فورين بوليسي
مرت خمسة أشهر على إيقاف تركيا تدفق النفط عبر خط الأنابيب من العراق، في خطوة جاءت بعد اصدار غرفة التجارة الدولية (ICC) حكماً في نزاع قانوني دام تسعة أعوام بين البلدين. وعلى الرغم من الشائعات التي ترددت عن عزم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان القيام بزيارة دبلوماسية إلى بغداد هذا الشهر لمناقشة إعادة تشغيل خط أنابيب النفط، إلا أن التداعيات الاقتصادية والسياسية والقانونية للنزاع النفطي تتصاعد مع بقاء ملايين براميل النفط عالقة في الموانئ.
ويتلخص الخلاف فيما إذا كانت تركيا خرقت اتفاقية عبور خطوط الأنابيب التي مضى عليها 50 عاماً من خلال السماح بتصدير النفط من الحقول في المناطق التي تسيطر عليها حكومة إقليم كردستان من دون موافقة العراق. لكن منذ أن حكمت محكمة التحكيم في باريس على العراق بتعويض قدره 1.5 مليار دولار، فإن رد تركيا المتمثل في منع ما يقرب من 500 ألف برميل يومياً من حكومة إقليم كردستان والمتجهة إلى الأسواق العالمية عبر ميناء جيهان، تسبب بموجات صدمة للقطاع النفطي و وحفّز تداعيات إقليمية وعالمية.
نتيجة لذلك، ألقى أردوغان باللوم على الخلافات الداخلية بين الحكومة العراقية المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان. لكن المسؤولين العراقيين ومسؤولي حكومة إقليم كردستان ينفون ذلك. ادّعت تركيا في البداية أنها تمتثل لحكم المحكمة الجنائية الدولية، لكن تبين بسرعة أنها كانت تحاول التفاوض على دفع تعويضات بقيمة 1.5 مليار دولار وحل تحكيم ثان مع العراق بشأن تدفقات النفط غير المصرح بها منذ عام 2018.
يؤدي الحظر الذي فرضته تركيا لفترة طويلة على صادرات النفط العراقي ومحاولاتها الضغط على العراق للامتثال لمطالبها إلى زعزعة استقرار خط أنابيب ذو أهمية مركزية للاستقرار الاقتصادي الإقليمي والعالمي. وكان خط الأنابيب ينقل حوالى 10 في المئة من إجمالي الصادرات العراقية، أي ما يعادل 0.5 في المئة من الإنتاج العالمي، كون العراق ثاني أكبر منتج في منظمة أوبك.
أدى وقف تركيا للصادرات على الفور إلى ارتفاع أسعار النفط العالمية إلى ما يزيد عن 70 دولاراً للبرميل. علاوة على ذلك، تمثل عائدات تصدير النفط نحو 80 في المئة من الميزانية السنوية لحكومة إقليم كردستان، ما يعرض الإدارة بأكملها للخطر.
في الإطار ذاته، أدى الحصار إلى خنق إمدادات النفط الخام العالمية وساعد في زيادة أسعار النفط، ما أثر بشكل خاص على الاتحاد الأوروبي الذي زاد بشكل كبير وارداته من النفط العراقي ليحل محل الغاز الروسي. على سبيل المثال، تستورد إيطاليا 13 في المئة من طلبها على النفط الخام من العراق. ويأتي أكثر من نصفه من الحقول الواقعة شمال العراق التي تسيطر عليها حكومة إقليم كردستان. ومع انقطاع تدفق النفط من حكومة إقليم كردستان، أصبحت أوروبا في وضع محفوف بالمخاطر مع عدم وجود حل سريع وسهل.
أوروبا ليست المتأثرة الوحيدة
كلف الحصار المطول حكومة إقليم كردستان أكثر من ملياري دولار. ولا يقف الأمر عند ذلك، بل يمكن أن يؤدي إلى انهيار حكومة إقليم كردستان في وقت ظل اقتصادها يعاني لأعوام عديدة من تخفيضات الميزانية من الحكومة الفيدرالية العراقية، إذ أن بقاء الوضع من دون حل قد يؤدي إلى موجة هجرة كبيرة من الإقليم.
ولا بد من الإشارة إلى أن العجز الكبير في الميزانية في كل من حكومة إقليم كردستان وبغداد يمكن أن تؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار الكارثي في المنطقة، وهو أمر يمكن أن تستغله الجماعات المسلحة مثل تنظيم داعش، ما قد يؤدي إلى المزيد من زعزعة الاستقرار. ومع إصابة مؤسسات حكومة إقليم كردستان بالشلل فعلياً في أعقاب أزمة تصدير النفط، فإن العراق معرض لخطر فقدان درعه الأساسي ضد التنظيم.
وعلى الرغم من أن أربيل وبغداد توصلتا إلى اتفاق في أوائل أبريل/ نيسان، ما أثار الآمال في ألا يكون لدى تركيا أي عذر آخر لتجنب استئناف الصادرات بعد انتخابات مايو/ أيار، إلا أنه لم تظهر أي علامات على تقدم ملموس من جانب أنقرة.
قد تمتد حالة عدم الاستقرار في إربيل إلى العراق الذي يترنح بالفعل على حافة الصراع الطائفي. وفي العام الماضي، شنت إيران هجمات في كردستان العراق. كما أدى تدخلها المتزايد في المنطقة إلى تفاقم التوترات السياسية بين الشيعة. وقد يؤدي سقوط حكومة إقليم كردستان إلى خلق فراغ يسمح لإيران بتكثيف مشاركتها، الأمر الذي قد يزيد من هذه التوترات المتصاعدة ويهدد بحرب أهلية على مستوى البلاد.
الدور التركي
يمكن القول إن تركيا ترى في النزاع حول خط الأنابيب فرصة لإضعاف الكيان الكردي المستقل الوحيد المعترف به دولياً في المنطقة بشكل كبير، ما يبدد آمال الكرد في الحكم الذاتي.
ومع استمرار تصاعد التوترات بين العراق وتركيا، أصبح من الواضح على نحو متزايد أن التحكيم الدولي ليس بديلاً للدبلوماسية الحذرة. ومن الأهمية بمكان أن يدرك المجتمع الدولي أنه من دون الجهود الدبلوماسية، فإن التحكيم قد يذكي نيران التوتر الدولي في وقت يواجه العالم عدداً كبيراً من الأزمات المعقدة التي تحتاج إلى حلول دقيقة.
ويمكن لحكومة الولايات المتحدة أن تلعب دورا بناءً، إذ تحتاج واشنطن إلى دفع بغداد وأربيل للتوصل إلى اتفاق نفطي أكثر شمولاً والمساعدة في التوسط في المحادثات بين أنقرة وبغداد بما في ذلك المسائل المتعلقة بالمياه والتجارة والبنية التحتية. ومع استمرار النزاع، فإن خسارة الإيرادات ستؤدي في النهاية إلى محو التعويضات المستحقة لبغداد. وهناك حاجة إلى وسيط خارجي يتمتع بعلاقات مع اللاعبين الثلاثة لمساعدتهم على إدراك أن أي سيناريو يزيد من خطر نشوب صراع إقليمي هو وضع يخسر فيه الجميع.
وبدلاً من التفاوض، تستخدم تركيا الوضع لإجبار بغداد وأربيل على الاستسلام لشروط التحكيم النفطي، حتى لو كان ذلك يهدد بتدمير اقتصاد حكومة إقليم كردستان. وفي المقابل، يحرص كل من العراق وحكومة إقليم كردستان على استئناف الصادرات. ومن الأمور الأساسية للمضي قدماً هو حاجة تركيا إلى إدراك أنه إذا سقطت حكومة إقليم كردستان، فإن زعزعة الاستقرار الناتجة عن ذلك في العراق ستخلق مشاكل أكبر بكثير، بما في ذلك فتح الباب أمام منافستها التاريخية إيران. ولتجنب النتائج الأكثر ضرراً، يجب على المجتمع الدولي إدراك أن الصراع قد يمتد إلى ما هو أبعد من النفط. وعليه، فإن التدخل السريع والحذر والدبلوماسية أمور مطلوبة لمنع زعزعة الاستقرار الإقليمي المحتمل.
المصدر:فورين بوليسي