«حروب جديدة» الوجه المخفي في الممر الاقتصادي بين الهند وأوروبا

المركز الكردي للدراسات
منذ الإعلان عن فكرة إنشاء الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، ما زالت التفاصيل شحيحة بخصوص آلية تنفيذ مثل هذا المشروع العملاق والذي يبدو للوهلة الأولى خارج المنطق الجغرافي؛ فالتصور الأولي هو الربط التجاري بين الهند والإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل وأوروبا، عبر طرق متعددة منها البحرية والسككية والبرية. وظهرت خرائط عديدة لهذا الممر لم يكن أي منها من مصدر رسمي معتمد، وعلى الأغلب نشرت باجتهادات صحافية نظراً لاختلاف المسارات بين الخرائط. ففي الأولى منها كان الخط البحري يمتد من الهند إلى ميناء الفجيرة الإماراتي على بحر العرب، وفي أخرى من الهند إلى ميناء جبل علي الإماراتي على الخليج العربي ثم إلى السعودية عبر خط سكة حديد. كذلك المسار المتجه من ميناء حيفا إلى أوروبا، في واحدة يتجه خط الشحن البحري إلى ميناء يوناني ثم براً عبر الشاحنات إلى بقية أوروبا، وفي خريطة أخرى يتفادى المسار اليونان ويصل إلى إيطاليا وفرنسا ومنها إلى ألمانيا.
المحصلة الأولية أن المشروع ما زال طي الكتمان من ناحية طبيعة التنفيذ على أرض الواقع. ومن المرجح أن تصدر أولى النسخ الرسمية في الاجتماع الذي سيعقد في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. وبذلك ما يزال في إطار المفهوم النظري أو الفكرة، ولم يصبح مشروعاً على أرض الواقع.
إن أهداف الأطراف المشاركة في هذه الصفقة متباينة، لكن في نهاية الأمر – في حال مضي المشروع قدماً – سيتم تأسيس شيء أكبر من الممر الاقتصادي وأعمق من مفهوم الربح الرأسمالي، ألا وهو تشكيل مجتمع اقتصادي تؤدي فيه سلاسل التوريد الجديدة (السلع والبضائع) دور أداة الربط، وليس غاية الممر الاقتصادي. ومن مظاهر هذا المجتمع الاقتصادي الكبير منح مزايا استراتيجية جديدة للدول المشاركة، وهذا ما عبر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في تعليقه على هذا المشروع عقب الإعلان عنه بالقول: «لقد كانت أرض إسرائيل دائماً نقطة عبور للإمبراطوريات التي داستنا في حملات الغزو في كل اتجاه، والآن أصبحت إسرائيل دولة عبور من نوع مختلف. لقد أصبحت ملتقى الطرق الرئيسي في الاقتصاد العالمي، وجسر السلام».
ومن المبكر قياس فوائد هذه الممر وفق المعطيات الحالية. فعلى سبيل المثال، ذكر ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في مقابلة له مع قناة فوكس نيوز بتاريخ 20 سبتمبر/أيلول أن مشروع إنشاء ممر للسكك الحديدية والشحن يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا يمر عبر السعودية، سيوفر الوقت والمال، وسيختصر المسافة نحو أوروبا ما بين ثلاثة إلى ستة أيام. وبحسب العضو السابق في مجلس إدارة هيئة قناة السويس وائل قدورة، من المتوقع أن تخفص شبكة السكة الحديد المقترح تنفيذها من زمن الرحلة بنسبة 44 في المئة، ما سيخفض من التكلفة النقل البحري، وهو ما سينعكس بالسلب على قناة السويس. وفي احسن الأحوال، يمكن لهذه الشبكة أن تستحوذ على 22 في المئة من حجم البضائع التي تعبر قناة السويس.
وعلى الرغم من ذلك، لا يثير حجم النقل المتوقع للبضائع المخاوف من تأثير مدمر على قناة السويس. ويقول رأي آخر أن القطار لا يستوعب أكثر من 75 حاوية. وإذا افترضنا أنه على مدار العام تم تشغل 365 قطار أي نقل ما يعادل 36 ألف حاوية، فهو رقم لا يشكل أي خطورة على قناة السويس التي يصل حجم ما يعبرها إلى 35 مليون حاوية، فضلاً عن تكلفة الصيانة الكبيرة في الممر الاقتصادي الهندي – الأوروبي.
إن توقعات التأثير المحدود للمر الجديد المقترح على قناة السويس صحيح ولا يمكن أن يكون بديلاً، وذلك وفق المعطيات الحالية. على أن هناك حقيقة غائبة عن المشهد، وهو أن هذا المشروع ليس مصمماً فقط ضمن الظروف الحالية السائدة. فهناك احتمال تعطل الإمدادات عبر ممرات استراتيجية تقليدية مثل البحر الأحمر وقناة السويس، إما لأسباب أمنية مستقبلية، أو خلافات بين دول تدفع إلى نقل مسار التجارة العالمية نحو مسالك جديدة مثل الممر الهندي الأوروبي. وبالتالي، سيبقى هذا الممر الاقتصادي يحمل قيمة مستقبلية كبيرة في حال توسع الاضطرابات الأفريقية إلى خليج عدن وباب المندب على سبيل المثال. ومن هنا، ليس من الآمن بناء تحليل لمستقبل هذا الممر وفق قناعة أن شيئاً لن يتغير في العالم، وهذه قد تكون النقطة الأكثر أهمية في هذا المشروع، وهو بناء مجتمع اقتصادي آمن ومترابط من الهند إلى المحيط الأطلسي الأوروبي عبر الخليج وإسرائيل. وبوجود هذا المشروع العملاق، وما يترافق معه من بنية تحتية ورقمية فائقة التطور، هل سيكون مقلقاً أن تؤدي الاضطرابات إلى تعطيل مشروع الحزام والطريق الصيني في آسيا؟ أو اضطراب سلاسل التوريد العابرة لقناة السويس؟ ربما كان هذا أساس الهدف من هذا المشروع بالنسبة للدولة الراعية، الولايات المتحدة، التي لا تخفي نشاطاتها لإفشال الحزام التجاري الصيني.
يضاف إلى ذلك أن هذا الممر سيكون بوابة لعلاقات مثمرة بين السعودية وإسرائيل، وبلا حرج على أي طرف، طالما هناك دعاية لـ«جني الأرباح» بين عامة الناس.
يمكن كذلك فهم أسباب قلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بخصوص استبعاد تركيا من هذا الممر. فذلك سيعني بشكل أو بآخر، أن اندلاع اضطرابات في تركيا لن يكون مدمراً لشبكة التجارة العالمية العابرة للقارات، ولن يكون استقرارها أولوية قصوى كما هو الحال الآن.
من هذا الباب، يمكن كذلك فهم أسباب قلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بخصوص استبعاد تركيا من هذا الممر. فذلك سيعني بشكل أو بآخر، أن اندلاع اضطرابات في تركيا لن يكون مدمراً لشبكة التجارة العالمية العابرة للقارات، ولن يكون استقرارها أولوية قصوى كما هو الحال الآن. وما يدعم هذا الرأي هو أن الحديث الأولي عن الممر الاقتصادي الهندي الأوروبي يشمل خطوط نقل طاقة وكهرباء وكابلات إنترنت جديدة وتصدير للهيدروجين الأخضر الصديق للبيئة. وعليه يمكن البناء على هذا التصور – في حال ثبت صحته – في معرفة حزام الاستقرار الصلب الذي ستحرص عليه الولايات المتحدة ودول مجموعة السبع الكبرى التي تقف خلف هذا المشروع العابر للقارات، والذي لا يشمل تركيا.
إن الرعاية الاستراتيجية للمشروع تتولاها مجموعة الدول السبع الكبرى (كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان وبريطانيا والولايات المتحدة) في إطار مبادرة نشرتها وزارة الخارجية الأميركية في 26 يونيو/حزيران 2022 تحت عنوان «الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالمي».
بموجب المبادرة، وفق ما نشرته الخارجية الأميركية، فإن مجموعة الدول السبع الكبرى ستجمع 600 مليار دولار في استثمارات البنية التحتية الدولية بحلول العام 2027. وهذه ليست إلا البداية. وستسعى الولايات المتحدة وشركاؤها في مجموعة السبع إلى جمع رأسمال إضافي من شركاء آخرين متشابهي التفكير وبنوك التنمية متعددة الأطراف ومؤسسات تمويل التنمية وصناديق الثروة السيادية والمزيد.
إن الممر الاقتصادي بين الهند وأوروبا هو أول مبادرة عملية كبرى في هذا التوجه الهادف، بالنسبة لمجموعة السبع، إلى تقليل فرص الصين في الهيمنة على سلاسل التوريد العالمية، وبالتالي محاولة لضمان استقلال الرأسمالية العالمية عن رأسمالية الدولة الصينية.
من المتوقع أن يعمل هذا الممر التاريخي على تحفيز التنمية الاقتصادية من خلال تعزيز الاتصال والتكامل الاقتصادي عبر قارتين، وفق بيان البيت الأبيض؛ وبالتالي، إطلاق العنان للنمو الاقتصادي المستدام والشامل. ومن خلال الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، تهدف إلى الدخول في عصر جديد من الاتصال من خلال السكك الحديدية المرتبطة عبر الموانئ التي تربط أوروبا والشرق الأوسط وآسيا. وتعتزم الولايات المتحدة وشركاؤها ربط القارتين بمراكز تجارية وتسهيل تطوير وتصدير الطاقة النظيفة؛ ومد كابلات تحت البحر وربط شبكات الطاقة وخطوط الاتصالات لتوسيع نطاق الوصول الموثوق إلى الكهرباء؛ وتمكين ابتكار تكنولوجيا الطاقة النظيفة المتقدمة؛ وربط المجتمعات بالإنترنت الآمن والمستقر. وعبر الممر، نتصور دفع التجارة والتصنيع الحاليين وتعزيز الأمن الغذائي وسلاسل التوريد.
مع ذلك، فإن الممر سوف يواجه أيضا نصيبه من التحديات. على سبيل المثال، ليس من الواضح ما هو الطلب الفعلي على طول هذه الشبكة التجارية. كما يجب معالجة القضايا المتعلقة بمختلف اللوائح والضرائب والإجراءات الجمركية ومواءمتها. الممر أيضاً متعدد الوسائط. يتكون من أقسام برية وبحرية، والتي يصعب دعمها أكثر من الطرق البرية أو البحرية حصراً.
تنجح الممرات التجارية الجديدة عندما تكون البنية التحتية الأساسية موجودة بالفعل. في حالة ممر الهند- أوروبا، فإن السكك الحديدية في اليونان (أقرب موانئ الاتحاد الأوروبي إلى الشبكة) ضعيفة التطور بسبب الجغرافيا الجبلية ونقص الموارد المالية. وفي منطقة الخليج، ستحتاج السعودية والإمارات إلى بناء شبكة سكك حديدية عبر الصحارى، ما سيؤدي إلى زيادة تكاليف المشروع بشكل كبير. ولم توضح الولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي بعد كيف سيتم تمويل ذلك.
كما أن الوضع الجيوسياسي على الأرض هش بما يكفي لتعقيد التقدم. ومن المرجح أن تضغط الصين وروسيا وإيران ضد مشاريع البنية التحتية التي من شأنها أن تقوض مصالحها.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد