الارتياح بعض الشيء. لقد رحبنا بكل حماس بثورة 1908 الرائعة، التي حملت وعداً بحكومة لائقة وبروح التشاركية بين الأعراق المنقسمة منذ فترة طويلة. انسقنا وراء الآمال المبالغ فيها وتبع ذلك خيبة الأمل. لكن ما حدث أمر طبيعي جداً بمجرد فهم ظروف المشكلة. إذ قامت بالثورة لجنة الاتحاد والترقي. ولقد سمع الجميع عن تنظيمها السري ومؤامراتها السرية والذروة الدرامية عندما انتزعت الدستور من سلطان متردد. وكان هدفها إسقاط طغيان السلطان عبد الحميد. وحققت نجاحا رائعاً. لكن الصفات التي تمكن الإنسان من التدمير ليست هي نفس الصفات التي تمكنه من البناء. كان التفاني العاطفي للوطن والتصميم والاستعداد للتضحية بالحياة والممتلكات أمراً ضرورياً في ذلك الوقت، وقد قاموا بعملهم.
لكن هذه ليست عوامل كافية عندما يتعلق الأمر بابتكار أساليب جديدة للحكم.
بعض الرجال الذين قاموا بأعمال بطولية حقيقية قبل الثورة أصبحوا منذ ذلك الحين من أقوى المؤيدين للسياسة غير الحكيمة المتمثلة في فرض الأفكار التركية على القوميات الأخرى. علاوة على ذلك، وبعد أن حققت اللجنة نجاحاً، انضم إليها حشد من الأصدقاء المعتدلين الذين يفكرون في الخبز والأسماك أكثر من المبادئ. علاوة على ذلك، مهما كانت نوايا القادة جيدة، فإنهم لا يستطيعون تأهيل مجموعة جديدة تنفذ نواياهم الحسنة، إنما مضطرون أن يعملوا من خلال رجال مدربين على التقاليد السيئة ومنفتحين على التأثيرات الرجعية.
خلال العام الماضي، كانت هذه السياسة في صعود. تم تنفيذ عملية نزع السلاح، مصحوبة بالجلد وأشكال التعذيب الأخرى، في مقدونيا. لقد انزعج الألبان والعرب بدلاً من أن يشعروا بالطمأنينة. وكانت النتيجة تمردين ما زالا مشتعلين. ربما تكون فترة رد الفعل هذه تقترب من نهايتها. ومن المؤكد أن هناك حزبين داخل لجنة الاتحاد والترقي، ليبرالي وعسكري. وأظهرت الانقسامات الأخيرة في «حزب اللجنة»، وهو الحزب البرلماني المكون من أعضاء اللجنة، أن الصراع، وإن كان مستتراً، مستمر. والعنصر الليبرالي يمكن أن يشير إلى فشل السياسة العدائية المتطرفة وضرورة المصالحة.
لقد أثبت انهيار مفاوضات القروض في الخريف الماضي في باريس ولندن لحزب الأتراك الشباب أنهم إذا أنفقوا كل أموالهم على التسلح وأهملوا تنمية مواردهم غير المستخدمة، فسوف يضطرون إلى الاقتراض بأسعار فائدة ربوية. ولا شك أن هذا عزز موقف أولئك الذين يدعون إلى الاعتدال والإصلاح الشامل. ومن السابق لأوانه حتى الآن إصدار حكم نهائي على الأتراك الشباب. وعليهم أن يواجهوا، بخبرة قليلة أو معدومة، مهمة قد تحير أكثر رجال الدولة حكمة. لقد ارتكبوا أخطاءً فادحة. ربما يتعلمون منها، وبعد ذلك سوف يتعثرون، أو قد يغرقون أكثر فأكثر في الوحل.
إن مستقبل الحكم الجيد في تركيا ومعه مستقبل الإمبراطورية العثمانية نفسها لا يزال معلقاً في الميزان. كل ما يمكننا قوله هو أن حكومة تركيا الفتاة أفضل من أي بديل آخر ممكن في الوقت الحاضر. وينبغي أن يكون موقفنا موقف اليقظة. ومن دون التراجع عن الانتقاد عند الضرورة، يجب علينا أن ننتهز كل فرصة لمساعدة قضية الدستورية الحقيقية. إن الرأي العام بين الطبقات الحاكمة في تركيا حساس للغاية تجاه الانتقادات الأجنبية. كما أن تأثير الصحافة الإنجليزية في القسطنطينية لا يمكن إهماله بأي حال من الأحوال. لقد تحدثت عن الأوضاع التركية من وجهة نظر تركيا نفسها. ولا تنسَ أن لها تأثيراً وثيقاً على المصالح المادية لإنكلترا وعلى الوضع الدولي. لكن هذا الجانب من المسألة يحتاج إلى مناقشة أكمل بكثير مما هو ممكن هنا. ويكفي أن نقول إن الحكم الجيد للإمبراطورية العثمانية والمستوى العالي من التنمية الاقتصادية في أراضيها المهملة، ولكن الخصبة، سيكونان أعظم فائدة لنا، على المستويين السياسي والتجاري. ليس لدينا أي مطالبة على أي أرضي تركيا. إن سكة حديد بغداد، بقدر ما تساعد الأتراك في مراقبة سيطرتهم الآسيوية وتطوير حوض نهري دجلة والفرات، الذي كان ذات يوم مخزن حبوب الإمبراطورية الرومانية، تستحق المساعدة والتشجيع بكل الوسائل التي في وسعنا. ولا ينبغي أن نمنع انفسنا من المشاركة في الفوز بالجائزة بسبب المخاوف الغامضة من الهيمنة الألمانية. من المألوف أن ترى يد ألمانيا في كل خطوة على رقعة الشطرنج في الشرق الأدنى. قد يكون الترياق (الذي نقدمه) خاطئاً عندما نتذكر أنه قبل أعوام قليلة فقط كانت يد روسيا هي التي كانت موضع شك دائماً. لقد قادنا الذعر المناهض لروسيا إلى أخطاء كارثية؛ دعونا نحذر من أن يفعل الذعر المناهض لألمانيا نفس الشيء.
ولكن بينما ليس لدينا ما نخشاه من إنشاء حكومة قوية ومنظمة في تركيا، فإن الموقف سيكون مختلفاً تماماً إذا استمرت حالة الحرب الأهلية المتفرقة وإذا لم يتم إحراز المزيد من التقدم نحو العدالة والحضارة. ومن ثم قد تصبح تركيا مرة أخرى ما كانت عليه قبل الثورة مصدراً دائماً للخلاف بين القوى الأخرى وتهديداً دائماً للسلام في العالم. إن فكرة أن من مصلحتنا الحفاظ على إمبراطورية تركية، جيدة أو سيئة، عادلة أو غير عادلة، هي إرث خبيث من حرب القرم، والتي نأمل أن يكون رجال الدولة من جميع الأحزاب تحرروا منها الآن.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد